وائل السواح
كاتب سوري
مجلة أوراق العدد 12
الملف
جاءت الانتفاضة السورية بمثابة مفاجأة تامة لجميع السوريين: للحكومة والمعارضة وأيضاً للأفراد المبعثرين الذين بدأوا بها. في شباط/فبراير 2011، سألتني مدونة فرنسية عما إذا كان من الممكن أن تمتد آثار الثورتين التونسية والمصرية إلى سوريا. أجبت بثقة: “لا!” وأعطيت ستة أسباب لذلك، منها الحساسية الطائفية والوضع الاقتصادي في سوريا والصراع العربي الإسرائيلي. لكن السبب الأول والأهم كان الخوف. قلت إن درجة الخوف بين الشعب السوري كانت عالية لدرجة أن الناس لن يفكروا حتى مجرد التفكير في القيام بثورة. ولكم كنت مخطئا بغباء، فقد كسر الناس الخوف.
فاجأت الانتفاضةُ المعارضةَ السورية. على عكس معظم الدول، لم يكن لدى النظام والمعارضة في سوريا خلاف حقيقي في وجهات النظر السياسية. في الواقع، لقد تشارك الطرفان منذ فترة طويلة في الأيديولوجية نفسها وفي البرامج السياسية والخلفية الاجتماعية. تأتي معظم الأحزاب السياسية في سوريا من حزبين تقليديين: حزب البعث والحزب الشيوعي. من خلال الانقسام الخلوي، أنتج هذان الحزبان حوالي عشرة آخرين يتشاركون في نفس الآراء السياسية والأيديولوجية، لكنهم منقسمون بين الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة وبين المعارضة.
عندما اندلعت الانتفاضة، كانت المعارضة السورية تتسكع في الفناء الخلفي للمشهد السياسي. كان تحالف المعارضة الرئيسي، إعلان دمشق، يعاني من عدة مشاكل، أهمها القمع. ففي عام 2008، سُجن 12 من قادة الإعلان لمدة 30 شهراً، وعلقت الأحزاب القومية والماركسية عضويتهما وأنشطتهما في الإعلان. والأسوأ من ذلك، أنه عندما تم إطلاق سراح قادة الائتلاف في عام 2010، لم يستأنفوا مسؤولياتهم في التحالف. ولم تكن الأحزاب اليسارية القومية في وضع أفضل. عندما انسحب حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل من الائتلاف، بسبب عدم تمكنهم من الحصول على مقعد في قيادة التحالف، ألقى آخرون باللوم عليهم لتركهم المجموعة عندما كانت الحكومة تهاجمها، كما لو كانوا يفرون من سفينة تغرق. وكان الإخوان يعانون أيضاً من العديد من الصعوبات: لم يكن لديهم الكثير من المؤيدين داخل سوريا، بسبب القانون 49 سيء الذكر الذي كان يحكم على أي عضو في الجماعة بالإعدام. كما شوهت صورتهم عام 2008 عندما أعلنوا هدنة مع النظام السوري، بسبب الموقف السوري من الحرب الإسرائيلية على غزة في ذلك الوقت.
ومثل المعارضة، فوجئت الحكومة. في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال في 31 كانون الثاني/يناير 2011، قال الرئيس بشار الأسد إنّ الاحتجاجات في مصر وتونس واليمن لن تجد طريقها إلى بلاده، لأنّ مواقفه المناهضة لأمريكا والمواجهة لإسرائيل تجعله في وضع محصن، وهو على علاقة جيدة مع القواعد الشعبية في بلده.
على أنّ الأمور لم تسر على هذا النحو. في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير، بدأت مجموعة من الشبان والشابات الالتقاء في المقاهي والمنازل والأماكن العامة لطرح سؤال واحد: هل يمكننا فعل الشيء نفسه في سوريا؟ وجادلوا بأنّه إذا كان بإمكان التونسيين أن يثوروا في تونس، فلا يوجد سبب يمنع السوريين من فعل الشيء نفسه، لأنّه في كثير من الجوانب كانت تونس تشبه سوريا كدولة بوليسية.
فشلت الدعوات الأولى للاعتصام أمام مجلس النواب في 5 شباط/فبراير. ثم بدأ الشباب والشابات الشجعان في تنظيم اعتصامات مقابل السفارتين المصرية والليبية للتعبير عن تضامنهم مع الثورات في البلدين. إذا استطعنا أن نصدق إحدى الناشطات، فإن ما جعلها تستمر بحزم في الانتفاضة هو صفعة تلقتها من رجل أمن عندما كانت تتظاهر في السفارة الليبية ضد نظام القذافي. لكن الثورة لم تبدأ في دمشق. لقد بدأت في مكان آخر. في 6 آذار/مارس، اعتقلت قوات الأمن السورية وعذبت مجموعة من تلاميذ المدارس لقيامهم برش كتابات على الجدران في مدينة درعا تطالب بإسقاط النظام. وعندما رفضت قوات الأمن إطلاق سراحهم نزلت المدينة بأكملها إلى الشوارع. وردّ النظام بإطلاق النار على المتظاهرين وقتل عدداً منهم. انتشرت الشرارة إلى مدن وبلدات أخرى، بينما شاهد العالم كله مفاجأة.
انطلقت المظاهرات سلمياً، وشاركت فيها جميع الفئات الاجتماعية والثقافية والسياسية. كانت الشعارات عامة تطالب بالحرية والإصلاح الوطني. لكنّ المتظاهرين شعروا أنّ معركتهم لم تكن على الأرض فقط، بل في وسائل الإعلام أيضاً. وكانت الحكومة تدرك ذلك أيضاً، فقامت بطرد جميع وسائل الإعلام الأجنبية من البلاد، وصورت وسائل الإعلام الحكومية المتظاهرين كبلطجية طائفيين يريدون إثارة الفوضى وإقامة دولة إسلامية.
انطلاقا من حاجة المتظاهرين للتواصل مع وسائل الإعلام ظهرت ظاهرة جديدة على الأرض: التنسيقات، وهي كلمة تشير إلى مجموعات من الناشطين الشباب الذين يشاركون في المظاهرات، ويوثقونها بواسطة هواتفهم الجوالة، ثم يتواصلون مع وسائل الإعلام العربية والدولية لينقلوا لها الصورة كما جرت، وليس كما يقدمها لهم النظام. كانت هذه المجموعات الصغيرة من النشطاء المنتشرين في جميع أنحاء البلاد بحاجة إلى تنسيق جهودهم، وتبادل المعلومات، وإيجاد أفضل السبل للوصول إلى وسائل الإعلام. وكان أن اتحدت هذه التنسيقيات في إطار أوسع وأطلقوا على أنفسهم لجان التنسيق المحلية، والتي ستصبح لاعباً رئيسياً على الأرض وتساهم في تنظيم المظاهرات وتنسيق جهود النشطاء وتبادل المعلومات من خلال غرفة الأخبار التي أنشأوها على سكايب، ثم الوصول إلى وسائل الإعلام بالأخبار ومقاطع الفيديو وشهود العيان لرواية الأحداث على الأرض.
وجد نشطاء لجان التنسيق المحلية أنفسهم بدون آباء شرعيين بسبب نشاطهم السياسي. كان هذا مبرراً قوياً لهم لتطوير موقفهم السياسي الذي من شأنه أن يدعم الأنشطة الثورية ويحافظ على مطالبهم السياسية. مع البيان الأول للجنة التنسيق المحلية في نيسان/أبريل، ستدخل الحركة الثورية السورية مرحلة جديدة. يرسم البيان أجندة سياسية بسيطة تدعو إلى وقف القتل، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، وحل الأجهزة الأمنية سيئة السمعة، وإنشاء لجنة خاصة للمصالحة بين جميع مكونات الأمة السورية، وتعديل الدستور لضمان انتخابات حرة.
أذهل البيان الحكومة والمعارضة التقليدية: فاندفعت الأولى لإسكات المخلوق حديث الولادة من خلال حملة اعتقالات وتعذيب قاسية، بينما راحت الأخيرة العمل بجدية على تطوير برنامج سياسي يرافق التطورات الدراماتيكية. لكن لجان التنسيق المحلية ستجد نفسها في أكثر من مناسبة مضطرة لاتخاذ المزيد من الخطوات في أداء دور اللاعب السياسي بنفسها. الأول كان الحد من الدعوات هنا وهناك لتسليح الثورة أو السعي للتدخل الأجنبي. على الرغم من أن الثورة كانت سلمية في معظم الجوانب، إلا أنه كان هناك اتجاه خافت وقتها دعا لاستخدام العنف ضد قوات الأمن والشبيحة. وبسبب الخوف من أن يصبح هذا العنف طائفياً، كانت هناك حاجة ماسة إلى موقف مناهض للعنف، ووجدت لجان التنسيق المحلية نفسها مضطرة إلى تبني موقف سياسي يحذر من مثل هذا التهديد.
مثال آخر هو مسألة الحوار مع النظام. بدأ النظام في مقابلة أفراد من المعارضة ومحاولة معرفة ما إذا كانت هناك احتمالات لإجراء محادثات. انقسمت المعارضة حول الموضوع وبدأت في تبادل الاتهامات دون الدفاع عن آرائها. وكان على لجان التنسيق مرة أخرى أن تتدخل وتطور منظورها حول هذه القضية. في 15 أيار/مايو، أصدرت لجان التنسيق المحلية بياناً أوضحت فيه موقفها من الحوار مع الحكومة. وجاء في البيان أن “وقف الحل الأمني فوراً وبدء عملية سياسية أمر لا بد منه، بشرط استيفاء أربعة شروط: إنهاء القتل والعنف، وإطلاق سراح الأسرى، والسماح بالتظاهر السلمي، والسماح لوسائل الإعلام بتغطية الانتفاضة في سوريا”. وستصبح هذه الشروط الأربعة أرضية مشتركة لجميع مواقف مجموعات المعارضة المختلفة كلما تحدثت عن الحوار مع الحكومة.
في غضون ذلك، كان اللاعبون السياسيون التقليديون يتجادلون حول كل شيء تقريبًا: حوار أو لا حوار، إصلاح أو إسقاط النظام، معارضة داخلية مقابل معارضة في المنفى. في الوقت نفسه، كان المتظاهرون في الشوارع يتحركون في جميع الاتجاهات، وكانت الجماهير تفقد الآلاف من الأعضاء الناشطين الذين كانوا يتساقطون تحت رصاص قوات لنظام، بينما كان الآلاف يموتون في السجون وتحت التعذيب. كانت الجماهير تطالب بمظلة سياسية لصرف جزء من المسؤولية الثقيلة عن الشارع. كانت لجان التنسيق المحلية تعمل مع المعارضة السياسية لتوحيد جهودها حول خارطة طريق لفترة انتقالية. وكجزء من جهودهم، طورت لجان التنسيق المحلية “رؤيتها” (نُشرت في 11حزيران/يونيو). على المعارضة أن تعترف بأن رؤية لجان التنسيق المحلية لم تتم مطابقتها بعمق أو شمولية من قبل أي مجموعة معارضة أو حتى من قبل المعارضة ككل. شهدت رؤية لجان التنسيق المحلية طريقين للخروج من الأزمة: الأول تمثل بترتيب “تفاوضي سلمي للتحول نحو نظام ديمقراطي تعددي”، بينما يدفع الطريق الثاني البلاد “في نفق المجهول عبر المضي في خيار العنف ضد الاحتجاجات الشعبية السلمية، والتضحية بسورية من أجل بقاء نظام غير أخلاقي، لا يحترم نفسه ولا شعبه”.
وأوضحت اللجان في رؤيتها أن هذا الخيار الأخير إنما يحمل مخاطر التدويل والنزاعات الأهلية، محملة “النظام وحده” المسؤولية الكاملة عنه. وأوضحت أن الحراك الثوري لن يتوقف “بذريعة أن النظام لن يتوقف عن القتل والتخريب. لا يجوز أن يُكافأ المجنون على جنونه، وليس مقبولاً أن تبقى سورية رهينة بيد خاطفين غير مسؤولين إلى هذا الحد”. أما الخيار الأصلح والأسلم والأولى ببلد مثل سورية فهو بلا شك الخيار الأول القائم على أساس تفاوضي سلمي “يطوي صفحة نظام الحزب الواحد، والرئيس الذي تتجدد ولايته إلى الأبد، والحكم الوراثي، وحصانة الأجهزة الأمنية، واستخدام الدولة لحماية سارقي الشعب، والإعلام التحريضي الكاذب”.
وضع بيان اللجان الذي يتضمن رؤيتهم لمستقبل البلاد قوى المعارضة التقليدية بحرج كبير، لأن مجموعة من الشباب من غير ذوي الخبرة السياسية والتاريخ النضالي العريق تمكنت أن تجترح ما عجزت قوى المعارضة حتى الآن عن فعله.
تلقّت لجان التنسيق المحلية عدّة ضربات، كان أهمها وأشرسها من النظام. ولكن المعارضة أيضا وجهت لها ضربة بتهميشها ما إن بدأت بتشكيل هيئاتها المنظمة، بدءا بالمجلس الوطني ومن ثمّ الائتلاف ومؤتمر القاهرة وغيره. ولم تسلم اللجان من ضربات جاءت ممن أخذ اسم التنسيقيات وبدأ يشكل هيئات ثورية أخرى، بدأت تتلقى دعما من بعض الجهات الخارجية.
عموما، كانت لجان التنسيق تتمتع برؤية سياسية واضحة (ولن أقول صائبة لأن ذلك أمر سيحسمه التاريخ إن عدل)، ومصداقية على الأرض، وسلطة أخلاقية حتى على من امتشق السلاح، واستقلالية تامة. وهذه أمور ثلاثة تفتقر إليها هيئات المعارضة الرسمية الأخرى، التي يعوزها وضوح الرؤية والسلطة الأخلاقية، وليس لها مصداقية على الأرض حتى في المناطق التي تسيطر عليها، ناهيك طبعا عن انعدام الاستقلالية.
كان يمكن للجان التنسيق المحلية أن تتطور إلى قوة سياسية حقيقية وفاعلة، وأن تكون الممثل الحقيقي للسوريين المنتفضين، ولكن شراسة النظام وفجوره، من جهة، وانحطاط المعارضة، من جهة أخرى، جعلاها تفقد هذا الدور الذي لم يعوضه أحد أبدا فيما بعد.