قد تبدو محاولة الإحاطة بالتجربة الإبداعيّة للفنان التشكيليّ والقاصّ والشّاعر فاتح المدرّس شاقّة للوهلة الأولى؛ إذ يُعدّ المدرّس من أبرز وأهمّ التشكيليين السوريين في القرن العشرين، وأوّل من أسّس للتجريديّة في سورية، كما أنّه فنّانٌ له تجربته الفنيّة الخاصّة والمتشعّبة؛ تجربةٌ اتّسمت بالتمرّد والعبقريّة في فنّه التشكيليّ وكتاباته القصصيّة والشّعرية والنقديّة، كما أنّ عالمه الإبداعيّ والإنسانيّ غنيٌّ ومتنوّع، وبين الرّسم والقصّ والشعر والموسيقا، تطالعنا فلسفته الإنسانيّة العميقة، فقد عايش المدرّس هموم الإنسان وأخلص لها، وصوّرها بأسلوبه، ومارس نزعته التهكّمية بألوانه وكلماته ورموزه.
فاتح المدرّس 1922ـ 1999
ولد فاتح المدرِّس في قرية “حريتان” شمالي سوريا عام 1922م لأبٍ إقطاعيّ من مدينة حلب وأمّ كرديّة من إحدى قرى الريف، قُتل والده في الثانية من عمره، واستولى أعمامه على ميراثه، فنشأ فقيرًا في رعاية أخواله، وعاش حياة قاسية متنقلًّا مع أمّه في قرى الشمال.
غادر الريف الشماليّ في الثامنة من عمره، ليقيم عند أعمامه في حيّ الفرافرة بحلب، وهو حيّ يضم مجموعةً من العائلات الغنيّة، وعندما تمّ تخييره بينهم وبين أمّه، فضّل الإقامة مع والدته في أحد البيوتات البسيطة في حي باب النصر، لتبقى صورة شقاء أمه ماثلةً في ذهنه طوال عمره، وقد عبَّر عنها لاحقًا في صورة المرأة المعذّبة التي ظهرت في كثيرٍ من أعماله الفنية، وانتشرت في أرجاء العالم كلّه.
الدراسة والعمل والفن
تلقّى المدرّس تعليمه في مدارس حلب، وظهرت موهبته في فن الرسم في وقتٍ مبكّر، وفي العام 1950 أقام معرضه الأول في نادي اللواء بحلب، فتوجّهت الأنظار إليه، وتمّ إرساله في بعثةٍ إلى روما عام 1957 لينال إجازةً في فن الرسم من أكاديميّة الفنون الجميلة العليا عام 1960 ثم إلى فرنسا عام 1971 للدراسة في المعهد الوطني العالي للفنون الجميلة في باريس.
حظيت المعارض التي أقامها المدرّس أو شارك فيها بنجاحٍ منقطع النّظير، وحصد كثيرًا من الأوسمة والجوائز من فلوريدا في أمريكا إلى روما وسان باولو، وصولًا إلى عاصمة بلده دمشق، وقد دخلت لوحاته معظم متاحف الفن الحديث في العالم، وما من متحف يُعنى بالفن العربي المعاصر إلّا واحتوى إحدى لوحات المدرّس الذي أصبح واحدًا من أشهر الرّسامين العرب في الرّبع الأخير من القرن العشرين؛ إن لم يكن الأشهر بينهم على الإطلاق.
وإلى جانب محترَف الرسم الذي أقامه في العاصمة دمشق، عمل المدرّس أستاذًا بكليّة الفنون الجميلة في دمشق، وانتُخب عضوًا في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية ورئيسًا لنقابة الفنانين، كما أنّه أحد الأعضاء المؤسّسين لاتّحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعضوٌ في اتحاد الكتَّاب العرب.
مواهب إبداعيّة متعدّدة
بالإضافة إلى لوحاته ترك المدرّس لنا عددًا كبيرًا من الكتابات؛ منها مجموعة قصصيّة بعنوان (عود النعنع) عكست العلاقة بين أسلوب الأديب وكلمته المرصوفة في مكانها بشكل جميل، وبين اللون والحسّ الفنيّ الذي يشعر به المصوّر؛ إذ يدمج المدرّس في مجموعته القصصيّة بين التصوير والأدب، كما شارك عام 1962 مع محمود دعدوش وعبد العزيز علون بنشر أول بيان فنيّ في الفلسفة الجمالية للفنّ العربي.
وعن المواهب الإبداعيّة المتعدّدة للمدرّس يقول عبد الهادي الشّماع: “فاتح المدرّس كائنٌ شموليّ، فقد كان قاصًّا وشاعرًا وفيلسوفًا ورسّامًا، وهو ذو أسلوب ساخر عميق (الكوميديا السوداء) في القصّ، والذي تلوّن بألوانه كلوحاته التي رسمها، أما المدرّس الشاعر؛ فقد أسس لما يُسمى باللوحة التي تتضمّن شعرًا والتي اعتمدها فنانون كبار فيما بعد مثل: عمر حمدي، ويوسف عبد لكي“.
كما نذكر له مؤلّفاتٍ أخرى منها: دراسات في النقد الفني المعاصر، وتاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفنون ونظرياته عام 600 ق.م. وفي سنة 1962 نُشرت له أوّل قصيدةٍ في مجلة (القيثارة) الصادرة في مدينة اللّاذقية بعنوان “الأميرة”، وترى سمر حمارنة في دراسةٍ لها عن المدرّس: “إن بعضًا من شعر المدرّس يعكس عالمه الفلسفي، فدقّة استخدامه للكلمة هي تعبيرٌ عن فلسفةٍ عميقة وترجمة فكرية لحياة مادية ما”، ويهدف المدرّس في أشعاره إلى التحرّر من القيم التقليديّة للجمال، وقد قام موقع (جهة الشعر) الذي يرأس تحريره الشاعر البحريني قاسم حداد، بنشر مجموعة من قصائد المدرّس المنسيّة.
وقد سعت شخصيّاتٌ عديدة إلى اقتناء لوحاته؛ كالدكتور “فالترشيل” رئيس جمهوريّة ألمانيا الاتّحاديّة، و”جاك شيراك” حين كان رئيسًا لوزراء فرنسا، و“جان بول سارتر” الذي وصف أعمال فاتح بأنّها تتراوح بين التجريد والرّصانة ووجود الطبيعة كما نراها في الحلم، وقد قام سارتر بترجمة قصائد لفاتح من الايطاليّة إلى الفرنسية، كما اقتنى عددًا من لوحاته.
علاقته بالسّلطة
وعن علاقته بالسلطة يُذكر أنّه بدعوةٍ من نقابة الفنون الجميلة السوريّة 1986 حضر إلى دمشق “ستويان ستويانوف” رئيس اتّحاد الفنانين التشكيليين في بلغاريا ومعه لوحة فنيّة كهديّة ديبلوماسيّة، ليهديها من حكومته لحافظ الأسد، وقد تمّ تحديد موعد اللقاء في القصر الساعة الواحدة ظهرًا، وحضر الفنّان البلغاري وفاتح المدرّس بوصفه نقيب الفنانين في ذلك الوقت، وبعض أعضاء مجلس إدارة النقابة.
وبعد انتظارٍ طويلٍ قام فاتح المدرّس وقال: “أنا تأخرت ولازم روح عندي شغل”. وبالرّغم من محاولات ثنيه عن الذهاب، إلّا أنّه لم يُصغِ وغادر، ويُذكر أن “ستويانوف” قال يومها لأحدهم: “حافظ لم يخسر شيء، بالنسبة له فاتح لا شيء، وكذلك الأمر بالنسبة لفاتح، لا يعنيه حافظ بشيء، ولكنّ النقابة التي يمثّلها فاتح خسرت كلّ شيء”.
وعن علاقة فاتح بالسياسة تحدّث عمر أميرلاي الذي أخرج مع آخرين فيلمًا عن المدرّس أواخر التسعينات: “نحن في بلدٍ مفخّخٍ بالسياسة، لذلك يمكن أن يخطئ واحدٌ مثل فاتح ويظنّ أنّه من موقعٍ معيّن يمكنه أن يُصلح شيئًا”.
وحديثه هذا يشير إلى مسألتين؛ الأولى تتعلّق بشغل المدرّس منصب نقيب الفنّانين في سورية لسنوات، والثانية تتعلّق بقيام المدرّس برسم لوحاتٍ لوزارة الداخليّة ومشروعٍ جمع فيه عدّة تشكيليين آخرين لرسم لوحاتٍ تُوضع في مؤسّساتٍ رسميّة لتجميلها.
أهمّ الجوائز
ـ الجائزة الأولى لأكاديميّة روما 1960.
ـ الميداليّة الذهبيّة لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962.
ـ جائزة شرف بينالي سان باولو 1963.
ـ الشّراع الذهبي للفنّانين العرب في الكويت 1977
ـ جائزة الدولة للفنون الجميلة في دمشق 1986.
ـ جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992.
ـ وسام الاستحقاق السوري 2005.
تزوير أعمال فاتح المدرّس
اشتكى فادي المدرّس من استباحة تراث والده فاتح، وتزييف أعماله في بيروت وبيعها على أنّها أصلية، ويرى أنّ المصيبة لا تكمن في السّرقة فقط، بل هناك تشويهٌ بشعٌ لمسيرة فاتح المدرّس وأسلوبه السّهل الممتنع والذي يدفع كثيرٌ من المقلّدين إلى الاعتقاد بأنّ تقليد أعمال المدرس مهمّة بسيطة.
كما أضاف حين سُئل إذا كان يفكّر بمقاضاة من يزيّف ويشوّه أعمال ومسيرة والده: “للأسف ليست هناك قوانين واضحة للحماية الفكرية، والّلصوص مثل الأعشاب الضّارة من الصّعب على شخص واحد أو بضعة أشخاص معالجة هذه المشكلة، وثمّة أمرٌ آخر أنّه لا أحد يساعدك في ذلك خوفًا من العداوة، أو مثلما يقولون: “ما بدنا نزعّل حدا”.
عالمه الفنيّ:
اختزل المدرّس حقبةً طويلةً من التجربة اللونيّة والثقافية، ليصبح علامة فارقة في الفن الحديث، فقد رسم التاريخ، ونتاجه يكاد يكون نتاجًا جغرافيًّا في جزءٍ كبيرٍ منه كما صرّح في بعض المرّات؛ مكوّناً حالة نادرة من الفرادة والتميّز، تستوجب التوقّف عندها وتأمّلها طويلًا، فهناك سعادة وحيويّة روحيّة تتملّك من يشاهد أعماله.
يتحدّث المدرّس في كثيرٍ من لقاءاته وحواراته عن طفولته وتأثيرها في أعماله؛ يتذكّر أمّه التي كانت مضطّهدةً في صِباها من قِبل أهل زوجها، بسبب اختلاف الطبقة الاجتماعيّة، فكانت تذهب بهم إلى أخوالهم الأكراد في الرّيف الشماليّ البعيد.
وعن مرحلة الطفولة وبدايات تعرّفه على عالم الرسم والألوان يقول: “بداية تعرّفي على الأشكال المحيطة بي كانت رائعة؛ لأنني عشت طفولتي في ريف الشمال، هذا المكسب التجريبي في طفولتي كان الزاد الذي لا ينتهي للغد، وعندما بدأت أرسم كنت كأيّ طفلٍ عربيّ سوريّ يرسم ليُقابل بالمعارضة من أهله، وعندما بدأت أقترب من المرحلة الثانوية كان أهلي أيضًا من أصعب الحواجز التي تقف أمامي: “لا ترسم، لا تعزف الموسيقى”! كنت أرى أنّهما من خير ما تتفاعل به النفس”.
كان عمر المدرّس آنذاك تسع سنوات، وعندما أصبح في الثانوية قيّضت الأقدار لهم أستاذًا تخرّج من أكاديمية روما هو الأستاذ (غالب سالم) فجعل يحبّبهم بالرسم أكثر ويقول لهم: “إنّك لو رسمت ورقة شجر جيدة لعلمت لتوّك كم تعبت بها الطبيعة أو الإله حتى جعلها بهذا اللون وهذا الشكل الجميل”، ثمّ بدأ يعلّمهم الأسس الأوليّة في اللون وجماليّة الخط الإنسانيّ على الورق، وكيف أنّ الإنسان يستطيع أن يترك أثرًا على الأحجار والعمارة والرسم، وأنّ كل هذا من تراثه الحضاري، ثم مرض أستاذهم وذهب إلى المصحّ، فجاءهم رسّام آخر يساويه أهميّة هو المهندس (وهبي الحريري) فعلّمهم الأناقة في الرسم، وكيف يجب أن ينظروا إلى الأشياء باحترام وأن يجاروها بشكل يتناسب ونظام الكون الدقيق.
يؤكّد المدرّس في كلّ مناسبة أنّه حظي بفرصة عظيمة حين تلقّى معارفه وعلومه من أساتذة خبراء، ثم تابع مسيرته في الرسم والكتابة والعزف، كما كانت حياته في الثانوية مليئةً وحافلة، وكان الرسم وحده هدفه وغايته؛ إلّا أنّ العقبة الرئيسة بقيت متمثّلة بأهله: “ظلّ أهلي وحدهم الجدار بيني وبين كل شيء جميل؛ ماعدا أمي وهي من الريف، لقد كانت تنظر إليّ من تحت اللّحاف في الشتاء وكيف أرسم على ضوء الشّمعة. مرّة رسمت والدي من الذاكرة وكنت لا أعرفه لأنه قُتل وعمري أقل من سنتين، فجاءت عمتي في اليوم الثاني ومزّقت الصورة، ومرّة رسمت امرأةً عارية نقلتها من قاموس (اللاروس) فجاءت ابنة عمتي وعضّت على شفتها وركضت تنادي أمها ـ عمتي ـ فجاءت وكشفت عن اللوحة ـ كنت أخفيها وراء الستارة ـ ومزقتها، في تلك اللحظة شعرت أنني انتصرت وأنّي يجب أن أرسم كثيرًا”.
تأثر المدرِّس في لوحاته الفنية بالسرياليّة، ولكنّه لم يتقيد بها؛ إنّما كانت عونًا له على تصوير عالمه الداخلي، ومعاناته القاسية عندما كان طفلًا يترعرع في ريف الشمال في كنف أمّه وأخواله، ويصف المدرّس أخواله بأنّهم كلّهم مغامرون؛ فالقتل حادثٌ طبيعيّ، والغرق في النهر حادثٌ طبيعيّ جدًّا، وكيف كان يهرب إلى الفلاة، إلى الصّخور السمراء المبقّعة بالأصفر:
“كنتُ أرى الحشرات كالبشر تتحرّك بلطف وتسمح لي أن ألتقطها، وكنتُ أبحثُ عن بنات آوى والثعالب في الأيكات الشائكة على شاطئ النهر، وكانوا يبحثون عنّي ويعيدونني إلى البيت ويعنّفوني طبعًا، لكنّه كان عالمًا سحريًّا، لم أشعر بثقل كارثة الحياة التي كان يعيشها من حولي؛ أخوالي وخالاتي وأمّي… كلّ ذلك اندثر ولم يبقَ إلّا هذا الصّديق الكبير الذي هو الأرض والطبيعة”.
يُجمع نقّادٌ كثرٌ على أنّ الإنسان في لوحات المدرّس يبدو مقموعًا مقهورًا، كما يظهر كئيبًا حزينًا، وقد اختُزل في شكل مربّعات؛ كأنّه سجينٌ يطلّ من كوة ضيّقة، وتظهر الطبيعة في لوحاته من منظورٍ مائلٍ، والإنسان ملتصق بها في وضع مأسويّ قلق، والطبيعة لديه امتداد للريف الذي عاش فيه طفولته.
يصف سلمان قطاية فنّ المدرّس فيقول: “الأرض كما يرسمها فاتح المدرّس في لوحاته حمراء قاتمة، كأنّها عجينةٌ من التراب والدم المسفوح على تلك السهول الشاسعة دفاعًا عن الأرض وعن الإنسان خلال آلاف السنين …أو أنّها أحيانًا سوداء محمرّة كعين أصابها سوء فانقلبت تصبّ شواظًا وحممًا على من حاول أن يدوسها”.
أمّا فاتح المدرّس فيصف العملية الإبداعية لديه: “عندما أرسم، أشعر بأن هناك ظلمة شديدة أطبقت على كل شيء، وأنني أخرج من نفق، وأنني أرى نورًا في داخل رأسي، وكأن ريحًا باردة تهبّ على وجهي، فأبتسم وأعرف أنني وصلت إلى قمة الانفعال في اللوحة، وأعرف أنها انتهت… هذا هو الإحساس في كل عمل أقوم به، وكل لوحة لا أمرّ بها في هذه الحالة أعتبرها عملًا كاذبًا وغير ناضج”.
تعلّق فاتح في طفولته بأمه تعلّقًا شديدًا حتى صار ينظر إليها كما لو أنّها قطعة من المكان، وقد عبّر عن حبه لأمه عبر كل فعالية قام بها على مدى عمره، كما انعكس تعلّقه بأمه على نظرته الإيجابيّة للمرأة بشكل عام.
وقد كوَّنت البيئة الريفية التي عاشـها في طفولته مع أمه وعمّاته رافدًا مهمًّا في مسيرته الإبداعية، بما في ذلك من مفاهيم شرقية وعقائد وأسـاطير محلية ومفاهيم اجتماعية وإنسانية،
وقد تفاعل المدّرس مع الفنون الشرقية القديمة، ومزجت التعبيريّة الحديثة لديه التراث المحليّ والمخزون الثقافيّ العربيّ الإسلاميّ بالأسئلة الكونية ومشاغل الإنسان المعاصر، ولم تكن دراسته للفن، في روما ثم في باريس عائقًا أمام تأكيد هويته وجذوره الحضارية، فعندما قال له أحد مدرّسيه في روما: ” مدرّس! أنت حملتَ سورية كلّها على كتفيك وجئتَ إلى روما، أجابه: نعم سيّدي، فابتسم وقال: أظنّ أنّك على الطريق الصحيح”.
أهمّ أعماله:
- كفرجنّة: من لوحاته الشهيرة وهي اسم قرية في ريف حلب الشماليّ، وقد حاز بها الجائزة الأولى عام 1952م في مسابقة وزارة المعارف، وحقق بها شهرة واسعة.
تصور “كفرجنة” واحدة من القرى المجاورة لـ “حريتان” قرية طفولة فاتح التي تقف على تخوم الشمال السوري حيث الإنسان هناك شديد الالتصاق بالأرض الأم التي تحنو وتطعم وتمنح، كما سيصورها دائمًا، وكما ستبدو لاحقًا في غالبية أعمال المدرّس؛ فلاحة تحمل شيئاً من محصول الأرض على رأسها، مشلوحةٌ في الفراغ متعامدةٌ مع شجرةٍ تهيمن على المشهد، وهي والشجرة تلتحمان بالأرض تمامًا.
- لوحة “التدمريون”: هي النموذج المميز الآخر لإنتاجه؛ يصوّر فيها ملامح رجال أسطوريين، وآلهة الخصب بإحساس فطريّ رفيع وخطوط عفويّة واضحة، تكسوها ألوان تحاكي في تموضعها وبنيتها ومناخاتها ألوان الأرض التي تزخر بها تدمر في حمرتها وسمرتها، عبر أشكال تشبه الدّمى المضغوطة التي كانت تصنعها النسوة في الريف السوريّ من الخِرَق المتعددة الألوان.
وفي تعليقٍ له على ما يرسمه من وجوه يقول: “هناك مشاركةٌ شعوريّة إنسانيّة بين ما أرسمه من الوجوه؛ غالبًا ما أرسم إمّا وجوهًا سياسيّةً فيها تهجّمٌ وإدانة، وهنا يدخل الغضب لديّ، ليس قناعًا؛ بل حالة نفسيّة، وإمّا أرسم الأطهار، أي الفلاحات… أنا أرى أنّ الفلّاحات هنّ من أطهر أنواع البشر في سورية، إن كان في الشمال أم في الجنوب أم في الشرق… وأرى وجه المرأة هو من الوجوه الوحيدة التي لا تعرف استعمال أيّ قناع..”.
ولأنّه فقد والده في عمرٍ مبكّر، لم يتعرف على قيم الأب وسطوته كما يقول هو نفسه فيما بعد: “كانت الأم هي كل شيء الحب العميق والأمومي، المطر والثلج، المبعدة التي عاشت شبابها تقف بصلابة وقوة أمام أهل زوجها الإقطاعيين الذين رفضوا وجودها في مجتمعهم، والمقاتلة التي حمت أولادها وربتهم وعاشت لأجلهم”.
صَوَّرَ فاتح أمَّهُ العديدَ من المرات، أكثر واقعية في البداية ثم ما لبثت أن دخلت إلى مناخاته ذات التربيعات المبهمة هي وأهلها في السهول الحزينة والرائعة مع أشجار الجبال في خلفياته التي نشتم منها رائحة التراب النديّ، وسنقرأ خلف لوحاته عناوين مثل: “أهل أمّي من الشمال السوري”، “قصص الجبال الشمالية”، “بنات كفرجنة”، “أمي عايشو”، “سيدة جبل الحص”.
وفي حديث آخر له يوضّح لنا أسلوبه الذي يعكس هويّته المحليّة في الرسم: “أنا عربي سوري أعيش على جانبٍ من أرض هذا الكوكب، لي تاريخي ولي حسّي الجماليّ بهذا التاريخ، كما أنّني في أعماق شعوري أدرك واجب احترام هذا التسلسل الجماليّ ونموّه… إنّ واجبي أصعب من واجب الإنسان الأوربيّ، فهو لم ينقطع عن التسلسل التاريخيّ في بنائه المعاصر، بينما ألتفتُ أنا إلى الوراء لأرى حلقاته مفقودة من النشاط الفنيّ في تاريخ بلادي”.
وبالرّغم من تمسّكه بهويّته “العربية السوريّة” في أعماله؛ إلّا أنّه يُشير في أحد حواراته إلى جانبٍ مؤلمٍ له؛ يتجلّى في اتّهامه من قٍبل أقاربه من جهة أبيه أنّه ليس عربيًّا، لأنّه يرسم مفاهيم جماليّة من النحت الآشوري، ثمّ يتساءل: “أليس النحت الآشوري سوريًّا عربيًّا؟ أي أنّني وقعتُ في مأزق رسمه الغباء القاتل المشرّع، فأنا عندما أرسم لباس رأسٍ تدمريّ يُقال لي إنّه كرديّ، الأكراد كانوا يلبسون نفس اللّباس التدمريّ، إذًا من أنا؟ كرديّ أم تدمريّ أم عربيّ؟ أنا أحد القلائل الذين وقعوا في هذا المأزق وترك حزنًا عميقًا في نفسي، ولذلك لم أنتمِ إلى أيّ اتّجاه سياسيّ، فاتّجاهاتي السياسية في سورية مع الأسف تحمل بذور الخطأ الفادح بالمفهوم الإنسانيّ، ولم أعرف كيف..
خطر لي أن أهجر هذا الوطن إلى بلدٍ لا يُقال عنّي فيه إنّني غريبٌ في وطني، ولكنّي لم أهاجر وبقيتُ هنا إلى أن تعدّلت الأمور قليلًا، وفهم البوليس أنّ فاتح المدرّس يرسم من وطنه من سورية، لا أذكر أنّ هناك بلدًا في العالم إطلاقًا ولا حتّى في افريقيا له هذا المنطق المليء بالمفارقات، باللامعقوليّات من أجل مكاسب سياسيّة مؤقّتة، وتجاهل إنعاش بذرة الإبداع الجمالي”.
آراؤه ومواقفه
عُرف المدرّس بمواقف حاسمة وواضحة تجاه القضايا الكبرى؛ فالأرض والحريّة وفلسطين تلازمه دائمًا، وخيار الشعوب في المقاومة رغم الانهيار واليأس، خيار بشّر به وراهن على ديمومته وانتصاره، وقد غضب كثيرًا من محمود درويش بعد أن اعتزل مدّة في باريس وقال: “هذا الشاعر الجيّد لم يعد جيدًا بعد أن غادر فلسطين، لأنه خسر المادة التي تروي نبتة شعره، إنّه اليوم شجرة عطشى في باريس”.
كما اختصر المدرّس السياسة ونظرّياتها بمقولاتٍ كتبها على قصاصات من الورق وعلّقها على جدران مرسمه، مؤرَّخة بزمنها كشاهد على عصره، وردًّا على سؤالٍ طُرح عليه حول حجم الغضب الذي في داخله أجاب: “الغضب أصبح مفهومًا وحالة سيكولوجية قديمة، هنالك اليوم انفعالات تتجاوز الغضب؛ إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعيّ الصامت الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم”.
لطالما كانت روح المدرّس تضجّ بالمواقف الوطنية؛ تساءل مرة في قصر (الأونيسكو) في بيروت، وهو يتحدّث عن معاناته تجاه الوطن والفن عبر كلمات حملت أكثر من معنى وقضيّة: “كلّنا أخلاقيون، ونزرع أزهار المحبّة والرّحمة، ونكتب الشعر ونعزف على ناي الأخلاق، ولكن ماذا سنفعل لو وقفنا جميعًا تشكيليين وشعراء وموسيقيين أمام مقبرة جماعية تحوي آلاف جثث البشر الذين قتلوا رشًا ودراكًا أمام بعضهم بعضًا؟ هل سنرسم زهرةً في إناء؟ هل نرسم حبيبين في حالة عناق؟ هل سنرسم السماء الزرقاء الرائعة؟”.
حين سُئل فاتح المدرّس يومًا عن تفضيله البقاء في سوريا على الرحيل إلى أوروبا ليستقرّ في إحدى البلدان، ويصبح أحد مشاهير الفنّ هناك، أجاب: “لا أستطيع أن أفارق شجرة التّوت في داري، ولا صوت نقيق الضفادع في نهر قويق، ولا رنين طاسات “أبو كنجو” بائع العرقسوس، كما أنّي عاجزٌ عن اصطحاب كلّ هذه الأشياء معي”.
في الأيّام الأخيرة من حياته ذهب فاتح إلى بيته القديم متذكّرًا أرجوحةً كانت تجمعه مع أمّه في ليالي الصيف، قال لزوجته دون أن ينتظر تعليقًا إنّه يرغب في النوم على الأرجوحة، كان ذلك أواخر حزيران 1999، تماماً قبل أسبوع من رحيله.
(سوريا)