حسب التقديرات المتفائلة للأنظمة، ذهب الربيع العربي إلى غير ما رجعة، وغاب عنها أن طريق العودة ما زال سالكا، هناك من لا يجهلونه، بات معروفاً، وريثما يعود عاجلاً أو آجلاً. برزت مشكلة التطبيع، ماذا عنه وقد شهد إخفاقا ذريعا في مصر والأردن، بينما الآن تحرز الأنظمة العربية تقدما ملموسا نحوه؟
تعيشت الحكومات العربية طيلة أكثر من نصف قرن على القضية الفلسطينية، والآن قررت التعايش مع إسرائيل، ليس من باب أنه مسألة شكليات، بل التغلغل في العمق، فالفرصة سانحة، شعوبها مسيطر عليها، وأميركا راغبة في تحقيق إنجاز يحسب لها، والأنظمة تريد التخلص من العبء الفلسطيني، والدخول في جنة السلام الإسرائيلي تحت الرعاية الأميركية، والروس يسارعون لإرضاء الصديق الإسرائيلي، العالم تغير، لم تعد هناك قضية فلسطينية، حتى القدس أصبحت عاصمة إسرائيل، القضايا الكبرى انطوت في الماضي، بانتظار الدفن في التاريخ.
أما حصار غزة، والأسرى المضربون عن الطعام، والبيوت التي تهدم، وسرقة الأراضي، واعتداء المستوطنين على الفلسطينيين، وسلسلة لا حصر لها ممن القضايا المعلقة، فهي قضايا جزئية، ستجد حلًا على الهامش، وماذا إذا لم تجد حلًا؟
حدّثت الحكومات دعاواها في المقاومة، إما أن تستسلم للأعداء، أو تناضل ضدهم، مع الأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن الانتصار على الأعداء الجدد إلا بتحييد الأعداء القدامى، أي بتحييد إسرائيل، بل والعمل على ضمها إلى معركتنا القادمة، أن تكون معنا أفضل من أن تكون ضدنا. فبدأت حملة التطبيع تظهر للعلن، سواء استسلمت بعض الأنظمة سراً وبعضها جهراً، بادرت إلى الاصطفاف، نظاماً وراء نظام، كل منها ينتظر حلول دوره، فالترتيبات على قدم وساق، في الظهور تحت الأضواء وأمام الكاميرات، إنها لحظات تاريخية، كل حكومة تريد تسجيل لحظتها التاريخية الخاصة؛ هناك مكافآت أميركية، ووعود إسرائيلية.
سبق التطبيع الأخير على مدى سنوات اتصالات وتفاهمات وتوافقات، كانت بمثابة التطبيع الفعلي، ريثما أعلن الرسمي. بالنسبة للشعوب، استعيدت الأسئلة نفسها، ماذا عن حقوق الفلسطينيين؟ ماذا عن الأراضي المحتلة؟ ماذا عن الشهداء؟ ما زال المشهد نفسه على الرغم من تدهوره.
ببساطة، كل شيء على حاله، ويزداد سوءا، الحقوق مسلوبة، والأراضي سليبة، والشهداء شهداء. أما الحجة، فتأخر ساعة الشعوب عن ساعة الأنظمة. من هذه الناحية، الشعوب متخلفة لا تتطور، تفتقر إلى الواقعية، ما زالت تعتبر إسرائيل العدو التاريخي لها. أما الأنظمة فواقعية، واقعية جدا، تريد البقاء إلى الأبد.
لن تتردد الحكومات على مختلف أنواعها، عن الزعم بأن أعداءها تكاثروا عليها، مع الاختلاف حول الأعداء، فأعداء بعض الحكومات أصدقاء لحكومات أخرى، بعدما أضيف إليهم ملالي إيران وتركيا أردوغان، عدا عن الأعداء التقليديين الأميركان والروس، لكن من دون تشدد، فعدو اليوم قد يصبح صديق الغد، طالما لا حساب ولا حسيب، فالشعوب مصابة بالبكم، ما دام إعلام السلطات، تحت إمرته جيش من الصحافيين والمحللين السياسيين، يميلون حيث يميل.
المثقف في هذا المنعطف، ولا نقول الخطير، خاصة أن منعطف الربيع سبقه، وكان خطيراً، أنتج وضعاً ثورياً مثالياً، ففي سوريا، قضى عليه جيش البلاد بمؤازرة من الميليشيات والمرتزقة، وما يدعى بالشبيحة، ولم يتخلف عنه مثقفو النظام من سياسيين ومتأدبين وفنانين ودراميين. قاموا بالإغارة عليه، وحذروا من الانخراط فيه، وأبطلوه بحجة ارتباطه بالإرهاب.
هل يكون منعطف السلام المُدَبّر أفضل، ويبادر المثقف لمواجهته بالقلم، وذلك أضعف الإيمان، باتخاذ موقف منه، ليس كقضية فات أوانها، ولا موضة ذهب زمانها؟ بل كقضية لا تنازل عنها، ببساطة، المثقف مخير بين تأييد الدول المهرولة إلى التطبيع، أو الوقوف إلى جانب شعبه الرافض للتطبيع. هل نأمل ألا يربط المثقف الذي يدعي بعد النظر، موقفه بموقف الأنظمة؟
لن يعدم المثقف المطبع ابتداع الحجج للانقلاب على ما نادى به، واكتسب سمعته الوطنية من جرائه، لن يجد عناء، فهو لا يعدم الذرائع، للشيء ونقيضه، السياسة إلى جانبه، تحلل الحرام، وتحرم الحلال، بل ويمكنه البرهنة على أن التطبيع تحرير لفلسطين. أما الأدباء فلا تنقصهم الذرائع، يمكنهم الزعم بأن الأدب لا علاقة له بالسياسة، فهم يكتبون أدباً غير مسيس ولا مؤدلج، والفن عدو السياسة. بالتالي المكاسب سريعة؛ لن يخسروا الدعوات المرفهة إلى المعارض والندوات، وما تجلبه من مال ومآدب. وتنفتح الأبواب أمام صيادي الجوائز، ينالونها مكافأة على مواقفهم التي ستحول التطبيع إلى نعمة على الأدب والإنسان والإنسانية.
في انتظار، أن يحسم المثقف أمره، فهي معركته بالدرجة الأولى، نعرف أن هذا الخيار لن يكون امتحاناً مؤلماً للكثيرين منهم، فهم مع التطبيع، إن طبعت الأنظمة، أو لم تطبع، فلن يتأخر المحتوم. بالمناسبة، لا منة للثقافة ولا للمثقف، ففي الانحياز إلى فلسطين ضد التطبيع، انحياز للضمير الإنساني، وأبسط ما يفعلونه كموقف أخلاقي.
يشكل التطبيع حقيقة مؤلمة، ما دامت الهرولة إليه مشهدا لن يتغير، وإذا أصبحت فلسطين في ذمة التاريخ، فالسؤال ماذا عن الحق والعدالة والحقيقة؟ عندئذ، لن يكون السؤال الجوهري سوى: لماذا المثقف؟
*تلفزيون سوريا