سجّل الوسط الثقافي خلال السنوات القليلة الماضية خسارات فادحة أصابت قدراً لا بأس به من مثقفين كانت لهم إسهامات مرموقة في الحقل الثقافي. فمثلاً في سورية، حنا مينه في الرواية، الطيب تيزيني في الفلسفة، ومؤخراً حاتم علي في الدراما، وكثيرون غيرهم في البلدان العربية. وتراوحت ردود الفعل في الاعتراف بفضلهم، وأحياناً التمجيد إلى حد النفاق والرياء، أو اتهامهم بالخيانة والأنانية وعدم الوفاء.
لا تتسع مناسبة الوفاة، لتصفية الحسابات، ولا للتقييم بإنصاف، إذ يغلب على لحظة الموت المبالغة من الأصدقاء والخصوم معاً. ولقد قيل في استهجانها إنها خلّة عربية ونقيصة مشرقية، فقد أتاحت لنا صفحات التواصل الاجتماعي أن نلصق بأنفسنا، كل ما يسيء إلينا، كنوع من التشفّي، يتفاقم مع ما نشعر به من إحباط.
يحفل التاريخ بهذه المواقف المتناقضة من الراحلين، وإذا استشهدنا بالوسط الثقافي الغربي، فللتأكيد على أنها ظاهرة عامة تشمل الثقافة دونما استثناء في الشرق والغرب، وإذا كانت نقيصة فهي تطاول الجميع. ويمكن اعتبارها من طبيعة المجتمعات الثقافية المشحونة بالخلافات كأي مجتمع آخر.
اعتبر الشعب الفرنسي فيكتور هيغو “أمة في رجل”، ورغم هذا بدأ النزاع حوله وكان ما يزال على فراش النزع الأخير، وشهد سجالاً حاداً بين اليمين واليسار، وأبدت الكنيسة استعدادها لإعادة الصلة معه ومنحه الغفران رغم تهجماته عليها، كان في إعادته إلى الكنيسة مكسب كبير لها. تذرعت العائلة بتنفيذ وصيته التي يقول فيها: “أرفض صلوات الكهنة من جميع الكنائس. وأطلب الصفح والمغفرة والدعاء من كل الناس، وأؤمن بالله”.
أدانت صحافة اليمين الأشخاص الملحدين الذين يحيطون بالمريض ويمنعونه من العودة الى الدين في لحظة الموت. بينما أدانت الصحافة اليسارية الملاحقة التي يتعرض لها الشاعر من قِبل الأوساط المحافظة. مات أديب فرنسا الكبير بكل وداعة وسلام وهو محاط بأقربائه وعائلته. أُبلغ الخبر إلى الصحافة، فهبّت باريس عن بكرة أبيها لوداعه والاحتفال به. لم يبق شخص إلا وشعر بهول المصاب، وتدفقت الجموع من الأحياء العمّالية الفقيرة إلى الأحياء الراقية.
اعتبرت جنازة فيكتور هيغو مسألة وطنية تخصّ الدولة. فاجتمعت الوزارة عدّة مرّات للإشراف على التحضيرات وتحديد مسار الموكب بدءاً من بيته وانتهاء بمقبرة العظماء مروراً بالأحياء الراقية. المشكلة هي أن البانيتون ـ مقبرة العظماء ـ كانت عندئذ كنيسة! فأصدرت الحكومة قانوناً صادرت به الكنيسة وحوّلتها إلى ملكية للدولة.
عندئذ تزعّمت الحملة “جريدة الصليب” بمقالة هجومية بعنوان: “انتصار الشيطان” وهاجمت الحزب الجمهوري العلماني، واتهمت الحكومة بأنها وثنية وأنها طردت السيد المسيح من المبنى لكي تُدخل فيكتور هيغو إليه.. وعلى هذا النحو استمرت المناوشات بين الحزب الديني الأصولي، والحزب الجمهوري العلماني. وهو صراع اخترق على الدوام تاريخ فرنسا الحديث.
في يوم تشييع الجنازة، جذبت شوارع باريس جماهير غفيرة، لم يحظ بها تشييع الملوك او الرؤساء. كان هيغو ملك فرنسا المتوج. أليس هو أمير الشعراء وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة في آن معاً؟ مثّل عظمة فرنسا أكثر مما مثّلها رؤساؤها وملوكها، ولا أحد يستطيع أن يُنافسه على عرش المجد.
صبّت صحافة اليمين المتطرف جام غضبها على فيكتور هيغو وعلى عائلته: إذا كان هذا الشاعر شعبياً إلى مثل هذا الحد فذلك لأنه كان يدغدغ الغرائز الدنيئة للناس، إنّ جنازته عبارة عن تظاهرة جهنمية للديماغوجية الديمقراطية.
المستغرب أن موقف اليسار المتطرف لم يقل هجومية عن موقف اليمين المتطرف، على من؟ على صاحب رواية “البؤساء”!! فقد أصدر بول لا فارغ صهر كارل ماركس منشوراً عدائياً تحت عنوان “أسطورة فيكتور هيغو”. وفيه يدين ديماغوجية هذا الكاتب الذي عرف كيف يستميل عواطف الجمهور لكي يكسب أكبر قدر ممكن من المال، والذي استغل بلاغياً البؤساء والفقراء وإن بدا وكأنه يدافع عنهم، بينما في الواقع كان يدافع عن قيم الرأسمالية.
عقب وفاة أديب أو سياسي أو فيلسوف، يجري الخلاف حوله، وكثيراً ما يتجاوز تقييمه، إلى إضفاء العظمة عليه، أو التنكيل فيه إلى حد الشتيمة.
لا يمكن فهم هذا التاريخ، إلا إذا أدركنا، أنه من المعتاد وقوف المتطرفين من اليمين واليسار في جانب واحد.
(العربي الجديد) (اللوحة رسم لجنازة فيكتور هيغو عام 1885 (Getty))