فواز حداد: قوننة الشر

0

في الكتابة عن الشر، ضرورة شيطانية، لا لنخفّف عن الشيطان بعضاً من مسؤولياته، بل لنتعرّف إلى نصيبه منه، فالبشر يقاسمونه إيّاه بنصيب وافر، ويزاحمونه عليه. ما يتفتّق لديهم من شرور يفوق قدرات الشيطان نفسه.

ليس الشرُّ شيئاً وهمياً في قصص الأطفال، ولا عرضياً يرتكبه مجرمون بالمصادفة، إنّه غالباً عن سابق تصوُّر وتصميم، سارٍ كالهواء، وإنْ كانت هناك محاولات لاستئناسه في السينما بأفلام شهيرة عن المافيا بتوقيع كبار المخرجين، كإحدى الحقائق الراسخة في عالمنا، لا غنى عنه، أكثر من الخير. مع هذا، ليس البشر أشراراً بالفطرة، إنّه إحدى صناعات البشرية العاصية والخاطئة، فالأنانية ليست في الجينات، الأمراض الوراثية شأن آخر. وإن حاول عالم أن يعزوه إلى شكل الرأس، بما دُعي بـ “جمجمة لامبروزو” كانت من مهازل العلم وما أكثرها، أي أنّ المجرم همجي، يعود إلى أصله البدائي، فهو مصاب بالجنون، ومجرَّدٌ من الشعور الأخلاقي.

منذ القديم، أسهمت آلية الطغيان في انتشاره، وحديثاً أصبحت الدول الشمولية، والرؤساء المهووسون بالعظمة، ما يمنحهم الشهرة على صفحات تاريخ بغيض. بات الشر صناعة في تقدم مستمر من عام لآخر، تختلف عن صناعته في ألمانيا الهتلرية، فالنازية تسلّمت السلطة عام 1933، وجهدت في ترسيخ كراهية اليهود، وجعلها قانوناً أصيلاً في الدولة، واحتاج العالم إلى تجميع قواه ليقضي عليها عام 1945. لكن، هل قضي على النازية تماماً؟ ما زالت هناك في قلب ألمانيا جماعات نازية، وعلى منوالها في بلدان أوروبا، بينما الشمولية السوفييتية استمرّت سبعين عاماً. ما أسّسه السوفييت كان أقوى رسوخاً من النازية التي كانت فضيحةُ سقوطها مجلجلة، كانت مكشوفة وفجّة.

كيف آمن بها شعب أعطى العالم أعظم الفلاسفة والموسيقيّين ورهطاً من العلماء، بينما السوفييت أحاطوا روسيا بستار حديدي ولم تبدأ جرائمها بالتكشّف إلّا بعدما ألقى خروتشوف خطاباً أمام المؤتمر العشرين للحزب عام 1956، عُرف بالخطاب السرّي، لأنّه كان في جلسة مغلقة سرية ومُنع الصحافيون من حضوره، هاجم فيه ستالين وسوءَ استخدامه للسلطة، ومثل بداية حملة “نزع الستالينية”، لكن هل انتزعت الستالينية، إذا كانت البوتينية سائدة؟

كانت الستالينية مثالاً على الدولة الشمولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، توالدت على منوالها شموليات، كان دليلها الدولة الأم، لم تستثن منطقتنا، إلى حدّ ترسيخها في بلداننا، وترسّخت معها كراهية الأديان، وكراهية الطوائف، وكراهية التفكير، ما أتاح للشرّ التعبير عن إمكاناته بردٍ بلغت ضحاياه الملايين. فالطابع العالمثالثي للشر، يتميّز بالانحطاط والحقارة ولو كان الشر هو الشر، سواء الذي مورس في السجون، أو خلال قمع التظاهرات، وفي فروع الأمن.

أَنتج الشر ماضياً لم يمضِ بعد، ما زال حاضراً، انقسم المجتمع إزاءه إلى قسمين، الأوّل لا يريد الانفكاك عنه، كان محطَّ عذاباتهم، فقدوا آباء وأبناء، وفرّوا من بلدانهم نجاةً بأرواحهم، لذلك ينقمون على ماض كانوا ضحاياه، ليته ما كان. أمّا القسم الثاني، فيريدون إخفاءه، مع أنّه سبب مكانتهم وثرواتهم ومناصبهم، لكنّه كان مسرح جرائمهم، فلا نفكّر في أنّ الماضي زمن انقضى، إنّه يعيش بيننا.

ما ينجم عن الشرّ لا يتحدّد بالخراب المادي وحده، وإنّما التجرّد من المشاعر الأخلاقية، هذا هو الخراب الحقيقي، في هذا الكمّ الكبير من المصابين في ضمائرهم. تُرى كم عدد المجرمين الذين كانوا أعضاء فاعلين في هذا الدمار؟ لنأخذ في الاعتبار الحكومات التي حوّلت ما كان ربيعاً إلى مذبحة شاملة، شارك فيها “شبّيحة” و”بلطجيون” و”زعران”. حسناً هؤلاء أجراء، أي مجرمين بالسليقة والوراثة، يؤدّون عملاً بموجب أوامر يتلقّونها في ظل حكومة ترى في هذه الأمور أفعالاً قانونية، بما معناه قوننة الشر والأشرار.

لننظر إلى أنّ هذه الجرائم لا تتم وبشكل رئيسي، لولا وجود مختصّين في البحوث العلمية، فالسلاح الكيميائي لا يستورد جاهزاً، بل مواد أوّلية يقوم علماؤنا بتحضيرها لقصف مناطق سكنية آمنة، ومهندسين يهندسون محارق لحرق الجثث، وأطباء يشرفون على قتل من يتأخّر موتهم، والسبب لا يرجى شفاؤهم، لكن ماذا عن تعذيبهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة؟ كذلك أبناؤنا الطيّارون يحسنون اختيار المواقع التي يرمون فوقها البراميل المتفجرة؛ مستوصفات وأفران ومستشفيات وأسواق بيع الخضار.

هناك من أشاحوا بوجوههم عمّا يحدث تحت أنظارهم، ورأوا الموتى يُلقى بهم في حفر مجهولة، وشاهدوا الأهالي يعودون باكين من المستشفيات من دون جثث أحبائهم. هؤلاء ابتُلوا بالصمت، وقد يدافعون عن القتلة، فالأمان أحقّ من الأرواح التي أُزهقت.

هذه الجرائم يرتكبها أشخاص عاديون، لا يعرفون ضحاياهم، يجهلون من يعذّبون ويقتلون، مع أنّهم لا يكرهونهم، لكنّهم يتعلّمون كراهيتهم بحكم الوظيفة والأوامر والعادة والاعتياد. لقد تعلّموا ألّا ينظروا إليهم على أنّهم بشر، مثلما هم أنفسهم لا يرغبون في أن يكونوا بشراً.

(العربي الجديد) (اللوحة: أرتور دوف)