في رواية ابتسام تريسي (الشارع 24 شمالًا) تقع بطلة الرواية تحت تأثير سحر ماضي جدّتها والحيّ الذي عاشت فيه، ومن خلال التاريخ الشخصيّ للجدة في هذا الحيّ؛ نقرأ تاريخ مدينة اللاذقيّة والتغييرات التي طالت الحياة فيها خلال قرن، إذ قرّرت الجدّة “وداد” توثيق حياة النساء في مدينة اللاذقية، وفي سبيل ذلك تستعين بذاكرة أكبر سيّدة في الحيّ “رقيّة” وتنقل من خلال مرويّات النساء اللواتي كنّ يجتمعن في منزل “رقيّة”؛ جملةً من الأحداث المهمّة التي عاشتها مدينة اللاذقيّة.
بعد نزوح الجدّة وداد مع حفيدتها من مدينة اللاذقيّة إثر اندلاع الثورة؛ تحمل معها صندوقها الذي يحوي أهمّ ذكرياتها والدفتر الذي دوّنت فيه مشاهد وأحداث روايتها، لتقرأ الحفيدة الدفتر وتبدأ بالتعرّف إلى حكاية الشارع 24 شمالًا التي تكاد تكون سجلًّا موثّقًا عن حياة المرأة في المدينة، في حيّز اجتماعيّ وتاريخيّ معيّن؛ إلّا أن توجّه الكاتبة في روايتها هذه لم يكن نسائيًّا فقط، بل وطنيًّا يؤرّخ لكثير من الأحداث السياسية المهمّة التي عصفت بمدينة اللاذقية خلال قرن بأكمله.
امتزاج الشخصي بالسياسي
ترصد الرواية جملةً من الأحداث الوطنيّة والسياسيّة التي حصلت في مدينة اللاذقيّة على لسان نسوتها، من خلال ربطهنّ بين الأحداث السياسيّة المهمّة وما هو شخصيّ وذاتيّ؛ فنهجهنّ السياسيّ يستندُ إلى حقيقة أنّ الشخصيّ هو سياسيّ في النهاية.
لجأت تريسي إلى مقاربةٍ تتوافق مع طبيعة النساء التي تتمركز حول الذات، في فترة زمنيّة اقتصر التعليم فيها على فئةٍ قليلة من النساء اللواتي ينتمين إلى النخبة ومنهنّ وداد الجدّة التي هي ابنة عاصم آغا، ولتميّزها شاركت في استقبال الزعيم شكري القوّتلي الذي زار اللاذقيّة، وهذا أثار حنق زوجة أبيها عليها، ممّا دفعها للتحايل على أبيها لتترك المدرسة وتزويجها في عمر مبكّر لتفتح الطريق أمام ابنتيها، ممّا يجعل الوعي الوطنيّ السياسيّ للجدّة وداد منبثقا عن تجربة ذاتيّة أليمة لها:
“حين عُدتُ إلى البيت لمحتني زوجة أبي من نافذتها، وبحدسها أحسّت بشيءٍ غير طبيعيّ في مظهري الخجول عمّق إحساسها بالغيرة ودفع بها كيد النساء إلى التفكير الجديّ بإبعادي عن طريق ابنتيها، فمنذ أربع سنوات حين رأتني بجانب زهيرة خانم معلّمة اللغة الفرنسية التي اختارتني لتقديم الورد لشكري بيك القوّتلي رئيس الدولة السوريّة في زيارته الأولى للاذقيّة وهي تشعر بالغيظ لاستبعاد ابنتها من وفد التلميذات اللواتي استقبلن الرئيس”.
كما تتطرّق الكاتبة إلى استغلال جهل النساء وفقرهنّ، واستثمارهما لمصلحة الرجل السياسيّة، من خلال الحوار الذي دار بين أبي حسّان وهاجر ابنة رقيّة، حين عاتبها على إعطاء صوتها وأصوات بناتها في الانتخابات لرجلٍ من عائلة هارون سيّئة الصّيت، فبرأيه يجب ألّا تتورّط النساء في لعبة السياسة القذرة: “سمعتُ أنّ حياة باعت صوتها له بمئة ليرة، أنا بصراحة لم أصدّق، لكن البلد لا يخفى فيها شيء”.
لتبرّر هاجر التي لم تفهم المقصود من كلامه فعلتها تلك أنّها أتت بناءً على مشورة أبي شفيق زيادة، إذ عرض عليها أن يأخذ هويّة البنت لقاء مئة ليرة سورية، وهي لا تفهم في السياسة، لكن ما يقوله أبو شفيق على عينها ورأسها، ثمّ لا تلبث أن تشعر بالندم وتفكّر بينها وبين نفسها:
“صحيح أنّ حياة فرحت بثوب المخمل الأخضر الذي اشترته من حلب والحذاء المخمل الأسود الذي دفعت ثمنه عشرين ليرة في وقت كان سعر الحذاء العاديّ فيه لا يتجاوز الليرات السبع، وتفاخرت به أمام صديقاتها، إذ لم يكن في محلّات اللاذقيّة كلّها حذاءٌ يشبهه خاصّةً تلك الخرزات البيضاء الناعمة المضغوطة على قماش المخمل عن طريق الحرارة والتي تعطيه شكل قماشٍ مُنقّط.. لكن كان ذلك خطاً ما دام “أبو حسّان” المعروف بفهمه العميق للعبة السياسة يرى ذلك”.
ومن الملامح الأخرى التي امتزج فيها السياسيّ بالشخصيّ في الرواية؛ موقف رقيّة من المستعمر الفرنسي، بالرّغم من أنّ الرواية لا تتحدّث عن الاحتلال الفرنسي كثيرًا، فإنّنا سنقع على التغييرات التي طرأت على الحياة في اللاذقيّة من خلال حديثها عن مرحلة الاستقلال، وقد تجلّى الموقف الذاتيّ لرقيّة من المستعمر الفرنسيّ من خلال حزنها العميق على إزالة أحد المقابر من قِبلهم:
“شرح لها عبد الغفور بأنّ الفرنسيين أزالوا القبور من الساحة واحتفظوا بالأشجار الكثيفة تمهيدًا لجعلها حديقة. كان من الواضح أنّ تغييراتٍ كثيرة قد حدثت خارج سور المدينة بعد مجيء الفرنسيين منها بناء (السكتور) في الزاوية الشرقيّة الجنوبيّة من الساحة و(الكركون) في الطرف الشماليّ الغربيّ… لم يكن هيّنًا على رقيّة أن تشهد إزالة المقبرة وتحويلها إلى حديقة”.
ومن المظاهر الأخرى المهمّة التي يمتزج فيها السياسي بالشخصيّ؛ لجوء النساء في الرواية إلى تأريخ الولادات والوفيات من خلال ربطها بأحداث سياسية مهمّة، فحين سألت إحدى الفتيات اللّواتي يحضرن اجتماع النسوة في بيت “رقيّة” جدّتها عن السنة التي ولدت فيها: “أنتِ وحياة وفاطمة زيادة وليلى العجيل مواليد سنة الكوارث، سنتها يا ستّي راح الوفد السوري إلى باريس لتوقيع المعاهدة، ورجع بعد ستّة أشهر من المفاوضات وصار الإضراب الستّيني. وتوفيّ الملك فؤاد واعتلى الملك فاروق العرش، لكن أهمّ حدث في ذلك العام كان ثورة القسّام؛ ثورة فلسطين الكبرى”.
الطابع اليوميّ للبقاء المؤلم
إنّ سمة الفقد التي شكّلت علامة فارقة في حياة نسوة الحيّ تبرز بوضوح في الرواية؛ فهناك فقدٌ مُنيت به النسوة في الحرب ضدّ المستعمر الفرنسيّ، وآخر في أحداث الثمانينيات، لنصل إلى زمن حفيدة وداد واندلاع الثورة السوريّة التي كانت استمرارًا لمسلسل الفقد خلال ثلاثة أجيال؛ “في الزمن الأوّل زوجٌ غاب عن الدنيا، وفي الثاني ولدٌ سافر ولم يعد، وفي الثالث جيلٌ غيّبته المعتقلات”، ليفرغ محيطهنّ من الرجال، فيتحوّلن إلى ملكات؛ الملكيّة التي لم يحظينَ بها إلّا بالغياب المؤلم لرجالهنّ، ممّا يدفع الكاتبة إلى تشبيه الحال الذي آلت إليه معظم النسوة في الحيّ بخليّة النحل وذلك على لسان إحدى شخصيات الرواية: “كانت جدّتنا أم محمّد تحيل كلّ مآسي النساء في الحيّ إلى مزحةٍ وضحكة تخرج من قلبها حين تقول لها رقيّة: كلّنا ملكات. فتردّ عليها: يسلم فمك، بس ملكات نحل، قتلنا الذكور وقعدنا على تلّ من الشمع”.
حين قرّر الآغا عاصم والد وداد أنّ تكفّ عن الذهاب إلى المدرسة، لم تنبس هي وأمّها بحرف، تقبّلت الأمر على أنّه قدرٌ لا يُناقش وليس من حقّها الاعتراض عليه: “فتحتُ الصندوق الذي أهدتني إيّاه زوجة أبي سكينة والذي وضعت فيه الملابس التي رمتها أختي سامية يوم زواجها، فككتُ خياطة الأثواب وأعدتُ غسل القماش وكبستُهُ بمكواة البخار ثمّ أعدْتُ تفصيله وخياطته بما يتناسب مع قوامي وذوقي ووضعتُ لمستي الخاصّة على القماش فغدا جديدًا وأنيقًا إلى درجة لم تصدّق صديقاتي أنّي لم أشترِه من أرقى بيوتات الأزياء في باريس.
الشيء الذي لم أكن أستطيع تدويره وصناعة تفاصيل جديدة له هو عواطف الآغا نحوي..”.
كما تعرّج الرواية على أساليب الطعام وبعض الخبرات النسائيّة بوصفها ملمحًا رئيسًا في حياة النساء، فالمطبخ وبعض المهن التي تمارسها النساء، تعكس إلى حدّ كبير الواقع الاقتصاديّ لفئةٍ كبيرةٍ من الناس في ظروف معيّنة، كما أنّ تلك التفاصيل اليومية التي تُغرق النساء نفسها فيها قد تحمل إشارة إلى التغييرات في المشاعر والمواقف التي تنسج في النهاية حياة كلّ فرد:
“عندما كنّا صغارًا كان محشي الباذنجان بالبرغل بالنسبة لنا أكلة ملوكيّة، ولم تكن ستّي رقيّة تضع فيه لحمة، كان الناس يخترعون أطعمةً غير مكلفة بسبب الفقر بعد الحرب العالميّة.. وبعد الاستقلال وتحسّن أوضاعنا المعيشيّة صدّقيني لم أستسغ إضافة اللحمة للمحشي لمدّة طويلة، وكنتُ أفضّله مطبوخًا بالزيت سواءً كان بالبرغل والأرز..”.
تبدو الأعمال والمهن التي تمارسها نساء الرواية في كثيرٍ من الأحيان محاولة منهنّ لنسيان آلامهنّ، وتعكس تفاصيل الطابع اليوميّ للبقاء المشوب بالألم؛ فـ”رقيّة التي تعلّمت النسيج بالمخرز ثمّ التطريز على القماش وأبدعت في خلق طيور تكاد تكون حيّةً وأجنحتها المرفرفة توحي للناظر أنّها ستغادر القماش بعد لحظات؛ صنعت من ذلك العالم صدفتها المتينة التي تحتفظ بالألم في القشرة الرقيقة تحت الجدار العظميّ فلا يراه المتأمّل لجلال مظهرها وهي تغرز الإبرة في القماش، أو تسحب خيوط الصّوف من بكرتها وتلفّها على إصبعها الصّغير بنعومةٍ وتحرّك المخرز بسلاسة لتصنع به أشكالًا في غاية الروعة..”.
ترفض الجدّة وداد في مواقف كثيرة التخلّي عن صندوقها الثقيل في أثناء رحلة النزوح الطويلة الشّاقة، معلّلة رفضها بأنّ هذا الصندوق هو كلّ حياتها وهو الماضي الذي لا يمكنها التخلّي عنه، فعمره من عمر الحيّ الذي وُلدت فيه، وهو تاريخ الحيّ المصغّر، وتاريخها الشخصيّ.
حين يصل بطلة الرواية نبأ تهدّم البيت في أثناء القصف، لم تشعر بأنّها فقدت شيئًا عزيزًا، لم يكن ذلك قاسيًا على قلبها بمقدار قسوة رؤيته فارغًا منهما ومن براءة طفولتها في جنباته: “خيّل إليّ لحظتها أنّ من الطبيعيّ أن ينهار البيت ويضمّ ركامه بقايا من عاشوا فيه بدل أن يبقى حاملًا ثقل أنفاسهم وحكاياتهم وأحلامهم وكلّ اللحظات التي عاشوا بين جدرانه.. لكن كيف الخلاص وجزءٌ من تلك الذكريات والأحلام ما زال يرافقني في صندوقٍ خشبيّ تأبى جدّتي التخلّي عنه”.
سيرة..
ابتسام التريسي، كاتبة وروائية سورية من مواليد مدينة أريحا بإدلب عام 1959، خريجة كلية الآداب/ قسم اللغة العربية بجامعة حلب.
تميّز فنها الروائي بصبغته الاجتماعية المحلية السورية ومكونات المجتمع السوري، وطرح قضاياه وإشكالاته والسعي لحلها، مع الاهتمام بقضايا المرأة السورية بصورة خاصة.
لاقت نصوصها اهتماماً نقدياً ملحوظاً، كما وصلت إحدى رواياتها “عين الشمس” إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في 2010.
كانت ابتسام التريسي من بين المنسحبين الأوائل، كُتّاباً وكاتبات، من “اتحاد الكتاب العرب” بدمشق، وذلك في كانون الأول 2012 احتجاجًا على سلبيته إزاء وحشية النظام التي مارسها ضد السوريين.
عضو في رابطة الكتاب السوريين التي تأسست بعد الثورة، وعضو أيضاً في هيئة تحرير مجلة (أوراق) التي تصدرها الرابطة، ولها كثير من المقالات والدراسات الأدبية والاجتماعية في العديد من الصحف والمواقع العربية والدولية.
من رواياتها: “جبل السماق”، الجزء الأول: سوق الحدادين 2004. و”ذاكرة الرماد” 2006. ثم الجزء الثاني من “جبل السماق”: الخروج إلى التيه 2007. ورواية “المعراج” 2008. و”عين الشمس” 2009. و”غواية الماء” 2011. و”مدن اليمام” 2014. و”لمار” 2015. و”لعنة الكادميوم” 2016. “سلّم إلى السماء” 2020.
ولابتسام تريسي مؤلفات أخرى في القصص القصيرة، منها: مجموعة “جذور ميتة” 2001. و”نساء بلا هديل” 2014. و”امرأة في المحاق” 2014.
(سوريا)