ليست هناك مهنة في بلادنا يُدعى صاحبها “عارض كتب”، مع أنها موجودة في الغرب، وموجودة لدينا، ليس كما تدل إليها، يتوَلّاها صحافيو المواقع الثقافية، كنوع من النقد أو المراجعة أو ما يشبههما، من دون أن يحظى الكتاب باستعراض واف، عادة تكون انطباعية، تركّز على بعض الجوانب، وبلمحات غير كافية للتعريف بالكتاب، وبلا قواعد.
يشكّل الخلط بين النقد والعرض والدعاية والادعاء، افتئاتًا على الكتاب، قد يفقده قيمته أو يمنحه قيمة مبالغًا بها، خاصة عندما يتطوّع أصدقاء الكاتب، أو أعضاء من شلته كنوع من التضامن، إلى التنبيه لأهمية الكتاب، وهو ما يتمّ عادة بالتبادل والتقاص. أحيانًا يكون النقد هجاء كيديًا تحت ستار الأدب، بواعثه الغيرة والحسد، وهما ليسا رذيلة خاصة بالمثقفين فقط، إنها عملة رائجة تطاول جميع المهن. ولا بأس، من الإشارة إلى محاباة الكاتبات النساء، وفي الوقت نفسه، التقليل من شأنهن، والتلميح إلى تطفلهن على الأدب، وهو مديح وانتقاد لما يدعى “الأدب النسائي” من دون وجه حق. إن الاعتراف بأن المرأة أثبتت وجودها أدبيًا، لم يعد بحاجة حتى إلى اعتراف.
بالنظر إلى القارئ، المغموط حقه في الكتاب الجيد، ولديه الرغبة في قراءة الأفضل، ويبحث عما يلاقي تطلعاته، سواء في المعرفة أو المتعة، أو إثراء حياته، أو ما يساعده في أزماته الحياتية، فلا يجب إحباطه، وإلا لماذا يدفع ثمن الكتاب ويقضي ساعات في قراءته؟ يحسّ القارئ أنه تعرّض إلى خديعة، عندما يستأنس بما كتب عنه، ويعتقد من خلال هذا النقد أو الاستعراض أنه يلاقي اهتماماته، فإذا به يخالف ظنونه. وقد يتعرض إلى كمين عندما تتبارى الصحافة ووسائل التواصل في الإطناب بمديح كتاب، ما يدفعه إلى البحث عنه، فإذا به يخيّب آماله.
كثيرًا ما اشتكى أدباء بأنهم يفتقدون كتابهم حينما يقرأون مراجعة عنه، وكأن الناقد يكتب عن كتاب آخر، أو لم يكلف نفسه أكثر من تصفحه من كثرة الأخطاء الواردة في استعراض الأحداث والشخصيات. هناك مراجعو كتب لا يقرأون أكثر من الفهرس، ليجدوا ما يتكلمون عنه، والأدهى ليحكموا عليه. وهناك من يتكلم عن كتاب يتعرّض مثلاً للسجن، فيسرد ما كتب عن السجون، ثم لا يقول شيئاً مهمًا عن الكتاب. وقد يعتقد القارئ، من جراء الإمعان في ما أصاب مراجعة رواية من تعقيد أنها تفوق فهمه، وإذا وُصفت بأنها رواية حداثية، فمن باب الدعاية، ما يفيد في تسويقها، ورفع رقم مبيعاتها، لكنها لا يمنحها الجودة، إنها عملية ترويج بحتة، على علاقة بالتجارة لا بالأدب. فالأصدقاء يساعدون بعضهم بعضًا، من دون تقدير، فيما إذا كانت الرواية حداثية سبقت عصرها، أو يسبغون عليها، ما ليس فيها، ولو لم يكن معقولًا، وإذا كانت تتم بنوايا طيبة تجاه الكاتب والكتاب، لكن ليس نحو القارئ. والخلط يكبر عندما تتولى هذه الأمور جهات تمنح جوائز، تكرّس الكاتب للشهرة بخبطة حظ أو بتدبير، لذلك كثيراً ما يقال إن سمعة بعض الكتّاب أكبر من كتاباتهم، لكنها لا تدوم فكل هذا تذروه الرياح وما أقواها حين تهب.
ما يجب معرفته أن بوسع الناقد أو الصحافي، هجاء أي كتاب، كما مديح أي كتاب، وفي الحالين يجد في الكتاب نفسه ما يتذرع به في تقييمه، وكلاهما لا يصمد. ولا بأس من الإشارة إلى أنه مثلما يقرأ الناقدُ الكاتبَ من خلال كتابه، بالمقابل يقرأ الكاتبُ الناقدَ من خلال انتقاده، ولا تخفى عليه قدراته ونزاهته، أو ضعفه وخطل ادعاءاته.
من جانب آخر، هل رأي القارئ يسترعي الاهتمام سواء كان سلبًا أو إيجابًا؟ نعم، لكنه لا يُلزم أحداً به، ويعنيه وحده، لا أكثر من أنه أعجبه أو لم يعجبه، ولديه أسبابه، وكل قارئ حسب ثقافته، والقراءة أذواق، وهو ما سمحت به وسائل التواصل، وأصبح من المعروف أنه رأي، أصاب أم أخطأ. بينما يتعرف الكاتب على استقبال كتابه من مختلف أنواع الناس، ويدرك أنه لا يمكن إرضاء الجميع، ولا رأي القارئ يفترض الحسم، ولو استطاع التأثير في مجموعة من أصدقائه، لذلك يعول على المواقع الثقافية، وقد تتحقق خطوة في اقتصارها على عرض الكتاب بأمانة، بذلك يقدمون خدمة للقارئ، يتعرف على الكتاب، فإذا كان يهمه، فسوف يدرك أنه بحاجة إليه.
أما الإلحاح على الحاجة إلى نقّاد، فمشروعة تمامًا، فالحياة الثقافية تفتقر إليهم، إنهم قلّة، ولقد كانت الخسارة كبيرة في ندرة كتابة فيصل دراج في النقد الروائي، وكان المكسب كبيرًا في عودة عباس بيضون للكتابة عن الرواية والشعر.
(العربي الجديد) (اللوحة: من لوحة “فضاء أزرق” لـ الهادي التركي / تونس)