فيصل دراج: “ساعات الأسر”: صحافة السلطة المسلّحة ومخلوقاتها الغريبة

0

يتسم المصري محمود الورداني بصفات ومناقب متعددة: كاتب قصة قصيرة استحقت الثناء والتكريم، أنجزها في ثلاثين عامًا وأكثر، وروائي مجتهد نشر الأولى منها عام 1985، والأخيرة هذا العام، وكاتب سياسي صادق القول، نظيف الذاكرة، تشهد عليه عشرة كتب تبدأ بموضوع الحرية، ولا تنتهي بمبدأ العدل الاجتماعي. وحّد بين الكتابة والفعل توحيدًا متكاملًا أقرب إلى الندرة.
بيد أن ما لا يخطئه النظر في مسار الورداني ماثل في اتساق أخلاقي ـ سياسي لا تبدّله المواسم، ولا يلتفت إلى المناسبات. أعطى حياته للضروري والصحيح، واكتفى بحضور متقشّف أقرب إلى الاعتزال، فلا هو من عبيد الشهرة، ولا من أنصار الصور الملوّنة. اختصر نظره في قاعدة: “إتقان العمل خير من إتقان الكلام”، تمتد في أخرى تعلن أن “معنى الثقافة من دفاعها عن العدل والحرية”، ومن مواجهتها لحاكمين يرتاحون إلى الظلم والظلام. لا غرابة في أن يكون الورداني اسمًا مألوفًا لدى “زوّار الفجر”، أي المخبرين، من مطلع سبعينيات القرن الماضي إلى رحيل مبارك، كما جاء في “سيرته الذاتية”.
نشر في العام الماضي (2021) كتابه: “الإمساك بالقمر.. فصول من سيرة زماننا”، تضمن سيرًا ثلاث: سيرة ذاتية حلقاتها المطاردة والسجن والإقصاء، وسيرة الثقافة الوطنية المصرية التي قاومت الاضطهاد والأوامر السلطوية، وسيرة قمع اليسار المصري في العقود التي تلت “انقلاب الضباط الأحرار” عام 1952، كما لو كان تدمير اليسار يضمن رخاء الشعب المصري.

تكاد أن تكون روايته الجديدة “ساعات الأسر” (ديوان، القاهرة، 2022، 188 صفحة) استكمالًا حكائيًا لما جاء في “سيرة زماننا”، فموضوعها الحرية والسلطة، حيث السلطة تكتسح وحدها كل شيء، ويتبقى خارجها “الناس يخوضون في أكوام القمامة في كل مكان؛ ص: 182″، يتنفّسون غبارًا خانقًا، ويشكون من “هزال أخلاقي” مهين. استعاض عن المثقفين الأخلاقيين المطاردين بصحافي انتهازي مفرد تهجّد في محراب السلطة، استعملته كما تشاء ولفظته خارجًا.
قامت الرواية على مفهوم: المفارقة، الذي يضع في كل فعل ضدّه، ووسّع المفارقة متكئًا على نخبة عسكرية أحادية الصوت صارمة القرار تشرف على صحيفة لا ترى غيرها، تساوي بين “الضبّاط” والفضيلة الخالصة، تنتظر من الصحافي انصياعًا شاملًا لا انزياح فيه. كما لو كانت السلطة والصحافي مرآة صقيلة تعكس تكامل القهر والانصياع، وتنفذ إلى قراريهما.
تصدر المفارقة، المحتشدة بمفارقات، عن سلطة تتوسّل الصحافة وتلغيها معًا، إذ لا صحافة إلا بمكاشفة ديمقراطية تنقد الخطأ، وتثني على الصواب، بعيدًا عن قهر سلطوي متعدد العيون يزجر الحقيقة ويرفع من شأن الصحافيين الكَذَبة، تعتنق صحافة النخبة المتسلّطة مبدأ التستّر والحجب والاختراع، تتستّر على ما يجب الكشف عنه، وتحجب ما يجب إظهاره، وتخترع حقائق لا وجود لها، وتوطّد الفضائل المخترعة بصور ملوّنة تزوّر المعيش والأرشيفي معًا، فإن مسّ الخبر مسؤولًا رفيع المقام ضاقت اللغة، وأوكل الصحافي المخترع الكلام إلى صورة مجهولة الزمن تقول ما عجز عن قوله. والصحافي المقصود شيء من الأشياء، لا قوام له، ولا ضمير، “يرقص كما شاءت له السلطة أن يرقص” بلغة الرواية، و”يرقّص ذاته”، كما تنتظر منه السلطة. بل إن دوره “ترقيص المعارضين حتى لا يهدأ لهم بال”، فهم مجموعة من “الخونة والإرهابيين”، وإشعارهم “أنهم في مرمى المسؤولين القادرين على التنكيل بهم وقتما يريدون…”.
يتعيّن الصحافي السلطوي، كما رسمه الورداني بسخرية نافذة، بانصياعه، فمرجعه “الضبّاط” الذين يحرسونه، وخيره من فساده المسكوت عنه. ولهذا لا يلتقي الصحافي “المدّاح” الأنثى التي يعشقها إلا بإذن من مرجعه العسكري، ولا يفكر بالزواج منها إلا بموافقة من أكثر من مسؤول، ولا يستضيفها في فراشه إلا بعد استشارة و”جسّ نبض”. بل إنه يزور عمتّه الوحيدة، مصحوبًا “بنقيب” ـ وهو رتبة عسكرية، ولا يشارك في جنازتها إلا بشفاعة عسكري آخر، ولن يعثر على قبرها إلا بفضل مسؤولية الكبار. إن لا معقول معيش الصحافي المرعوب من لا معقول الرعب الذي يحيط به، يزداد ويتكثّف كلما علا مرتبة، يتاخم الأسر والاعتقال، ويحوّل ساعات الصحافي السلطوي المرموق إلى “ساعات من الأسر” المؤجل الانفراج. لكأن السلطة المستبدة تعتقل المتمتّع بسخائها، فإنْ سقط في خطأ سلبته كل ما يملك.
لا وجود للمفارقة الساخرة، تعريفًا، إلا بمبالغة تترجمها، رفعها الورداني إلى حدودها العليا، إذ كلام المديح يعطّل الكلام، والمدّاح المرعوب والسعيد معًا كاريكاتور بشري، أو أقل منه، تفتنه هيبة العسكريين، الكبار والصغار معًا، يستمد من كلامهم فرحه وحزنه، بل إن “مؤخرة سكرتيرة “السيد اللواء” أجمل مؤخرة رآها في حياته” تصقل ملاحظاته، أي اللواء، الخبرة الصحافية وتعيّنه صحافيًا فوق الصحافيين، ولا يضع فوق عينيه من النظارات إلا “الماركات الشهيرة”. كلما أوغل الصحافي المتكسّب في تعظيم مسؤوليه انمحى وجوده: “مجرد أن أكون على البال يكفيني”، وانتقل من النثر الصحافي إلى البذاءة المحترفة: “أنا أعرف طريقي جيدًا… سأستخدم أوسخ الشتائم… سأردح وأجعّر، فهؤلاء العملاء يستحقون: فأنا سالم فرّاج. وسالم لأنني في حماية القيادة العامة؛ ص:34”. وهو سالم لأنه “نفّذ” بدقة وحرفية “تعليمات الرائد، فامتشق الحسام ونزل إلى “الميدان” بسلسلة من الافتتاحيات النارية تحت عنوان: “حياتي فداء للوطن. أو دمي فداء للوطن… لا… لا داعي للدم الآن. وسيجيء وقت الدم في ما بعد!”. صورة سالم، الذي لن يخرج سالمًا، من صورة الذين اختاروه رئيس تحرير لصحيفة: “بناء الوطن”، صفر في الأخلاق لا يعرف الفرق بين الوهم والحقيقة.

تُستهل الرواية بالسطور التالية: “كان هو المسؤول عن تأميني، وفقًا لقرارات لجنة القيادة العامة، في أعقاب بيان تنظيم الأنصار بالتهديد بقتلي، وهو ما عده طبعًا وسامًا على صدري، وشهادة على مدى خطورتي، وتأثيري فيهم”. استهلال يضيء وظائف الصحافة المتسلطة: اختراع أعداء الوطن الذي يسوّغ ترويع المجتمع، وكذب النخبة الحاكمة التي تختار صحافيًا كاذبًا، يسوّغ كذبهُ فساده وسرقاته. أخذ الصحافي السارد موقع المتحدّث بصيغة الأنا، تنتقل من لسانه إلى فكره، ومن بوحه المطمئن في الحاضر إلى ما كانه في الماضي، فهو من أصل فقير مبتذل التربية، أصهَر إلى صحافي أفّاق اعتاش على أرشيف مسروق، علّمه صهره “اللّغوَصة الصحافية”، بلغة الورداني، والمزج بين المعرفة و”التشاطر المهني” وصولًا إلى وهم محسوب، يفاخر بقدراته الفائقة، ويتمسّك بأوامر الذين “يؤمّنونه” تمسّك المؤمن التقي بكتاب مقدس، ينظر إلى الأعالي، ويغوص راضيًا في حضيض لا نهاية له.
صحافي السلطة معطوب بالمعنى الإشاري، يشكو من ألم في الرقبة، يظلع في مشيته بعد أن عقرت ساقه “ذئاب منفردة”، وحاصرته “ضباع” في عمله، تنهشه ولا تنافسه، يصدّ العدوانيْن ” بافتتاحات ملتهبة”، و”بأسلوب حرّاق” يعجز عنه غيره من الانتهازيين، وبانحناء غير مشروط أمام “كبار الضباط” أرهق رقبته. شعاره وهو يدافع عن الوطن: حي على الكفاح، حي على السلاح، مسبغًا بوهمه المحسوب على الكفاح والسلاح ابتذالًا كريه اللون والرائحة.
يقتات الصحافي، الذي أفقده المنصب “المزوّر” المحاكمة السليمة، بذلّه اليومي وبمجانية اللغة وحلاوة الأسماء: فهو سالم الذي ينزف سلامته يومًا بعد يوم، وزوجته “أحلام” حوّلت حياته إلى جحيم، وسكرتيرته رجاء يتحدث معها بحذر وحيطة، وابنته غادة التي لا يحبها بعيدة عنه، وأنثاه المعشوقة تبدأ كلامها دائمًا: “أحيّه. خلِّ بالك يا راجل”. الأسماء الوحيدة المتحقّقة بلا تحوير هي أسماء الضباط في القيادة العامة، التي غطّته بالحماية في أيام السعد، وانتزعتها منه في أيام الإقصاء المهين.
الصحافي، الذي بدا في النهاية آلة معطّلة “يستعيض عن ساقه المعقورة بساق جديدة بخسة الثمن”، لا يتحرّر من الوهم إلا بعد إغفاله ونسيانه وتجاهله، كأنه لم يكن. لكن تحرّره مشتق من وهمه الفقير، يفقد عقله، ويطلق النار على الذين يقابلهم في “بناء الوطن” معلنًا، بهذيان، أنه ضامن البناء، وأن حماية الوطن من ديمومة الفاسدين الكَذَبة.
قدّم الورداني نصًا روائيًا طليق الكتابة، نصًا يواجه زمانه، يبدأ من الراهن المتحوّل ويرد عليه ويندّد به، متابعًا منظورًا أخذ به في روايات سابقة: الروض العاطر، أوان القطاف، موسيقى المول، البحث عن دنيا رباب الخفية…. أكد أن الرواية تحاور زمنها، تسائله، وتترك الإجابة معلقة في الفضاء، وأن تغيّر المجتمعات يقضي بالتخلي عن أشكال روائية سابقة، وبإبداع روائي جديد. مزج، كعادته، بين الجد والهزل، والسياسة والثقافة والتاريخ وعلم الاجتماع، ولغة النثر الأنيق وأنقاض اللغة السلطوية، وبين عفوية السارد ولمحات المؤرخ الحصيف.

“ضفة ثالثة”