المثير في ما يقع من أخطاء في تقييم الأعمال الأدبية أنها لا تنجم دائماً عن الغيرة والحسد، آفة الثقافة والمثقفين، أو عن الاستسهال في إبداء الرأي، والتعسّف في التعبير، والضعف في المحاكمة، ولا حتى هشاشة الأدوات النقدية، وعدم توفر منهج واضح في مقاربة العمل الأدبي. بل بالرغم من توافر النقد والناقد، هناك أعمال أدبية نالتها انتقادات ظالمة، ولحقها غبن في التقييم. الأمر الجيد، أنّ من إيجابيات النقد إعادة النظر في ما ارتكب من أخطاء، ربما كانت عن تسرّع. فالنقد قابل للنقد، وأحكامه ليست نهائية. بعد سنواتٍ، مهما طالت، ينفض الغبار عن الكِتاب، وينقض الحكم الجائر، ويجري الاعتراف به، وتستقر مكانته في تاريخ الأدب، أو يبقى خاضعاً للأخذ والرد.
شارل – أوغستان سانت بوف، واحد من أهمّ النقّاد الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ومؤرِّخ لامع لتاريخ الحركة النقدية والفكرية في فرنسا، لُقّب بأديب فنّ النقد؛ لم يكن هناك مَن يفوقه فهماً لمهام الناقد والنقد. كان صاحب منهج النقد التاريخي، الداعي إلى دراسة الأدباء دراسة علمية، إلى حدّ عدم إهمال التفاصيل الصغيرة والدقيقة عنهم، تقوم على بحوث موسّعة تشمل علاقتهم بعصرهم ووطنهم وبيئتهم وعائلاتهم، إضافة إلى تكوينهم الثقافي وأخلاقهم وأمزجتهم وتربيتهم، تقاليدهم وعاداتهم، الملامح النفسية والعقلية، جوانب القوة والضعف في شخصيّاتهم… كلّ شيء يخصّهم.
منهج سانت بوف، حسب قوله، استلزم معرفة أخلاق الكاتب، وميوله، وطباعه، ومزاجه، من أجل الوصول إلى حقيقته، فلا يظنّ أحد أن لا علاقة لها بالكِتاب. وظيفة النقد الأدبي حسب منهجه: هي النفاذ إلى ذات المؤلّف، لتستشفّ روحه التي وراء ما يكتبه، ما يضع الناقد نفسه موضع الكاتب.
هذه البحوث كانت تمنحه القدرة والمهارة على التماهي مع شخصية الأديب الذي يقع تحت مبضعه، ما يحيله إلى رجل عادي من دون هالات، أو تمثيليات يُتقنها بعض كبار الأدباء عن أنفسهم، بعد تجريده منها تغدو أفكار الكاتب مألوفة، وشطحاته معروفة، فلا نستغرب شيئاً في شخصيّته، لا يميزه الكثير عن غيره. كلّ هذا يهيّئ لفهمه: ماذا هو؟ ماذا يكون؟ وحقيقة ما أنجز؟ يُصبح مجرّد إنسان، يضعه إلى جوار أعماله، ويُجري دراساته حولهما. ما دفع معاصري سانت بوف إلى الاعتراف بأنّه يمارس عمله بعمق ونقده بنزاهة.
ركّز سانت بوف على شخصية الأديب تركيزاً مطلقاً، إيماناً منه بأنّه المنتج الأوحد لكتابه، وشخصيته لها العامل الأكبر في تفسيره، وإدراك مدى عمق وقوة أدبه، وهو الفيصل في تصنيف المبدعين. كانت أحكامه تقتصر على شخصية المؤلّف، وتستقي أحكامها من حياته الشخصية، ما أوقع سانت بوف في أخطاء جسيمة، نالت من كبار كتّاب عصره. ولم يتمكن من إدراك عظمة أعمالهم، بينما رفَع من شأن كتّاب وشعراء لم تصمد أعمالهم أمام الزمن.
النهج الذي اتّبعه في دراساته أدّى به إلى وصف فلوبير بالكاتب المنحطّ، بعدما اطّلع على نزواته الجنسية ومغامراته العاطفية مع عشيقاته. وقيّم بلزاك المطارد من الدائنين واللاهث وراء النبالة بأن سينتهي بمائة كتاب لن يقرأها أحد. وقرأ أعمال ستاندال على ضوء حياته الشخصية فوجدها مقيتة وكريهة. وقال عن تولستوي، إذا كان مهماً، فبالنسبة لروسيا، أما عندنا فليس سوى موضة.
لا يعني هذا أنّه كان مخطئًا كلّيّاً. إنّ تقصّي الحياة الشخصية للمبدع والاطّلاع عليها عن قرب، قد يكون مثيراً للفضول، وهو نوع من السيرة الذاتية التي تلهث وراء حياة المبدعين وتُكتب فيها وحولها عشرات الكتب. فحياتهم نبع لا ينضب من التأويلات ومحاولات الاكتشاف، وقد تساعد على تقييم أعمالهم، لكنّها ليست معياراً نقدياً يُعتمد عليه. يكتب الكاتب وحيداً، ولا شكّ أنّ شخصيته في عزلته ليست هي ذاتها في المجتمع، أو بين أقرانه. ولا غرابة في القول إنّ للكاتب أكثر من شخصية واحدة؛ إنّه بشكلٍ ما منتحلُ شخصيات، وربما أصدقها عندما يكتب أعماله، ولا تكتسب عظمتها إلّا لأنّه في وحدته يواجه ذاته والعالم والحياة معاً.