قاد عنف الحرب الكاتبات السوريّات إلى مضمار روايات الحروب؛ ليعدن صياغة التجارب المؤلمة للنساء من خلالها، فالثورة السوريّة كسرت جدار الخوف لدى الرجال والنساء في آنٍ معًا، لتشرع النساء بكتابة قصصهنّ الخاصة التي تعكس وعيهنّ بأنّ حياتهنّ قد بدأت تتغيّر بفعلِ الحرب، وأنّ العالم الذي كنَّ يحيينَ فيه قبل الحرب قد أخذ يتهاوى.
حاولت بعض الروائيّات السوريّات وضع تصوّرٍ للحرب التي زحفت لتطول تفاصيل حياتهنّ كلّها، وعلى الرّغم من أنّ تناولهنّ للحرب لا يتّسم بالشموليّة؛ فإنهنّ أظهرن وعيًا فائقًا بخطورة الحدث، من خلال تركيزهنّ على الفرد الذي تظهر من خلاله ومن خلال معاناته الخاصّة لا أخلاقيّة الحرب.
في رواية “قميص الليل” للروائية السورية سوسن حسن تسرد الكاتبة أحداث يوم كامل في مدينة اللاذقية السورية، يبدأ بموت “جيغا”، وينتهي بالخلاف على دفنه؛ “جيغا” الذي ينتمي إلى فئة المهمّشين، يعيش في حي “الخرنوبة” منذ زمن بعيد، لا يعرف أحد في الحيّ أصله، ولا طائفته أو دينه، يعرفون فقط أن “بطحة العرق” لا تفارقه، وما خلا ذلك مجهولٌ بالنسبة إليهم.
ترصد سوسن حسن ملامح الترقب والحذر التي طغت على المجتمع السوري في بداية الثورة؛ حذرٌ وترقّبٌ تزامن مع دوي الرصاص وأصوات القصف والانفجارات المتلاحقة، وبينما انصرف تجّار الحرب والأزمات إلى تكديس غنائمهم وإحصاء مكاسبهم، واصل الموت حصد الأرواح البريئة؛ ومنهم “حسبي” الذي استغل موت “جيغا” وانشغال الناس بتفاصيل جنازته ودفنه، فأغلق بابه وأخذ يحصي أمواله التي جمعها من بيع المسروقات أو الأسلحة لسكان الحيّ الذي يحشد كلّ طرف فيه السلاح خوفًا من غدر الطرف الآخر.
في المقابل نجد في الرواية شخصيّة “حياة” التي ترجح كفّة الأخلاق لديها على الانتماء الطائفي؛ وهي كاتبة تجد نفسها على حين غرّة في قلب الفاجعة، ويحتّم عليها الوعي الذي تمتلكه والذي دفعها فيما مضى إلى الزواج من حمدي الذي ينتمي لطائفة أخرى، أن تختار موقفاً واضحاً ممّا يحصل، وسرعان ما تتخذ قرارها وتنحاز للشعب الثائر ضدّ الطغيان؛ إلّا أن وقوفها ضد النظام لا يخفّف من حدّة الاتهامات الموجهة إليها بسبب انتمائها إلى الطائفة العلوية، طائفة النظام الحاكم، ولا من موجة التخوين التي طالتها من أقارب زوجها الذي ينحدر من طائفة أخرى.
طائفية ونسيج مجتمعي هشّ
تلجأ الكاتبة إلى الحديث عن الطائفيّة بشكلٍ مباشر ومن دون مواربة؛ تسوق في روايتها نقاشاتٍ كثيرة دارت بين السوريين في كل جلسة جمعتهم في بداية الثورة؛ لتكشف الكاتبة من خلال تلك النقاشات النسيج الاجتماعي المهلهل للسوريين وسرعة تفكّكه، وكيف استطاع الإعلام الموجه والمركّز أن يلعب دورًا كبيرًا في عمليّة التمزيق تلك، فأصبح من الطبيعيّ أن تسمع في أحاديث الجميع مفردات مثل: “نحن” و “هم” بعد أن عاش أهل الحيّ جميعًا بجوار بعضهم بعضًا من دون أي تمايزات.
تتداخل الأزمنة مع تداخل الذكريات، تصف الكاتبة كيف عاش الشعب السوري خلال أربعين عاماً، في جو من الخوف، والوسائل التي لجأت السلطة الحاكمة إليها لتطويعه وتدجينه؛ ليبرز وعيها الوطنيّ بوضوح من خلال قرارها كتابة رواية عن موت “جيغا” هذه الشخصية التي تهدف من خلالها إلى إيجاد رمزٍ جامعٍ لأهل الحي.
تتعمّد “حياة” النبش في ماضي “جيغا” بشكل دقيق، من خلال زيارتها لبعض أقاربها بغية السؤال عنه؛ إلّا أنّ أسئلتها تلك تقودها إلى متاهات أخرى، تغرق في تداعياتها، تعود بعد بضع زيارات إلى “حي الخرنوبة” في نهاية اليوم، لتجد الجثة قد أصبحت مصدر خلافٍ وجدالٍ بين أهل الحيّ، وما كان حبيسًا في الصدور يُطلق العنان له ليخرج إلى الوجود، الأحقاد المتراكمة خلال فترة الحراك السوري ستظهر للعلن، كل طائفة ستتبرأ من انتماء “جيغا” لها، يتحول القتال على دفن الجثة إلى قتال على الوطن، هذا يقول “ثورة” وذاك يصرّ على أنها “مؤامرة” تستهدف البلد وأمنه، تظهر العداوات وتُكال التهم، وتنضح الكراهية من العيون.
لقد مات “جيغا”! وبموته ربّما تلاشت آخر الروابط التي كانت تجمع بين أهل “حيّ الخرنوبة”.
الوعي الوطني في الثورة
يتجلّى الوعي الوطنيّ في قميص الليل أيضًا من خلال حديث الكاتبة عن خلخلة الثورة للبيئة الاجتماعيّة ولكثيرٍ من المفاهيم الرّاسخة ومنها الوطنيّة؛ فالثورة فجّرت الوعي لدى كثيرٍ من السوريين ومنهم بطلة الرواية، وكشفت لها مدى هشاشة العاطفة الوطنيّة من خلال عتابها لوالدها وتربيته لهم على تقديس الوطن:
“أشعرُ بحنينٍ إليكَ يا والدي، هل تحوم روحك اليوم في فضاء هذه المدينة التي عشقتها وعشقت وطنك كلّه معه؟ هل ترفرف بأساها ووجعها فوق هذه المدينة التي حكيت لنا حكايات البطولة التي كنت تنطلقُ منها! لماذا يا أبي؟ لماذا زرعتَ في أعماقنا بذور الوطنيّة والقوميّة التي لم تعد صالحة لتنمو في تربة هذا الوطن اليوم؟ لماذا كنتَ مُصرًّا على تعليمنا الأناشيد التي كنتم تردّدونها وأنتم تحملون الحجارة في حقائبكم والأمل في خواطركم والعزيمة في صدوركم، لماذا هذه الكذبة الكبيرة؟”.
كما تظهر هشاشة العاطفة الوطنيّة حين تطرّقت الكاتبة إلى انهيار نصب القيم التي آمنت بها وناضلت من أجلها مع زوجها حمدي، وكيف استطاعت الزواج منه بعد استنكار عائلتها ورفض المجتمع المحيط ارتباطها برجلٍ لا ينتمي إلى طائفتهم؛ بالرّغم من ادّعاءات العلمانيّة في عائلتها التي لا تخلط بين الدين والسياسة، والتأسيس لها في مجتمعٍ يحكم مفاصل الحياة فيه نظامٌ يدّعي العلمانيّة، لم يكن سهلًا ارتباطها بحمدي في زمن كانت الطائفيّة فيه تنتعش في الظلّ كما الطحالب والأشنيّات على حدّ تعبير الكاتبة، في وقتٍ ظنّ الجميع فيه أنّها قد أوشكت على الانقراض، ترسم الكاتبة مشهدًا مؤلمًا لطفلها حين يزور والده في السجن، ثمّ يشرع بإنشاد نشيد البعث والنظام الذي اعتقل والده: “وأخذ نوّار ينشد: للبعث يا طلائع.. للنصر يا طلائع، وسطَ ذهول جدّه وانسحاق والده تحت رحمة عذاباتٍ لا يمكن شرحها، خاصّةً عندما أنهى نشيده بالعبارة اللازمة: بالروح بالدمّ نفديك يا حافظ.. لا أستطيعُ وصف الحالة التي أدخلنا نوّار فيها، لكنّني لا أنسى تلك النظرة الظافرة في عيني العسكريّ الواقف بيننا في الغرفة، كان وجودُهُ أساسيًّا بيننا مثل عدّادٍ آليّ يُحصي علينا أنفاسنا وكلماتنا، وكانت صورةُ القائد تتسيّد الجدار المقابل، بل تتسيّد المكان كلّه، كما تتسيّد أمكنتنا”.
الدور السلبي للمثقفين
تدين الكاتبة موقف النخبة من المثقّفين اليساريين من أبناء طائفتها الذين لم يستطع وعيهم أن يبعدهم عن السقوط في فخّ تفكير مجتمعهم الذي بات مؤمنًا أنّهم مستهدفون كطائفة، وتصف ألمها من تنصّلهم من مسؤوليّتهم الأخلاقيّة تجاه الشعب، وأنّهم يفكّرون بمنطق العامّة الذين ضلّلهم النظام وإعلامه بشائعاتٍ باتوا يردّدونها كما يفعل العامّة.
إنّ هذا الوعي الذي بلورته الكاتبة من خلال روايتها والذي جعلها تفهم الواقع والمعطيات التي تقف خلفه، من خلال علاقتها بـ “حمدي” وزواجها منه، ووعيها الذي جعلها تحلّل ما يحدث وتردّه إلى أسبابه الحقيقيّة التي ترتكز على الطائفيّة إلى حدّ كبير؛ هذا الوعي تنضجه الأحداث وتبرزه، لتصل إلى نتيجة مفادها أنّ غياب الوعي والقدرة على الحوار بين أفراد المجتمع؛ كانا السبب الرئيس في انفصالها عن “حمدي” الذي أحبّته وآمنت بأفكاره، وهما ذاتهما السبب فيما يحصل من أحداث دامية على الأرض السوريّة.
عندما تعجز “حياة” عن احتمال فظائع الحرب وحرمانها من ابنها بعد انفصالها عن زوجها وقرار والده أن ابنه بحاجة إليه بعد أن كبر بحجّة أنّها قد قامت بمهمّتها وقد أتى دوره، تحاول البحث عن طوق نجاة يستطيع وعيها أن يلوذ به، فتلجأ إلى الكتابة:
“أريدُ أن أحكي بلا قيود، من دون أن أخاف شيئًا، يكفيني العمر الذي عشته مع الخوف ولم أُشفَ منه بعد. أريد للساني أن ينطلق من صدري وليس من فمي ويحرّك الهواء بالأحرف اللازمة ليقول الكلمات التي يريدها، وليست حريّة الكلام ما أبغي فقط، بل أريد أن آخذ حقّي من العدالة فأتكلّم بحجم حصّتي من الكلام عن العمر الفائت، من دون أن يسكتني أحد، لقد تعبتُ من مواربة الكلام حتّى بيني وبين نفسي”.
*تلفزيون سوريا