محمد باقي محمد ،قاص وروائي وناقد، صدرت له 6 مجموعات قصصية، ورواية بعنوان “فوضى الفصول”، ومجموعة أعمال قيد الطباعة.
مجلة أوراق العدد 13
الملف
- بدلاً من المقدّمة:
إذا..
هي ذي الشعوب إذ راحت تندرج في سياق الزمن، الذي سيُطلق عليه – اصطلاحاً، في ما بعد – اسم التأريخ، وتنأى شيئاً فشيئاً، عن مراحل طفولتها الطويلة، تلك التي ترافقت بمنظومة من الملاحم والحكايات الخرافية وحكايات البطولة وأساطير الآلهة، وتوارثتها شفاهاً بداية، نقول بأنّها إذ أبحرت في التأريخ حثيثاً، عمدت إلى كتابة تلك الحكايات خوفاً على تراثها من الضياع، مُؤسّسة لما سيُسمّيه “كارل غوستاف يونغ” بـ “اللاشعور الجمعي” (1) الذي يُحيلنا إلى عناصر تركيبيّة جمعيّة ذات طابع غير شخصيّ، بما يُفسّر لنا الحسّ البدائيّ القديم، ذاك الذي يطفو على السطح، ونحن نستحضر من الماضي البعيد شخصياته وعوالمه وطقوسه.
- في الملحمة:
والملحمة – موضوع قراءتنا هذه – قصة طويلة تروى شعراً، لتعكس فهم تلك الشعوب – أو تفسيرها – للمراحل المُتباينة التي تصرّمت عليها، وتؤرّخها، إذ أنّها تؤسّس من خلال الاشتغال على / أو الانشغال بالمعضلات الرئيسة التي أمضتها، والتي تكوّنت في رحم الحروب وجنون الطبيعة (2)، أجوبتها على قضايا الوجود، مثل قصة الخلق، أو ارتهان الإنسان لقطبي الولادة والموت، ومن ثمّ بحثه عن الخلود “جلجامش” مثالاً، أو تفسيرها لظواهر الطبيعة كالخصب أو الفيضانات أو الزلازل ، “الفينيقيّة”، وذلك في مرحلة موغلة في القدم، ما كانت البشرية فيها لتفرّق بين أحلامها ومشاعرها وواقعها بعد، وقد تنطوي على أساطير تشترك فيها الآلهة في رسم أقدار أبطالها.
في تلك الملاحم – وهي موضوع مُقاربتنا – سيُلاحظ المُتتبّع تدافع العناصر الإنسانيّة والطبيعيّة وفوق الطبيعيّة إلى الانخراط في لعبة تبادل وتحوّل هائلة، لكنّها دقيقة في تفاصيلها، لتشكّل – في المُجتبى – مجموعة كليّة من الحالات المُختلفة من وجود شعب ما، من غير أن تنطوي على خطوط فاصلة ودقيقة بمفاهيم الماضي والحاضر والمُستقبل (3)!
والأكراد كأحد تلك الشعوب – التي عاشت في ميزوبوتاميا * – تركوا لنا أساطير وملاحم وقصصاً غنائية عديدة تنتظم في مجموعة مُصنّفة ترتّب الحالات المُختلفة من وجودهم، وتستجلب صوراً عن خبراتهم في تفاعلها مع الواقع المعاش، حالهم في ذلك حال شعوب المنطقة، ولعل استحضار عناوين مثل حكاية “كاوا الحدّاد” أو “قلعة دمدم” أو “سيامند وخجي” أو “فرهاد شيرين” أو “ممّ وزين” – على سبيل التعداد لا الحصر – يُؤكّد ما ذهبنا إليه من أنّ لهذا الشعب – كغيره من الشعوب، ومنذ القديم – حكاياته وملاحمه وأساطيره!
وبنظرة مُستبصرة مُتأنية إلى مواضيع هذه الملاحم والقصص، سيُلاحظ الدارس المُتقصّي توزّعها على ملمحين رئيسيّين، فحكاية “كاوا الحداد” و”قلعة دمدم” تندرج تحت خانة الملاحم البطولية، تلك التي تتغنى ببطولات أولئك الناس في الذود عن أنفسهم، وانتصارهم الذي لا حدود له لقيم النبالة والفروسية، التي كانت سائدة آنذاك، فيما تندرج حكايات “ممّ وزين” و”سيامندو خجي” و”سيفا حاجي” في سياق ملاحم العشق الآسرة من جهة، والمُستحيلة – ربّما – بسبب من الظروف الموضوعيّة، التي لمّا تكن قد نضجت بعد لاستيعابها وقبولها آنئذٍ، لكنّها – أي تلك النظرة المُتفحصة – ستقف – من كلّ بدّ – على تجاوز تلك الملاحم لموضوعاتها الرئيسة إلى علاقاتها بالمُجتمعيّ والتاريخيّ وربّما بالكونيّ أيضاً، بشكل يُؤكّد ما ذهب إليه جورج لوكاتش من أنّ الملحمة “تعطي صورة كليّة عن الواقع الموضوعيّ” (4).
بيد أنّ الباحث في هذه الملاحم سيُلاحظ عليها افتراقها الجزئيّ عن التعريف الغربيّ، الذي يرى فيها شعراً قصصياً بطولياً قومياً، قد يأتي على أحداث خارقة إذا اقترنت بالأساطير، ويُعبّر عن فترة بدائية من الحضارة في مُجتمع يتسم بنظام الطبقات، وفي بلد لم يستقرّ قومياً بعد، والحكاية التي تسردها الملحمة حكاية خيالية، هي أشبه بالتاريخ الذي يمتزج بالأساطير، تتغنى بها وتتناقلها الشعوب البدائية، لتظهر فيها أخلاق المجتمع ونظمه وحياته السياسية وعقائده (5)، أمّا سبب هذا الافتراق أو التمايز فيعود إلى عوامل عدّة، منها أنّ انتقال تلك الملاحم من الأدب الشفاهي إلى الأدب المكتوب فرض عليها تقاليده بكلّ صرامتها وتراتبيتها، فأسقط عنها الأنساق الخاصة بالأدب الشفاهيّ!
- الدين والملحمة:
ثمّ أنّ العامل الدينيّ – الإسلام، مثالاً – لعب دوراً رئيسياً في إسقاط الكثير من عناصر الأسطرة عنها، لتنسجم وقراءته في المُجتمعات البشرية أو في الحياة والكون، وتنبو – بالتالي – عن تلك العناصر التي تنتمي – بحسبه – إلى الميثولوجيا الوثنية غالباً، حتى أنّ أندريا هويسلر يعتقد بأنّ “السير البطولية الشعبية تبدأ بوصفها أنشودة، أي قصيدة، تعاد روايتها، وتضاف إليها عناصر جديدة، وما الملحمة إلاّ صورة مُتأخّرة تحلّ في ظروف معيّنة محلّ الصيغة الأصلية الأقصر منها، ولكنّها لا تختلف عنها اختلافاً أساسياً” (6).
لقد تعرّضت الملاحم إلى تعديلات انبنت أساساً على تغيير أنطولوجيّ، تحوّلت بموجبه الملحمة من فنّ طبقيّ إلى فنّ شعبيّ، ممّا اقتضى – بالضرورة – تحوّلاً في دور المُنشد – الذي كان يوماً ما مُقرّباً من البلاط، يعرض ما يدور في أروقته – إلى مُنشد شعبيّ راح يبحث عن جمهوره في زحام الأسواق، ما يُفسّر الروايات المُتعدّدة للملحمة ذاتها.
- ممّ وزين:
وممّ وزين قصّة عشق عذبة، تتدخّل فيها الجان، إذ يحملون “زين” من سريرها، ليضعوها في سرير “ممّ”، حتى إذا أفاق لم يتيقن فيما إذا كان يحلم، أم أنّ ما تصادف حقيقة، لينشأ بينهما قصة حبّ غريبة وآسرة، غريبة لجهة أنّها تعبّر عن مجتمع يقوم على تمايز طبقيّ واضح، تمايز سيحول – في النهاية – بين الأحداث وخواتيمها الطبيعيّة في حالة العشق هذه، إذ إنّ التراتب الطبقيّ، ناهيك عن تدخّل العزال منع ارتباطهما، فـ “زين” أميرة، أي أنّها تنتمي إلى علية القوم، بينما يندرج “ممّ” في خانة العوام، فوالده كاتب ديوان لا أكثر، صحيح أنّ حصانه يخرج من عمق البحار، ما يعطي “ممّ” قوّة خارقة لا تُبارى، ولكن هل تسمح له أخلاقه أن يقاتل عائلة حبيبته، ليفوز بها؟! يتدخّل العزال إذاً لتفريق الحبيبين، فيخبرا شقيقها الأمير بقصّتهما، فيأمر بسجن “ممّ”، حتى تحضره المنيّة، من غير أن تنفع الوسائل كلها في إنقاذه، ثمّ إنّ الأميرة “زين” إذ تتفاجأ بموت حبيبها، تصاب باليأس والمرض، على نحو لا تنفع معه وصفات الأطباء أو النطاسين، ثمّ تحضرها الوفاة كمداً، فتوصي شقيقها خيراً بقومه، وتسلم روحها إلى الباري، هكذا يُتوفي البطلان بسبب العشق إذا جاز التعبير، ليُدفنا في لحد واحد، وعند قدمهما يرتمي قبر “بكو” العازل الأشهر الذي نمّ بقصة عشقهما، وتقول الحكاية إنّ الربيع راح ينبت من الزهور ألواناً، فيما لا تفارق الأشواك قبر عاذلهما!
- استنتاجات أوليّة:
تأسيساً على تلخيص الملحمة سنستنتج إلى أي مدى لم تكُ تلك البيئة لتقيم وزناً لنوازع أفرادها أو أحلامهم أو – حتى – حيواتهم، في حين كانت تولي الأهميّة – كل الأهمية كما أسلفنا – لرغبات القادة والأمراء، ولعلنا إذ نستعرضها نقع على شيء ممّا تقدّم، ذلك أنّنا سنقف بروايات عدّة، منها رواية الشاعر الكرديّ الشهير أحمدي خاني (7)، وهي أشهرها، أو الرواية التي جمعها الأمير جلادت بدرخان وروجيه ليسكو (8)، أو رواية الدكتور نور الدين ظاظا، علماً بأنّها روايات جدّ متقاربة، وتطلّ من خلالها عناصر أسطرة، ثمّ ترجمة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (9)، لنصّ الخانيّ، ناهيك عن ذكرها في مواقع مُتفرّقة من شعر الحريري (10)، ربّما لأنّنا – بشيء من التبصّر – سنضع أيدينا على تلك المفاصل التي يتطابق فيها المتن مع ما تقدّمَ من تعريف، فهي – أي هذه الروايات – تقوم أولاً على سرد أحداثها شعراً – نستثني منها ترجمة الدكتور البوطي، بما يتساوق وشروط الملحمة الرئيسيّة كشعر قصصيّ!
لقد تمكّن “تاج الدين” – الصديق الشخصيّ لـ “ممّ” ، وأحد قادة الأمارة – أن يُتوّج قصة حبه للأميرة “ستي”- شقيقة الأميرة “زين” – بنهاية طبيعية ، فتزوجّها، لكنّ إرادة الأمير “زين الدين” – وهو شقيق الأميرتين “ستي وزين” – وقفت حائلاً دون زواج الأميرة “زين” من “ممّ”، لا لشيء، اللهمّ إلاّ لأنّه ابن رئيس ديوان الأمير، أيّ لأنّه ينتمي إلى شريحة أخرى، لا ينبغي لها – تحت أيّ ظرف – أن تتطلع للاتصال بمن هم أعلى منها في سلم التراتب الاجتماعيّ.
لقد عمد الدكتور البوطيّ – ونحن نصرّ على التعامل مع روايته كنصّ مُستقل، ينتمي إلى نصّ الخاني بالتناص أكثر مّما ينتمي إليه بالترجمة، بعد أن عمد إلى حذف فصول من المتن، وإضافة فصول أخرى، ما أخرج النصّ من حقل الترجمة – لقد روى الدكتور البوطيّ ترجمته للنصّ على النحو التالي:
- “ممّ وزين” البوطي:
في عيد النوروز الذي يوافق الحادي والعشرين من آذار، يخرج الأكراد إلى الطبيعة في احتفال بهيج، يترافق بإشعال النيران على قمم الجبال، كانت الأرض تتزيّا بدثار من الخضرة، تتخللها أزهار من كل شكل ولون، ثمّ أنّ الناس – وبخاصة النساء – يلبسون أزهى الألوان، في ذلك العيد إذاً، كان “ممّ” حاضراً، شأنه في ذلك شأن الآخرين، وبمحض مصادفة وقعت عيناه على الأميرة “زين”، هي الأخرى رأته، ليقعا في حبّ بعضهما، أن يخطبها – مثلاً – لم يكن أمراً مُتاحاً، إذ أنّه ابن كاتب في ديوان الأمير، إلاّ أنّه تمكّن من لقائها غيرة مرّة بمساعدة صديقه تاج الدين، الذي تزوّج الأميرة “ستي” شقيقة “زين”، ذلك أنّه كان من عليّة القوم، إلاّ أنّ العزال يتزعمهم بكر أوصلوا قصة حبّهما إلى شقيقها، فأوعز بسجن “ممّ” ليموت في محبسه شوقاً وكمداً، ولمّا تسمع الأميرة “زين” يتوفّاها الله للسبب ذاته، لكن بعد أن توصي شقيقها خيراً برعيّته، أمّا تاج الدين فلقد عمد إلى قتل بكر، ثمّ تنفّذت وصية “زين”، فدفنت مع “ممّ” في قبر واحد، فيما دفن بكر عند قدميهما في قبر منفصل، لتنبت على قبرهما الزهور، ولتنبت الأشواك على قبر العاذل كلّ عام!
- استنتاجات تالية:
فإذا تفكّرنا في روايته سنلاحظ بأنّه عمد إلى إسقاط الكثير من عناصر الأسطرة عن روايته واضعاً في مقاصده إنتاج أدب إسلاميّ رفيع، كما جاء في مقدّمته، ليسأل الله التوفيق في الخواتيم، فيما يتشبه بالاعتذار، ربّما لأنّها المرة الأولى التي خاض فيها بعيداً عن الدين، وكان الخانيّ -كمتصوّف كبير – قد أغفل – بدوره – بعضاً من تلك العناصر، للأسباب ذاتها! حتى أنّه بتأثير من العامل الدينيّ غيّر أسماء جلّ الشخوص الواردة في المتن بأسماء إسلاميّة “زين الدين، تاج الدين.. إلخ”، فيما جاء نصّ الدكتور نور الدين ظاظا – على سبيل التمثيل لا الحصر – على تلك العناصر، فلقاء “ممّ” و”زين” – عند ظاظا – تمّ بتدخّل من قوى الجان، الذين حملوا الأميرة “زين” وهي نائمة، ووضعوها في سرير “ممّ” كما أسلفنا، وليس في عيد “النوروز” كما جاء في نصّ البوطيّ، وحصان “ممّ” يخرج من قاع البحر، فتجتمع عليه المدينة كلها لكي تعقله على بابها، لتلتقي النصوص في خواتيمها، فتترسّم الزهور والرياحين، التي تحيط بقبر “ممّ” و”زين” على مرّ السنين، أو تقف بالأشواك التي لا تبارح قبر “بكو عوان”، الذي دفن عند أقدامهما، بعد أن أقدم الأمير “تاج الدين” على قتله، ليُرافقهما في مماتهما، ذلك أنّه كان السبب في افتراقهما حيّين، وهذا ما يُؤكّد لنا بأنّ النصّ الأصليّ للملحمة جاء على حوادث خارقة، وتدخّل قوى فوق الطبيعية في أحداثها، بيد أنّ تلك الأحداث غابت في النصوص اللاحقة لما لحقها من تعديل، إن على صعيد الصياغة أو على صعيد المضمون، وذلك لأنّها على عناصر أسطرة واضحة، لكنّ انعدام الحفر المعرفيّ – لغير سبب – جعل عمليّة التتبّع – بهدف معرفة حجم التغيير الذي طال المتن – على درجة كبيرة من الصعوبة، إن لم تكن في حكم الاستحالة، بقي أن نشير – في هذا الجانب، حرصاً على الأمانة في طرح الموضوعة – إلى أنّنا – على الرغم من البحث المضني – لم نقع على إحدى الروايات التي انبرت لصياغة هذه الملحمة، كان الأستاذ جان دوست قد قام بصياغتها!
- بين الملحمة والواقع الموضوعيّ:
أمّا حتامَ استطاعت ملحمة “ممّ وزين” أن تعكس أخلاق أناسها وعاداتهم ونظمهم وعقائدهم، فلاشكّ في أنّ النصوص التي تصدّت لروايتها – على اختلافها – تمكنّت من أن تصوّر – إلى حدّ بعيد – حياة أولئك البشر في أوجهها المختلفات، بما يُمكّن الدارس من استخلاص طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم مثلاً، أو الوقوف على عادات هؤلاء البشر وطقوسهم في الأعياد والأعراس والمآتم أو المناسبات المختلفة، أو تقصّي مفهومهم للصداقة والحبّ والموت، أو حالة المرأة في المُجتمع الكرديّ، وذلك بالاتكاء على ثنائيّة الخير والشر في ثنايا النفس البشريّة، تلك الثنائيّة التي شكّلت – في المُجتبى – سدى العمل ولحمته، ذلك أنّ تنازع البشر – على اختلاف مواقعهم وأهوائهم وبالتالي مصالحهم – أسهم في إنارة الموضوعات المطروحة في النصّ بكافة أبعادها من جهة، “الصراع بين الأمير زين الدين وممّ على سبيل المثال”، ما أكسب المتن تصاعداً درامياً ضافياً، ولعل تلمس ذلك التوزّع يبدو أكثر وضوحاً عندما ينتقل الصراع إلى النفس البشريّة ذاتها التي تقوم على التقاء الأضداد أو تصارعها، تمزق الأمير “زين الدين” بين عاطفة الأخوة نحو شقيقته “زين”، وكبريائه الطبقي الذي يمنعه من تحقيق رغبتها في الاقتران “بممّ”!
وإذا كان د. نور الدين ظاظا قد أشار في تقديمه القيّم لنصّ “ممّ وزين” – استقاه من تلك المطولات الغنائية التي تناقلها الأكراد على مرّ العصور – إلى مسألة بالغة الأهمية، تجلت في ملاحظته للتشابه بين ملحمة “ممّ وزين” وقصة حبّ اسكندنافية، ما يذهب إلى أنّ الفكر البشريّ يكاد أن يتطابق في إطاره العام، أو في تشابه مفرداته في الحدّ الأدنى، فلا يسعنا – في هذا الجانب – إلاّ أن نؤمّن على فكرته تلك، من خلال الدعوة إلى استعادة قصة “قيس وليلى” و”سيامند وخجي” و”روميو وجولييت”، ذلك أنّ استعادة من هذا النوع ستضعنا أمام متون تتشابه في الفحوى والمبنى العام، وتختلف في التفاصيل الصغيرة، أي في ما ندعوه بخصوصيّة كلّ جماعة.
- الخاني والهم القوميّ:
أمّا التركيز على الهمّ القوميّ في نصّ الخاني، باعتباره النصّ الأكثر شهرة، ذلك التركيز الذي جاء في أغلب المباحث المعاصرة، التي انبرت لدراسة ملحمة “ممّ وزين”، فإننا نختلف معها بعض الاختلاف، ليس لجهة نفيه تماماً، وإنّما لجهة موقعه من النصّ، أو انسجامه في وحدة عضوية.
وبعودة متأنيّة إلى المتن سيلاحظ الدارس بأنّ الهمّ القومي عند الخاني جاء على لسانه في المقدمة، وذلك تحت إلحاف رغبته الشديدة في وضع كتاب خاص بالأكراد – أسوة بغيرهم من الشعوب – يتغنّون به، ويتباهون به أمام الأمم الأخرى.
لقد تصدى الخاني لانقسام الصف الكردي، ورأى فيه سبباً لمحنتهم، ولو قدّر لهم أن يتجاوزوه، إذاً لدان – لهم كما يرى – الآخرون بالطاعة، بيد أنّ متن “ممّ وزين” لم يأت على طبيعة العلاقة بين إمارة بوطان والإمارات الأخرى، ربّما بسبب من طبيعة الحكاية ذاتها، وحتى حين تطرّق الخاني إلى النصر الذي حققه تاج الدين على جيوش الأعداء، لم نعرف من هم هؤلاء الأعداء، ومن أين جاؤوا! ولمّا كان الخاني ينتمي إلى خواتيم المرحلة التي تمتع بها المسلمون – ككلّ- بمعرفة موسوعية، فلقد انقاد لطبيعة عصره، على حساب ما جاء في مقدّمته، وكتب ملحمته بكردية تتخللها – شعراً – العربية والفارسية والتركية، وذلك على غرار الجزيري وغيره من الشعراء الكبار الذين سبقوه في ذلك الإبّان، ولو أنّه كتبها باللغة الكردية الخالصة، إذاً لقدّم لتلك اللغة – من بعده – خدمة جلى.
وإذا كانت “ممّ وزين” تفترق جزئياً عن التعريف الغربيّ – على ألاّ يُفهم من السياق أنّ هذا التعريف جامع مانع، ذلك أنّ المُتتبّع لتعريفات الملحمة في الغرب سيقع على عدد كبير من التعريفات تصعب الإحاطة بها، ناهيك عن أنّ التعريفات الناجزة تصعب في العلوم الإنسانيّة والآداب والفنون على العكس من العلوم الوضعيّة – فإنّ تطبيق ذلك التعريف عليها، يُسقِط عليها أدوات من خارجها، وعندها نكون كمن يضع المتن على “سرير بروكست” * ليقدّها بحسبه، ذلك أنّنا قد نغفل عن جوانب خاصة بها، كأن نغفل عن تلك الروح الشاعرية الشرقية الآسرة التي ينضح بها النصّ.
- بدلاً عن الخاتمة:
نحن أمام بحث يتشبّه بالأبحاث الأنثروبولوجية – إذاً – ينقل لنا حياة قوم بأكملها، وكم كنا نتمنى التعرف على النصّ قبل وقوعه في براثن التحوير والإبدال والحذف والاصطفاء، ذلك أنّنا نزعم بأنّنا كنا سنقف على نصّ آخر، أكثر جمالاً، وأقدر على تصوير حياة شخوصه!
وبعد، فهذه مقاربة أولية لواحدة من أشهر الملاحم الكردية من موقع إثارة الأسئلة حولها، وذلك بما يتوخى إثراء النصّ موضوع المقاربة، ويخدم بالتالي قضية الأدب والفكر بآن، ما اقتضى التنويه!
الهوامش والإحالات:
1 – الحكاية الخرافية، فريدريش فون ديرلان، سلسلة الألف كتاب، القاهرة 1965.
2 – البطل الملحمي في روايات عبد الرحمن منيف، أحمد جاسم الحميدي، دمشق، دار الأهالي.
3 – الأسطورة والرواية، ميشيل زيرافا، ترجمة صبحي الحديدي، دار الحوار، اللاذقية 1985. ط 1
4 – الرواية والتاريخ، جورج لوكاتش، وزارة الثقافة، بغداد 1978.
5 – الألوان الكبر في الأدب الغربي، الدكتور بدر الدين القاسم الرفاعي، جامعة دمشق، محاضرات للعام الدراسي 1967 – 1968.
6 – الفن والمجتمع عبر التاريخ، أرنولد هاوزر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1981.
7 – أحمد خاني، أمير الشعراء الكرد، متصوّف كبير، استقرّ في دمشق، وأدخل إليها أول مطبعة كردية عام 1600.
8 – روجيه ليسكو، باحث فرنسي مهتم بالشؤون الكردية، أسهم مع الأمير جلادت بدرخان في الـ “ألف باء” الكردية.
9 – د. محمد سعيد رمضان البوطي، مدرّس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ترجم نص الخاني نثراً، دار الفكر في دمشق ط 5 – 1982.
10- الجزيري من كبار شعراء الكردية، له ديوان شهير باسمه.
الشروح والتوضيحات:
* ميزوبوتاميا: تسمية قديمة لبلاد ما بين النهرين وتشمل العراق وأجزاء من سورية.
* سرير بروكست: حكاية خيالية عن قاطع طريق كان يمدّد المارّين به على سرير، فإذا كانوا أقصر من منامته مط أطرافهم عنوة، وإذا كانوا أطول منها قطع أجزاء من أطرافهم، لتساوي طول السرير، وتطلق على من يتشبّث برأيه، رافضاً أيّ رأي يناقض رؤيته.