عبد الناصر حسو، كاتب وناقد ومدرس سابق في المعهد العالي للفنون المسرحي.
مجلة أوراق العدد 13
المسرح
ارتسمت إشارات الاستفهام حول الفنون الأدائية الأكثر انتشاراً بين الشعوب في بدايتها، كانت الحدود بينها غامضة، متداخلة، فيما إذا كانت تقليداً أدائياً، غناءً فنياً، أدباً شفهياً، أم تاريخاً للشعوب، تلاشت الحدود فيما بينها، وأصبح كل أداء حقلاً فنياً مستقلاً بذاته ولذاته إلى أن ألغيت الحدود ثانية في زمن الصورة المرئية الذي نعيش فيه.
تتأتى خصوصية الأدب الكردي القديم من أنه أدب شفهي وليد معتقدات الكرد وأفكارهم ونظرتهم للكون بالعلاقة مع بيئتهم، يُؤدى روياً وغناءً في مجالس الأمراء والأعيان وزعماء العشائر الكردية في كل ليلة، باعتبار الشفهية مصدراً مهماً من مصادر المعرفة والثقافة، ومع استمرارية حرمان الكرد من تعليم لغتهم وتدريسها، انتقل الأداء الشفهي إلى المقاهي ومجالس الأصدقاء وسهرات الأفراح والأعراس والساحات العامة عبر المغني والحكواتي ليس لإعادة التاريخ الكردي وصياغتها بقدر ما كانت للتسلية والمتعة، فأصبحت الشفهية هي السمة الأساسية لفنون الأداء الأكثر قدماً واقبالاً في ظل غياب اللغة الكردية المكتوبة، وهذا لا يعني أن النخبة الكرد المثقفة لم تتعامل مع الكتابة والقراءة والتدوين، بل أغنت مكتبات العالم العربي والتركي والفارسي بمؤلفاتهم التاريخية والمعرفية والفقهية والادبية والثقافية، واستمر منع اللغة الكردية كتابة وأيضاً في بعض المراحل تداولاً شفهياً، فتحول إلى ثقافة قومية كردية تأويلاً وكتابة وأداءً في إشارة تلميحية إليها ضمن أنشطة ثقافية وأدائية ومسرحية كردية إلى فترة قريبة، كانت تستوجب عقوبة السجن.
يعتبر فن الأداء، غناءً وروياً، من أقدم أشكال التعبير الفني في تاريخ الثقافات لدى جميع الشعوب والأمم، يعتمد بشكل أساسي على قوة الذاكرة، والارتجال وسرعة البديهة وعلى العفوية بالرغم من تحضيره مسبقاً، حيث يتزامن الاداء والاستقبال في فضاء واحد، إلا أنه ليس فضاءً محايداً أو مفصولاً عن واقعه، إنما فضاء تكويني، لا وجود لأداء في غياب المتلقي.
تتراوح فنون أداء العروض من الموسيقى الغنائية والعزف على الآلات الموسيقية والرقص والمسرح والغناء والرياضة، إلى التمثيل الإيمائي وإلقاء الشعر، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك. وهي تشمل العديد من أشكال التعبير الثقافي التي تنعكس فيها روح الإبداع البشري، والتي تتواجد كذلك، بحدود معينة، في كثير من مجالات التراث الثقافي غير المادي الأخرى.
تاريخ الكرد هو تاريخ الأداء (الغناء الملحمي وسرد الحكايات والقصص) الذي سيطر على كافة الأشكال التعبيرية الاخرى، وازدهر في الفترة العثمانية بشكل لافت، وارتبط هذا التاريخ عبر تمظهرات وتعابير فنية بزعماء العشائر الكردية وفرسانها، ورغم ذلك، لا يمكن التكهن بأن أيُّ الأشكال التعبيرية هي الأقدم عمراً، أغاني الرعاة، أم التراتيل الدينية داخل المعابد وعلى أضرحة القديسين، أم تعاويذ السحرة والمنجمين أثناء سفر أحد أفراد العائلة، ومع ذلك، فكل الملاحم المُغناة والتراتيل الدينية والأغاني الشعبية كانت تعكس المشاعر والأحاسيس والأحلام والمخاوف والآمال الانتصارات والهزائم باختلاف المناسبات والتقاليد.
ثمة نوعان من المؤدين، الاول مؤدي التراتيل وهو كاهن المعبد وجوقته، الذي كان يقوم بترنيمة الأناشيد الدينية وعزف الموسيقى أثناء الطقوس داخل المعبد وأثناء إقامة مراسيم الدفن في المقابر. والثاني أغاني الرعاة، التي تعتبر هي الأقدم أيضاً في التاريخ، كان الرعاة يمتهنون الغناء والعزف على الناي لأغراض التسلية وقطع الوقت، وجمع القطيع.
الأغاني الكردية، كأدب شفهي، تحمل كل القيم السامية والمثل النبيلة وأخلاق العشائرية الكردية، يعتمد عليها المستشرقون في دراساتهم لإعادة بناء صورة المجتمع/ العشيرة. في حين أن نفس الأغاني التراثية القديمة التي تُؤدى في نهايات القرن العشرين تعيد بناء صورة المجتمع الكردي في ظل التكنولوجيا الآن/ هنا، باعتبارها كانت تخاطب جمهوراً (أمياً) لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فتحدثهم عن البطولات والحروب التي قام بها الفرسان.
ثمة رأي يرى أن التراتيل الدينية، قد تكون هي الأقدم في تاريخ المجتمعات الإنسانية، تًنشد على أضرحة القديسين في المناسبات الدينية، خاصة على أضرحة القديسين الإيزيديين، وفي أعيادها مع الموسيقى بمصاحبة (الدف والناي).
يصف باسيلي نيكيتين عن لايارد، تراتيل الإيزيديين أمام ضريح الشيخ آدي كشاهد ومستمع في آن واحد: (كان احتفالياً حزيناً، يقول لايارد، لم أسمع طيلة حياتي غناءً أبعث على الحزن وألصق في الوقت نفسه بالقلب، من ذلك الغناء. لقد كانت أنغام المزمار تمتزج بعذوبة مع أصوات النساء والرجال التي كانت تتوقف بين حين وآخر لتترك المجال للصناجات والطبول)([1])، كما أن النصوص المسمارية والرسوم على جدران الكهوف، تشير إلى أن الغناء لم يقتصر على الرجال فقط، بل شمل النساء أيضاً. ومنذ اللحظة التي يقرر فيها الناس حضور الطقس الديني، يصبح مشاركاً في الأداء. وفي بعض الأحيان قد يشارك المستمع في عملية خلق الأغاني الملحمية، ومصير بعض أبطالها، لأنه يؤثر في تداولها وتجويدها. إذ كان يتدخل في عمل المنشد ويطلب منه التعديل أو التبديل، الإضافة والاعادة أو الحذف.
سأورد مثالاً هنا حول أهمية الإنشاد والموسيقى الدينية عند الإيزيدية، تقول الرواية الاسطورية الإيزيدية إنه: (عندما كلف الله الملائكة وعلى رأسهم طاووس ملك، بتحويل الارض المغمورة بالمياه إلى يابسة، أرادوا أن ينصبوا خيمة في مكان ما، (لالش)، غير أنهم لم يجدوا أوتاداً لشد حبالهم بها، فأخرج العازف الخارق (قاضي شلو) طنبوره كما يقول الفنان إبراهيم كيفو، وبدأ يعزف معزوفته المتوارثة إلى يومنا هذا، فمدت الاسماك رؤوسها وتحولت إلى أوتاد ربط الملائكة حبال خيمتهم بها، واستقروا هناك، وبدأوا بالتكوين بأمر من الله)([2]).
لقد عرض نيكيتين ميزات الأغاني الكردية، وأبرز أهميتها في الحياة، وهو يذكر، (إن أشد القبائل الكردية بؤساً، غنية في أغانيها وألحانها ولا تتردد أقاصيص أغانيهم التي تسرد وقائع الحروب، عندما يتحركون صوب المراعي الجبلية أو يتوقفون فوق القمم الصخرية فقط، بل وبين حضريّيهم المستقرين في الوديان أيضاً، ويُجمع المغنون حولهم في الأماسي أهالي القرية، ويثيرون شجونهم بأغانيهم عن أبطال شعبهم من المحاربين القدماء أو بقصائد عن الحب والفراق وآلامه، إن الأنغام التي كانت تنطلق من حنجرة المغني عمر آغا، وإيقاعاتها التي كانت مسرعة أحياناً واخرى بطيئة، وتحريكه للكلمات بالنبرات وتثاقله في أدائها.. تثبت قدرته على الغناء بعمق وذكاء وعاطفة رغم أنه لم يتفهم معاني النصوص)([3])
التراث الكردي، تراث شفهي بامتياز، يُروى ويُغنى ويُؤدى باللغة الكردية في مضافة الزعماء والأمراء ووجهاء العشائر أمام جمهرة من المستمعين، والمؤدي الكردي يؤدي ويغني ويمثل في كل مناسبة، ليؤكد على بقائه وحضوره واستمراريته في الحياة، هذا هو حاله. في حين أن التراث الكردي المكتوب، كُتب بغير الكردية من قبل المثقفين الكرد في العصور الماضية، ولازال يُكتب في المنافي الأوروبية، وبقيت الملحمة الغنائية كما هي تُغنى وتُروى بالشفهية، وفي حال تدوينها ضمن صياغات التدوين المعروفة في العالم، كإعادة الكتابة، أو إعدادها، أو تأويلها، وتعالقها/ تناصها، لم تستطع التخلص من الشفهية، ولم تكتسب سمات الكتابية، وبقيت ميزة الشفهية متعلقة فيها، رغم التعديلات والتغييرات التي طرأت عليها، وغالب الأحيان تُضاف وتُحذف منها الأحداث، لتلائم احتياجات المجتمع الذي يعيش فيه المنشد أو المؤدي تماشياً مع وسائل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة.
لقد توصلت إلى فكرة بأن المؤدي/ المغني، أي مؤدٍ كان، على مر التاريخ، هو مخرج مسرحي وممثل مونودراما، يتخذ مساحة صغيرة بجانب الزعيم أو بين المستمعين، ويبث إشارات لفظية وغير لفظية. في مضافة الزعيم حيث يجتمع الناس فيها كل ليلة لسماع أغنية أو حكاية أو قصة شعبية، يضع بصمته على الرمل، ويرحل، وربما يرسم لوحته على الماء بأجساد ممثليه، فيجرفها الطوفان، إن لم يوثقها بالصوت والصورة، والعرض المسرحي لم يترك وراءه إلا شذرات من بعض الصور التذكارية والمقالات الصحفية اليومية حتى الآن، كما الأغنية التي تحتفظ في الذاكرة المعرضة لأمراض النسيان والشيخوخة، ولم يبق منها إلا العنوان، ورغم ذلك، تمنح الأغنية الشفهية خيالاً خصباً وتصورات لكل مستمع مختلف عن تصورات المستمع الذي يجانبه.
أتعامل هنا مع المؤدي/ المغني بأنه مخرج وممثل وموسيقي مبدع بامتياز، يستعرض قدراته الادائية لإقناع المستمع بأن الأحداث تجري أمامه، ويمكن أن يتصور ما يشاء، فيحقق معادلة ثلاثية الأبعاد هي: (أنا/ الآن/ هنا)، لذلك، فهو ليس راوياً أو ناقلاً يروي أحداثاً رغم أن البعض منهم يؤدي هذا الدور، وليس مؤرخاً يؤرخ المعارك والصراعات وإن كان يقوم بذلك، بل هو مبدع، يضيف أحاسيسه ومشاعره، ويعدّل في مواقفه أثناء الغناء، يبدأ عادة بسرد القصة، وتقديم الشخصيات، ولا يلبث أن يحولها إلى شعر يسترسل في غنائه، وعندما يكون هناك عدد من (المغنيين، يقوم أحدهم بدور الراوي، بينما يلتزم الباقون بأدوار شخصيات الرواية، ويغني كل حسب دوره، أي أن العملية أشبه بالشعر التمثيلي المُغنّى على خشبة المسرح أمام جمهرة من المتفرجين)([4]).
للمؤدي الكردي أيضاً خصوصية، قد لا نجدها لدى معظم المغنيين عند الشعوب الاخرى، فهو يعتبر أن الملحمة المُغناة وطناً يسكنه مع مستمعيه، بدلاً عن وطن ضائع، منقسم، مغتصب، بحيث يندمج في غالب الأحيان مع شخصياته التي يستحضرها، أو يسافر معها إلى فضاءاتها، فيشحّن كلماته وموسيقاه بالأحاسيس والمشاعر عبر تلوينات الصوت، وقدراته الأدائية لإثبات وجوده، إضافة إلى ارتدائه أزياء تراثية مشكلاً فضاءً من الفرجة، ليزيد من تأثير الأحداث وحضوره على المستمع، أو يحقق رغبة مستمعه للعيش في وطنه الضائع لحظة من الزمن، فتغطي الإشارات ما فوق اللغوية على الأحداث حتى إن كانت الموسيقى غير مرافقة للكلمات، ويستحضر ذاكرته المثقلة بالحرمان والجراح والقهر والظلم أثناء أداء الأغنية الملحمية، ويكون الصوت والموسيقى والمشاعر بديلاً عن اللغة المكتوبة، فالأحداث تخصه شخصياً وتخص مستمعه ومجتمعه، وطالما يفتقد إلى الدراسة الفنية الاكاديمية، فهو يستخدم بدلاً عنها براعة الأحاسيس والمشاعر والحركات التي تعتبر الأكثر صدقاً للتعبير عن ذاته الحقيقية .
عندما يؤدي المغني ملحمة كردية، فهو يحاول أن يثبت في الذاكرة الأحداث والمواقف البطولية التي جرت قبل أدائه، ويؤسس لما بعده، ويبث الروح والحركة والايماءة في متفرجه، فحركة الاداء تضاعف دلالات النص المؤدى في تموضعه مع الواقع، وتصالحه مع المستمع عبر وسائل (لغوية) منطوقة وغير لغوية (مافوق اللغوية) تتمثل في حركة الجسد التي لا تكون محايدة، والجسد منتج الإيماءات ومركز الأفعال، وقسمات الوجه ونبرات الصوت. يتحقق الأداء في حال حضور المستمع والمؤدي معاً في فضاء واحدة ولفترة زمنية متكررة كطقس اجتماعي في كل ليلة، وتكون لحظة الأداء هي لحظة الإبداع كما في إنشاد السيرة، ابتداءً من… وانتهاءً إلى.. وعملية الأداء تُقترن زمنياً ومكانياً بحضور المستمع الحقيقي وليس الافتراضي كما في الفنون القولية، وإيجاد أداء يخلق حدثاً بدلاً من أن يخلق حالة فنية لها ارتدادات بأثر رجعي، فيخلق المؤدي صوراً شديدة الالتصاق بالواقع، واقعه هو وواقع المستمع باعتباره يرسل رسالة يتلقاها المستمع، إن استحسن الرسالة، يستمر، وإلا يتوقف عن تلقي الرسائل، فأولوية الأداء هي مشاركة المغني والمستمع جسدياً وشعورياً في مكان واقعي حقيقي.
إن كل أداء يُعدُّ إعادة انتاج الواقع بدلالات جديدة، بمعنى أن كل مؤد يقوم بتأويل الحدث لصالح الواقع الذي يعيش فيه دون التغيير من قيمها الثابتة، فيسمع المستمع الحدث بخصوصيته التي تنبع من فهمه للواقع، فمن المؤدين من يقدم رؤى جديدة ومثيرة للاهتمام لحدث ماض، وبالتالي يمنح معنىً معاصراً للنص ويتجدد في كل أداء، ومنهم من يعيد الحدث فقط.
يرى الدكتور أحمد عثمان إلى أنه: (لم يكن عمل المنشد/ المؤدي مجرد إعادة إخراج لنص محفوظ عن ظهر قلب، وإنما كان بمثابة إعادة خلق لقصة معروفة في صيغة مألوفة ومعدة خصيصاً لمناسبة معينة. كان المنشد (المغني) يُدخل من التغييرات والإضافات التي يرويها ما يراه متماشياً مع ميول وقدرات الناس من حوله، الجمهور/ المستمعين، ويشبه عمل المنشد الملحمي عمل المصور الذي يختار ليس فقط الزمان، بل الزاوية المناسبة لتصوير مناظر سبق أن صورها الكثيرون، لأن هذا الاختيار في حد ذاته، يدل على مدى عبقرية هذا المصور أو ذاك المنشد)([5])، والممثل الذي يؤدي دوراً في مسرحية ما، سبقه العديد من الممثلين في تمثيل هذا الدور/ الشخصية، لكنه يؤدي بشكل يلبي احتياجات مجتمعه، يرتجل، يضيف أحاسيسه ومشاعره من خلال خبراته وثقافة عصره للشخصية ومن المفترض أن يطرح تساؤلاً (لماذا) بدلاً من (كيف)، لذلك يمكن الحديث عن تنويعات ملحمة (دوريش عفدي) التي أداها أبو صلاح، والتي تختلف عن أداء المؤدي باقي خدو ومحمود حسه، كما أن ثمة العديد من (الانتيغونات) و(الأوديبات) (الهاملتات) العالمية المبدعة في المسرح، مثلاً قدم لوبيموف نص (هاملت) برؤية جديدة لا علاقة لها بتقاليد المسرح الإليزابيثي، ولا بالأعراف التي سار عليها المخرجون الذين قدموها حتى الأن، لجأ المخرج إلى المعاصرة والاختزال، هاملت يعزف على الغيتار ويغني، يرتدي لباساً عصرياً، يتصرف تصرف شباب العصر، بينما الستارة كانت خيشاً تتحول في معاتبة هاملت لوالدته إلى عيون لمراقبة ما يجري على الخشبة.
ليست لدينا وثائق (مكتوبة أو شفاهية) حول حضور المستمع الكردي، وشروط مكان الالتقاء قديماً، وكيفية الأداء، ولا حول عملية التلقي، قد نستطيع تخيل الحضور في حالة استثنائية في المضافة، مضافة زعيم العشيرة، يجلس المؤدي في مكان عال بجانب زعيم العشيرة أو الامير، ليكون محط أنظار جميع الحضور، لذلك لا نختلف حول إمكانية ضبطه وخصوصيته في مجالس الزعماء العشيرة، وطالما أن زعيم العشيرة يسمح بإقامة هذه الأماسي وحضور نخبة من المستمعين، فهو يتمتع بشهرة واسعة الانتشار واحترام كبير بين الناس، والمستمع فرد له خصوصية تختلف عن خصوصية المجموعة ككتلة متراصة، فـ(السامع عنصر أساسي في عملية التلقي، له دلاله خاصة، ومصطلح المتلقي أشدّ دلالة على الحالة السماعية من مصطلحات أخرى، والسامع بوصفه مصطلحاً شاملاً تنضوي تحته أنماط التلقي الشفاهية أو السماعية فضلاً عن القرائية)([6]).
يتمايل المؤدي يميناً ويساراً، يضع يده أو كلتا يديه على أذنيه، مغمض العينين، غارق في أدائه، وبين الفينة والأخرى يلقي نظرات على من حوله، ربما للتأكد من أنهم مازالوا يصغون إليه، وعندما ينطق عبارات قوية، أو مواقف بطولية، تلهب أيدي المستمعين ومشاعرهم، تعلو أصوات المديح والآهات والتأييد والإعجاب (تاو… تاو… تاو)، مشيراً بأصبعه إلى جهة ما، قد يكون تنبيهاً للمستمع أو تواصلاً معه، وتمنح هذه الأصوات، جمالية الأداء خاصة في حالة التفاعل والتمايل، تتلون نبرات المغني الذي يستمد فاعليته من هذا التفاعل، ويدرك على أي مستوى صوتي يظهر عاطفته، هذا الصوت الذي يملأ الفضاء قادر على التحكم بدرجاته وتأثيراته في المستمعين، ويمنح روحه وأحاسيسه التي تشكل جزءاً من شخصيته الفيزيولوجية والنفسية، فينتشر الصوت في الفضاء، ويبهر المستمع، ما يجعل من المؤدي أن يرى جمالاً في الأشياء المحسوسة/ الملموسة ما لا يراه غيره.
المستمع يعرف أحداث الحكاية، ومصائر الشخصيات ووظائفها وصفاتها المتغيرة من أداء إلى آخر، وقد سمعها عشرات المرات من قبل وربما أكثر، ورغم ذلك يرغب في سماعها مرات أخرى للتعرف على الدوافع المختلفة للشخصيات التي يحمّلها هذا المؤدي/ المغني، ويؤكد في ذات الوقت، على انتمائه إلى مجتمع الحكاية، حيث يحرّض مشاعره بالفوز لحظة في العيش في الرواية كوطن، ويستمتع بصوت المغني ونبراته وإيماءاته وإحساسه، ليهتز طرباً ويتمايل مع الموسيقى المرافقة التي تخاطب المشاعر والاحاسيس، فيزيد من آهاته أو صيحات الإعجاب النابعة من القلب، أو صرخات الاستنكار والتحسر، كما أن المؤدي يغني حكايته من موقعه، ويستحضر فيها روحه وروح مجتمعه، أحياناً يضيف أحداثاً من خياله ما يجعلها أقرب إلى الاسطورة، فيصنع من الشخصية أسطورة لحاجة ما، قد تكون تلبية لرغبة مستمعيه.
نتفق أنه لا توجد حقيقة تاريخية، يقينية، ولا توجد قراءة بريئة وموضوعية للتاريخ (فكل القراءات، قراءات مرحلة) لأن المجتمع برمته يقع تحت تأثير خطاب الثقافة المهيمنة، لذلك، فـ(الوظيفة الاجتماعية/ الثقافية للتراث الشفهي هي التي جعلت الرواة والمغنين على مر الأجيال يحاولون صياغة النص بالشكل الذي يجذب المستمعين إليه، وهو ما يعني أن المغني/ الراوي كان يعيد إنتاج الشفهية، فيضيف إلى النص ويحذف منه، ويحمّله القيم والمضامين الأخلاقية والمثل والمواقف الاجتماعية التي تستحوذ على اهتمام المستمعين، وبطبيعة الحال، لا يمكن للمستمعين البسطاء أو يستمعوا ويستمتعوا بشيء لا يمثلهم ولا يحمل بين طياته ما يعبر عن أمانيهم وأحلامهم وتطلعاتهم)([7]) ولابد أن يكون الأداء انتقائي ومتحيز يلتقط نبض الخطابات ويتجاوز بعضها الاخرى باعتباره لا يتلاءم ما يعتقد به المجتمع.
عرض نيكيتين بعض ميزات الأغاني الكردية، وأبرز أهميتها في الحياة، حيث يذكر (أن أشد القبائل الكردية بؤساً، غنية في أغانيها وألحانها ولا تتردد أقاصيص أغانيهم التي تسرد وقائع الحروب، عندما يتحركون صوب المراعي الجبلية أو يتوقفون فوق القمم الصخرية فقط، بل وبين حضرييهم المستقرين في الوديان أيضاً، ويجمع المغنون حولهم في الأماسي أهالي القرية ويثيرون شجونهم بأغانيهم عن أبطال شعبهم من المحاربين القدماء أو بقصائد عن الحب والفراق وآلامه)([8]) وهذا النمط المُؤدى هو نتاج تمظهرات التاريخ المأساوي لهذا الشعب، وليس نتيجة نمط واحد من الأدائية التي يجيدها المغني، فينتج تبايناً في المعنى على مستوى اللغة المنطوقة، ويختار التعامل مع منظومة سردية لم يقتصر على السرد المنطوق بل يتعداه إلى تعبيرات لا منطوقة، يعود ذلك إلى خصوصية الغناء الملحمي الكردي، وتتنوع هنا أداءات المغنين حسب البيئات والمراحل الزمنية، فلكل ملحمة قصة وقعت بالفعل، تتحدث عن حدث واقعي عاشه الشعب وعانى منه الويلات، يرفعها المغني إلى مستوى الخيال وأحياناً يُؤسطرها بحيث يكون الأداء (يرتكز على إيجاد علاقة مباشرة وارتباط حميمي بين المؤدي والمتلقي مما يقود هذا الأخير إلى الاستسلام لمؤثرات الأداء، واندماجه شعورياً مع الجو العام، وتمثله لأحداث النص، وتقمصه لشخصياته بدلاً من حياديته) ([9])، لدرجة يتمكن المستمع أن يرى عبر خياله الصور والمواقف التي أداها المؤدي وأن يجعل العين تسمع الحركات التي يتخيلها المستمع قبل الأذن.
من الضروري أن نتوقف عند ثقافة المؤدي، رغم أنه مبدع يمتلك حرفية في الأداء وفي صياغة الجمل المناسبة للأحداث، ويتلمس محيطه لبناء علاقة عميقة مع المستمع، لكنه أميُّ لا يعرف القراءة والكتابة والمتعلم فيهم لم يكمل تحصيله الفني لأسباب عديدة، ولم يخضع لدورات فنية، ولا توجد مدارس موسيقية في كردستان قديماً، ومستمعه أيضاً أمي، يستمتع بالحكاية وتلوينات الصوت، يستسلم لمؤثرات المؤدي، ويندمج معه شعورياً وروحياً، يتمثّل الأحداث ويتقمص شخصية البطل، قد يكون تلقيه عفوياً، يتجاهل في كثير الاحيان فضاء الحضور، والموسيقى والاشارات غير اللغوية، مستخدماً خياله، وإن عيّر المغني حدثاً يشتاط غضباً، وطالما يدرك المؤدي أن مستمعه أمي، فهو يركز على حالة التفاعل، يتوقف عن الاداء ويشرح موقفاً كأن يقول إن المسافة بين مضارب العشيرتين هي المسافة نفسها من مكان وجوده إلى قرية أو مدينة أو مكان معروف لدى المستمع. المغني محمود حسه يغني دون موسيقى، وهذه ميزة ايجابية لإظهار قدرته في ضبط الإيقاع، ومساحات صوتية والتعبير عن حجم المشاعر
لكن بعض المغنين تجاوزوا اشكالية التفسير والتعليق باعتبار أنهم يغنون لشريحة مثقفة وواعية بالتاريخ والجغرافية الكردية، باعتباره يحمل أيديولوجيا فنية/ قومية كمثال يضيف المغني أبو صلاح (مجدد الأغنية التراثية عبر تأويلاته) مواقف تتناسب مع موقفه الايديولوجي ومثله مثل المغني جميل هورو، حول ملحمة دوريش عفدي: تُعلق على أبواب الخيم رايات خضراء وحمراء وصفراء (علم كردستان) عندما يعود دوريش إلى المضارب. فيرسم المغني مشهداً بصرياً مبتكراً في غاية الجمال والإبداع التشكيلي في مخيلة المستمع.
في الحالتين السابقتين، يعتبر المستمع نفسه أنه يعيش بشكل مأساوي في زمن الأحداث، ولا يمكن النظر إلى المغني وأغنيته على أنهما في إطار الأدب والخيال، لأن الاداء الشفهي في مثل هذه الحالة قد غيّر من الطقوسية من كونه طقساً ثقافياً ضرورياً إلى كونه طقساً مميزاً لثقافة مغايرة.
وقد يكون العازف مرافقاً للمؤدي، ففي الحالة الكردية تكون الموسيقى في الأغلب آلة الطنبور والدف، وفي التراتيل الدينية تكون الآلة الموسيقية هي الدف والناي، تعزف سماعياً دون نوتة موسيقية، بعض المغنين لا يستخدمون آلة موسيقية أثناء الأداء، وهم قلة، يعتمدون على الإيقاع الداخلي للكلمات والاحاسيس المعبرة، وغالب الأحيان يعتمد المغني على السجع والقافية بشكل أساسي.
لكن الألماني أوسكار مان، رأى أن مدارس الغناء كانت منتشرة في كردستان، يقول: (يقال إنه إلى جانب المدارس التي يديرها على الأغلب علماء الدين (الملالي) وعددها ليس بالكثير، كانت هناك أيضاً، أو ماتزال باقية حتى اليوم، مدارس أخرى ذات طابع غنائي، مدارس يعلّم فيها معلموها تلاميذهم الأشعار الفلكلورية والملحمية الكردية. يذهب الفتيان المحظوظون بنعمة الصوت الرخيم الجيد إلى الاستاذ (ماموستا) ويتلقون منه الدروس ويحفظون الأشعار من روايته الشفهية، ثم يبدأون بأدائها منغمة كما يؤديها هو، وقليل هم الذين يقرأون ويكتبون بين أولئك المغنين الذين تلقوا اختصاصهم على هذا النحو. رحمان هو الآخر الذي كان دليل أوسكار مان في هذا الميدان، كان أمياً. وإذا كان التلميذ تلميذاً موهوباً، فإنه لا يكتفي بتلقي دروسه من استاذ واحد، بل يذهب إلى استاذ ثان وثالث حسب توجيهات استاذه الأول. ومن البيّن أن هذه التدريبات لن تكون مجانية، فإزاء الدروس التي يتلقاها التلميذ، يقوم بالأعمال المنزلية لأستاذه، أو يدفع له أجوراً عينية)([10]). إنها مدارس دينية لحفظ القرآن وتجويده وانشاده، وليس مدارس لغناء الحكايات والملاحم واللهو، وإن كان الزعماء يقيمون السهرات والحفلات في قصورهم وخيامهم.
يمكن القول إن أي تجربة أدائية، لا تعتمد فقط على العمل الفني من حيث هو أداء، بل تستند على ردود أفعال المستمعين، ولأن الكلمات مفهومة، فالمستمع في هذه الحالة لا يلجأ الى التعريفات والقواميس كونه ابن البيئة، ولا يحتاج الى توضيح. وفي حالة التراث الشفهي، يعتمد على السمع في عملية التواصل مع الاخر، متحرر نوعاً ما من بعض العادات القديمة، وهو حديث الولادة مع انتشار التعليم في المجتمع. يمنحه الغناء الملحمي قوة الخيال بحيث يتخيل الحادثة مصورة أمامه كما لو أنه يشاهد فيلماً.
كان الكرد، شعب شفهي، يستخدم الصوت، والصوت رسالة حسية، تتوجه إلى حاسة السمع، وبالتالي ينصب جهد المؤدي على تحقيق كل ما في صوته من إمكانات وقدرات تعبيرية، ويمنح أداءه روحاً صادقة والتي تشكل جزءاً من شخصيته الفيزيائية، تنتشر هذه الروح في الفضاء، تبهر المستمع ما يجعل منه أن يرى جمالاً في الأشياء ما لا يراه غيره، ويتميز هذا الصوت عن غيره من الأصوات، بالتلوينات والنبر والتنغيم وخفض الصوت ورفعه وطريقة الصيغ التنبيهية، يستعين بالإشارات الايمائية وحركات الوجه واليدين والقدمين حسب الأحداث التي يغنيها. الحركة تعبر عن الجوانب الاكثر صدقاً من انفعالاته ومشاعره، ولا يمكن كتابتها إلا بالجسد، والجسد هو منتج الايماءات ومركز الافعال، فتمنح الأغنية معنىً، مما يجعل من صوته مهنة في حال أمتهن الغناء، لذا فالمغني يغني عواطفه، ولئن كانت هذه العواطف في الوقت ذاته عواطف مستمعيه جميعاً. فذلك لأنه عاجز في التفرد لعواطف مخالفة لها أو تعمل على تخفيف عبء العمل الجماعي.
كان ولازال المغني يحظى بمكانة اجتماعية محترمة بين الكرد، لكل زعيم عشيرة ووجيه وبيك وآغا مغن في مضافته الذي ينقل وضع الشارع والتاريخ إلى الحضور حتى تحولت الاغنية إلى ديوان الكرد، كما كان الشعر ديوان العرب، وبقيت أغانيهم تاريخ كل منطقة وعشيرة، لذلك حافظ المغنون على اللغة الكردية وساهموا (مع الرواة، الحكواتية) في نشر الملاحم والحكايات والقصص الكردية الآيلة للنسيان بشكل واسع بين الناس، ولولا جهودهم لما عرفنا شيئاً عن الأغاني التراثية والملحمية، لذلك يمكن القول إن كل مغن كردي يحمل خزانة تراثه الثقافي في حافظته، مهمته إمتاع الناس أولاً، ثم نقل التراث الثقافي إلى الأجيال.
[1]ـ باسيلي نيكيتين، الكرد، دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ص233،
[2]ـ حسان عباس، الموسيقى التقليدية في سورية، ص 115.
[3]ـ باسيل نيكتين، الكرد، دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ص 233.
[4]ـ فاضل عبد الواحد، سومر اسطورة وملحمة، ص 56.
[5]ـ أحمد عتمان، الشعر الاغريقي، تراثاً عالمياً انسانياً، ص 69.
[6]ـ بشرى موسى، نظرية التلقي أصول وتطبيقات، ص 59.
[7]ـ قاسم عبده قاسم، السيرة الشعبية مصدراً لدراسة التاريخ الاجتماعي، ص590.
[8]ـ باسيل نيكتين، الكرد، دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ص 169.
[9]ـ سعد الصويان، الصحراء العربية ثقافتها وشعرها عبر العصور، ص 28.
[10]ـ باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية ، ص458. .