كان زمن، لم يكن من الممكن التعرّف فيه على عوالم مجهولة، أو لا وجود لها، إلّا على أنّها محض خيال، وفي أحسن الأحوال، من خلال التخيُّل، كما في “ألف ليلة وليلة”. فيما بعد، أصبح التعرّف على عوالم واقعية قضية يُحتمل وجودها، تطال بالخيال أيضاً، ما سيمتد إلى عوالم واقعية بمتناولنا السفر إليها، أو مشاهدتها على شاشة التلفزيون.
حتى في هذه الحالة، لم يتراجع الخيال، ونشأ ما يمكن دعوته بالعوالم الواقعية المتخيَّلة، أي أنه رغم واقعيتها، لم تكن معرفتها تجري إلّا عن طريق الخيال، وفّرتها الرواية والأمثلة كثيرة، فنحن تعرّفنا في يفاعتنا على جزيرة الكنز لـ روبرت ستيفنسون، طبعاً توجد جُزر دَفن فيها القراصنة كنوزاً، وهو أمر كثيراً ما تردّد، وما زال صيّادو كنوز البحار يبحثون عنها حتى الآن، فصنع ستيفنسون منها رواية، كذلك رواية “قصة مدينتين” للإنكليزي تشارلز ديكنز عن الثورة الفرنسية، دارت أحداثها بين باريس ولندن. هذه معالم تعرّفنا إليها وتعرّفت إليها الأجيال التي سبقتنا، كانت من صناعة الخيال، جرت في خريطة واقعية.
كما كان الخيال يُسهم في متح الرواية من التاريخ بما فيه من أحداث وشخصيات، ربما كانت هكذا بالكامل. بيد أنه سيأخذ مادته أيضاً من واقع نحن نعيش في عوالمه، أقربها إلينا؛ عالم المافيا الذي عرفناه من رواية “العرّاب” لـ ماريو بوزو. تلتها سلسلة أفلام مافيا “العرّاب” بتوقيع فرانسيس فورد كوبولا، وكان من فرط نجاحها أن أصبحت المافيا على قائمة شركات هوليوود السينمائية. لم تعُد أفلام الجريمة مقتصرةً على المجرمين المعروفين من أصحاب السجلّات الاجرامية كآل كابوني وبوني وكلايد وغيرهم.
لولا ماريو بوزو لم يكن لهذه النقلة الحدوث بشأن المافيا، وكانت بموجب المعلومات الكثيرة التي جمعها عنها، ما أمكنه بالخيال اقتحام عالم المافيا المغلق، حتى أنه أصبح عالماً مباحا للأدب والسينما. فقد استطاع بقسط كبير من المعلومات بناء عالم متخيل يماثل الواقعي، كذلك فعل غيره من الروائيّين، سبقوه أو جاؤوا بعده، استطاعوا بناء عالم روائي بالطريقة ذاتها، وفي الواقع هكذا تُبنى الروايات.
ولنتكلّم بوضوح: الأدب هو عالَم الافتراض! قد يبدو هذا الاستنتاج غريباً، هل كنّا نتعامل مع عوالم افتراضية من خلال الروايات، مكتشفة قبل حلول عالم الافتراض؟ فإذا كانت الروايات مجرّد افتراض، ما المبرّر لقراءتها؟ هذا ما سوف يعتقده بعضنا، في نقاش يدور حول حصّة الواقع فيها، إذا كانت متخيَّلة، فلماذا نأخذ بها على أنها واقعية، ما دام لا يمكن حدوثها إلّا في الخيال؟ هذا رأي قرّاء يقرأون الروايات على أنّها ليست افتراضاً روائياً، بل من منطلق قابلية حدوثها في الواقع، وهُم يستأنسون بها من هذا الباب، بينما هناك كثيرون يعتقدون أن الأدب سبب كاف للقراءة، سواء كان افتراضياً أو لم يكن، إنّ الواقع غير مهم، العوالم الخيالية ترضيهم، وليس لديهم أي مانع من الخيال، يمنحهم متعة لا يستطيع الواقع منحهم إياها.
لنعُد إلى الذين يعتقدون أنّ مجرّد الافتراض مانع للقراءة، ما يطرح سؤالاً، لماذا ينبغي علينا أن نقرأ الأدب؟ أو بصيغة أوضح: ما فائدة الأدب؟ هل هي ظاهرة مخادعة غير صحّية؟ ما نصيب الواقع في الافتراض؟ ما يصح في الإجابة عن هذا الالتباس هو أنها عوالم واقعية، وليست خيالاً محضاً، إذ إنّها مستقاة من الواقع، أمّا نصيبها من الواقع والخيال، فلا يمكن تعيينه. إنّ المزج بينهما هو شأن الروائي، ولو عدنا إليه، فلن يدري فعلاً كيف حدثت هذه الخلطة، ولن يهتم بما إذا كانت حقيقية أو افتراضية، بمعنى ما: هكذا خُلقت في ذهنه.
ولن تكون هناك مشكلة إلّا في تزوير ما استُلّ من الواقع، ونقع في افتراض زائف ليس إلّا واقعاً ليس بواقع، ولا عجب هناك من حوّل ثورة إلى إرهاب، بناء على سردية زائفة تخصّ شعباً بأكمله. ليست المشكلة في الافتراض نفسه، وإنما في أنه يكرّس واقعاً يزوّر الحقيقة.
(العربي الجديد) (اللوحة: “مراكب” جزء من عمل شفيق بورصلي، 1983)