فواز حداد: خدعة الفن

0

فاتَ زمنُ النوايا الحسنة، وسذاجة الاعتقاد أنّ الفنانين، بأنواعهم، يعيشون في نعيم سماوات الفن، الحافلة بالجمال والبراءة، والمرح والمتعة، وأن حياتهم الشخصيّة تُماثل حياتهم على الشاشة. درجت هذه الخدعة في زمن الأبيض والأسود، وأفلام هوليوود، صانعة الأحلام الجامحة والأحزان الرهيفة. ولم يكن من المستغرب أنّ الدموع كانت، من شدّة التأثّر، تفيض من العيون، سواءً دموع الفرح أو الحزن. وما زالت بعض المسلسلات العربية تلعب على وتَر العواطف، فتسويقُها رابحٌ، والدفاع عن هذا الأسلوب مستساغ، باعتبار أنّ الفن محاولةٌ  لشدّ الناس إلى عوالم البهجة، لينسوا متاعب الحياة ويرفّهوا عن أنفسهم بالأغاني والموسيقى والفُكاهة. أمّا بشأن الدموع والأحزان، فكانت تطهيراً للنفوس.

هذه الموجة، اتّسع لها الزمن المقاوم والممانع، وهو زمنٌ امتدّ خمسة عقود. وإن انتهت قصّة المقاومة والممانعة، فإنّ التغنّي بها لم يفتُر. خلالها، رفع المسرح والدراما التلفزيونية لواء النقد البنّاء، وهي فترة ذهبية صعد فيها نجومٌ ونجمات إلى قمّةٍ صنعَتْها مهرجاناتُ النظام، وما كانت تُغدقه على الفنانين من جوائز.

جرى الاعتقاد عند بعضهم أنّهم لا يمثّلون آلام الناس بقدر ما يعيشونها، وأنّهم ينتقدون ما يقع عليهم، من أجل غدٍ أفضل. في الواقع، لا يمكن الاستيلاء على اهتمام الجمهور والناس إلّا بالتعرّض إلى موضوعات تمسّهم، وتمثّل مبعث ضيقهم، أو مصدر عذاباتهم، وأيضاً تطلّعاتهم وطموحاتهم. فالفنّ يخاطب الناس بما يعنيهم وما يكون الأكثر التصاقاً بهم، ما يُلغي المسافة بينهم وبين الشاشة. ليست السينما رسوماً متحرّكة فقط. والممثلون ليسوا خيالاتٍ على الشاشة؛ إنّهم من لحمٍ ودم؛ أشخاصٌ مثلنا. وإذا اكتسبوا الشعبيّة والشهرة، فلإحساسِنا أنّهم يعانون ما نعانيه، أو هذا ما قد نظنّه. للأسف، ذلك خطأٌ نقع فيه، إذ لا يُشترط، إن كانوا مثلنا، أن يعانوا ما نعانيه، بل قد يكونون ضدّنا إذا جدّ الجد، فالتمثيل هو التمثيل.

إلى أن جاءت الثورة التي عمّت المنطقة. كان من المفترض أنّ الفن، الذي بشّر بها، هو الأشد إخلاصاً لها، خصوصاً أنّ الحقيقة استجرت حقائق كانت خافية، وفضحت ما كان معروفاً، أي أنّ الناس تجرّأوا على قول ما يعرفونه، ولم يعودوا يقبلون به، فلم تتوقّف الاحتجاجات والمظاهرات، بل غدت انتفاضة، فثورة.

تنبّأ كثيرون، في خضمّ الثورة، أنّ كاميرات الفن قد تحرّرت، وستقتحم المناطق الممنوع الدخول إليها، وتخترق الخطوط الحمراء، بعدما كان الحظر هو السائد. لكنّ ممثّلاً أو مخرجاً واحداً لم يتجرّأ على استعادة ما جرى في سجن تدمر ــ في ذلك العهد الميمون الذي بدأ في السبعينيات ولم ينته حتّى الآن ــ ولا ما يجري في زنزانات أجهزة المخابرات من تنكيلٍ بالناس، ولا المشاهد المُهينة في المداهمات، أو الصفقات الجارية بين أركان الفساد… كلّها كانت تشكّل مادّةً لتوجيه الاتهام إلى النظام عن جرائم ارتُكبت على مدى نصف قرن. فالدراما لم تكفّ عن التلميح والإشارة اليها بأساليب كوميدية، وأحيانا واقعيّة. لذلك كانت التوقّعات أنّ هذه المادة الوفيرة ستكون سنداً للفن في معركته مع الأنظمة الشمولية كافّة، خصوصاً أنّ الثورة حقّقت ما دعا إليه الفنّ، الذي كان منتظراً أن يكون داعماً لها.

لن يكون لهذه التوقعات أن تتحقّق، مع أن الفنّ لم ينقلب على نفسه، بل انقلب الفنّانون على صورتهم، وانساقوا إلى ما كانوا ضدّه، وتقمّصوا أدواراً جديدة، تتلاءم مع صناعة أفلامٍ عن الشعب الإرهابي. أصبح شبّيحة التعفيش أبطالاً، وبُورك الجنود في غزوات النهب، واصطُنعت من عسف مخابرات القمع مغامراتٌ كشفت المؤامرة الكونية. أما الديكور، فالخراب والدمار، وهي الشيء الوحيد الذي كان حقيقيّاً.

لم يعد التمثيل إلّا تمثيلًا. أفرطَ في الدّجَل. بعدما حوّل صنفٌ من الفنّانين أكاذيب النظام السوري إلى حقائق، وعذابات شعب مادّةً للتشهير بالثورة. لم يعد القتل والتهجير إلّا مادة للاستخدام والاستغلال، في فبركة تمثيليّاتٍ وأفلام وروايات.

هذه قصّة حزينة للفنّ، داخل الستار الحديدي، أبطالُها رعيل من الفنانين، انضمّوا إلى فصيلة من المثقّفين كانت من إنتاج عهود الطغيان. لكنّ هنالك قصّةً أخرى تُصنع في الداخل سِرّاً، وخارجاً، في المهاجر والمنافي: فن طليق، حرّ ومتحرّر.

(العربي الجديد) (اللوحة – كيماوي 2 – للفنان علاء حمامة)