تُثير “جائزة ماكس جاكوب“، التي فاز بها الشاعر نوري الجرّاح مؤخَّراً، بعض القضايا، منها ما يخصّ هذا الفوز، ولن يكون إلّا حول الترجمة إلى الفرنسية وغيرها من اللغات، لماذا تأخّرت؟ ومنها أيضاً عدم وجود جائزة عربية للشعر الحديث، وطبعاً أهمّية الجائزة من حيث القيمة الإبداعية لشاعر سوري استحقّها بجدارة، خاصّة أنّه لم يسعَ إليها، بل سعت إليه.
كما يثير الشاعر نفسُه أكثر من قضية من خلال ما تطرحه مسيرته الشعرية الفارقة، تضع الشعر والشعراء، ولن نقول أمام مسؤولية، بل تتعدّاها إلى صميم العملية الإبداعية، كعملية إنسانية بحتة، لا تنفصل عن مفهوم الشعر الذي يُحلّق في فضاء الاتساع الكوني، لا يُقصي الإنسان، بل يذهب إليه، في درب صاعد، ذروة إثر ذروة، تدفع إلى وعي الوجود الإنساني في ماضيه وحاضره، والتفكير في مستقبله.
إنّ في التركيز على وعي الجرّاح بالنسبة لانتماءاته المتعدّدة؛ السورية والعربية والمتوسّطية والعالمية، وعدم إغفالها، ما يقودنا إلى رحابة تجربة شعرية لم تبلغ فرادتها إلّا بإخراجها من خصوصيتها إلى عموم التجربة البشرية، استطاعت قصائده استيعابها، كعمل سيمفوني ذي طبقات متعدّدة وأصوات متغايرة، وعناصر من أقنعة وعلامات، وقد يجمع بينها مونولوغ، ما شكّل جانباً ثرياً في دراما أعماله، كان في استخدام أدوات لم تكن مجّانية، ففي حركة الأزمنة والأمكنة، وبراعة الصور، وجدت إمكاناتها في التعبير عن مغامرة شعرية أخذت حجمها على امتداد جغرافيات متجاورة، انتظمت فيها الرغبات والمشاعر، الأوهام والنوايا، وتشابكت أدوارها على مسارح التصوّرات والذكريات، شطحت عن الأحلام إلى الواقع، تحت أجنحة مخيّلة جامحة.
يمكن الحديث مطوَّلاً عن تجربة الجرّاح الشعرية المديدة، وما طرأ عليها في كلّ محطة، وما حكمها من إعادة للنظر في موضوعاته ولغته الشعرية، كذلك بنية القصيدة، وتراكيبها الفنّية… راكمت ذخيرة ضخمة أصبحت رهينة لكشوفات النقد، لاحتوائها على أرض خصبة من التفسيرات والدلالات، حول ما يكتنف هذه التجربة الثرية من أسرار، تبرز في قدرتها على تجديد معنى الشعر. من جانب آخر، لصيق ومُهمّ، بالنسبة للقارئ، الوعد باختراقها عوالم غير مألوفة، تبهره أشياؤها، ففي النظر إلى تلوينات القصيدة، تخمة تُشبع نهمه، وتمنحه متعة طازجة، بما تهبه له من إيحاءات مثيرة.
ما يسترعي الانتباه والاهتمام، مواقف الشاعر في أعماله وفي حياته، ما قد يُنسب إلى السياسة، تلك الكلمة الممقوتة في عُرف الأدباء لا سيما الشعراء، من فرط ما استُهلكت في زمان الأيديولوجيات، ويجري التبرّؤ منها وكأنها وصمة، في استعادة لزمن نقاء الشعر، بعدما تخلّص من لوثته، فلم يعُد الشعر وسيلةً، ولا ساحة معركة بين الأيديولوجيات، في معرض تصفية الحسابات بين الدول. وكان في إغفال السياسة تجهيلٌ بالإنسان، سرعان ما ارتدّت، وكأنّها نقمة، تخترق حياتنا وتخترق معها الشعر الآخذ في الابتعاد عنها، فإذا به في خضمّها، إمّا أن يستجيب لها الشاعر، أو يصبح على هامش الشعر نفسه.
فُهمت السياسة على نحو ثأري، مع حلول أوان الانتقام منها، بعدما جُيّر الأدب لسياسات الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، لا الحياة، وكان في الانحياز إلى جانب أيديولوجية بعينها، يعني الدفاع عنها، ما يوجب التعبير عن أهدافها واتجاهاتها وأبعادها واستعمال مفرداتها، لم يقسر الشعر حينها على الخنوع لأيديولوجية مغلقة فقط، بل لدولة، ولسياسات حكومة أو حزب. ما أدّى بالأدب إلى خوض معاركه بأنواعها تحت ادّعاءات طبقية، أو حرّيات منفلتة بلا حدود.
تنحو الأنظمة في العالم إلى محاصرة الأدب، بمنعه من مقاربة الشأن العامّ على اعتبار أنّ السياسة تسيء إليه، إنّه شأنها الخاص، يدور في كواليسها السرية، بينما على الأديب والروائي والشاعر الانصراف إلى تهويماتهم في اللغة والفضاءات وألعاب العواطف ومحنة الأوهام. أمّا الحقائق، فاختصاص الأنظمة في تحويلها إلى أكاذيب.
نوري الجرّاح لم يُعان من انقساماتها، وإنّما اكتملت فيه صورة الشاعر في معناها العريض، الشاعر في الدفاع عن إنسانية الإنسان والحياة والحب والجمال، لم يتنصّل منها، إذ هو غارق فيها، لا خيار أمام الشاعر الحقيقي، فالإنسانية قضية كرامة، وليس أكثر من الشعر بلاغةً في الذود عنها.
لذلك، لم يكن مستغرباً أن يُهدي نوري الجرّاح الجائزة لطفلَين: “طفل فلسطيني أقام الاحتلال كيانه الملفَّق في غرفة نومه وعلى أنقاض كيانه الطفولي وشرّده في أربع جهات الأرض، وطفل سوري حطم الطغيان عالمه وأرسله ليسكن القبور والمعتقلات وخيام العالم”.
مثلما لم يكن مستغرباً في قصائد الجرّاح بروز ذلك الجانب الأخلاقي الإنساني، مؤكِّداً على موقفه من عصره، منذ اضطرّ إلى مغادرة دمشق حتى الآن في مواجهة دائمة ودائبة، لم تفتر من زمن لآخر، في معاصرته القضايا العربية كلّها دونما استثناء، أديباً وصحافياً وشاعراً وناشطاً في المجال الثقافي.
اليوم، في الوقت الذي يُشكّك فيه العالم بالقضية الفلسطينية ويغضّ النظر عن الاحتلال الإسرائيلي، ويتلكّأ في مقاضاة النظام عن جرائمه في سورية، وبداية التطبيع العربي مع النظام السوري، ومحاولة تأهيله للعودة إلى المجتمع الدولي، يواجِه الجراح ما خلّفه الربيع العربي، وكأنما عالم يواصل انهياراته، ليجد نفسه إزاء تراجيديا دموية، تثير فيه خوض مواجهة مع اللغة، ليتمكّن بالقصيدة من التعبير عن حريق هائل تنشب نيرانه في بلده سورية، التي ما زال يحمل منها بين جوانحه: “خفقة القلب الأُولى، والرعشة التي تسري في الجسد” كلّما سمع صوتاً يُردّد ذلك الاسم، دمشق؛ “دمشق لي هي المدينة التي كلّما لاحت لها في الذاكرة صورة حملت معها إلى الحواس موجة من الألم”.
ينضمّ نوري الجرّاح إلى هؤلاء الذين ليس لديهم فوبيا من الحقيقة، فعادوا الطغاة، ودافعوا عن الإنسانية في أزمنة الانحطاط السياسي، وانحازوا إلى ضمائرهم وإيمانهم بأنّ الانسان القيمة الأكبر في عالم يزداد تغوّلاً وشراسة.
نوري الجرّاح ينضم إلى موكب من شعراء العالم ما برح في ازدياد؛ لوركا، وريتسوس، وتسيلان، وأراغون، وماياكوفسكي، وبرودسكي…
(العربي الجديد)