فنّ الوشم لدى المرأة الرقاوية

0

ماريا العجيلي، كاتبة ومهتمة بالتراث الشعبي، ومنشّطة ثقافية

أوراق 19- 20

الملف

يرتبط الوشم، بالبيئة الاجتماعية والتاريخية والطقوس الدينية والشعائرية، تعود الى التاريخ القديم، والى الحياة البدائية التي تسيطر عليها الأساطير والمعتقدات، حيث يكون لكل عشيرة الوشم الخاص بها، والذي يميزها عن بقية العشائر ويرمز لها. وعادة ما تستمد هذه الوشوم، من البيئة والمعتقدات السائدة، فتتشكل رموز تحيل الى الطبيعة في احدى مظاهرها، من النبات أو الحيوان، وأحيانا رسوماً تجريدية.

الوشم لغة – كما جاء في لسان العرب- وَشمَ : فَعَلَ. يشُم وشماً فهو واشم، والمفعول موشوم.

وشم الجلد: غرزه بإبرة ثم ذرَّ عليه النيلج، فصار منه رسوم وخطوط. أما الوشم في تعريفه، فهو شكل من أشكال التعديل الجسدي، ويتم بوضع علامة ثابتة بالجسم، وذلك بغرز الجلد بالإبر، ثم وضع الصبغ عن طريق الجروح والفتحات، ويبقى داخل الجلد ولا يزول.

 وهنا، قبل أن نستطرد في موضوعنا، لابد لنا من الوقوف على الفرق بين الوشم والوسم.

فالوشم: هو ما يحدثه غرز الإبرة في البدن وذر النيلج عليه.

أما الوسم: فهو أثر الكيّ. والوسام ما وسم به الدواب من ضروب الصور والخطوط إثر كيه وهو دلالة على التملك، وبناء على ما تقدم يتبادر إلى ذهننا سؤال وهو منذ متى بدأ الوشم؟

منذ عشرات آلاف السنين بدأ البشر في الرسم على جدران الكهوف، ثم في مرحلة ما، فكروا لماذا لا نضع الرسوم على اجسادنا؟ عندها بدأ فن الوشم وعلى الرغم من عدم معرفتنا متى بدأ ذلك بالضبط، إلا أن العلماء يواصلون العثور على ما يشبه الأوشام، على العديد من المومياوات القديمة، مثل المومياء الشهيرة لرجل لثلج الأوربي (أوتوزي) الذي توفي في حوالي 3250 ق.م، وقد حمل الرقم القياسي لأقدم وشم معروف، فقد امتلك 61 وشما كبيرا في جميع أنحاء جسده. ومن المرجح أن تكون تلك الأوشام، مجرد خطوط استخدمت للعلاج. حيث أظهرت الدراسات، أنّه كان يعاني من مشاكل في المفاصل والعمود الفقري. هنا، كانت وظيفة الوشم طبية.

اتخذت المرأة السومرية والآشورية الوشم زينة لها، منذ الألف الخامس قبل الميلاد وفي وادي الرفدين. وشَمت ظاهر كفها أو معصمها أو ذراعها أو ثغرها، وتزينت بالكحل والحناء. ويكون الوشم، بتثبيت الرسوم والخطوط على الجلد بطريقة الوخز بالإبرة، عدة وخزات، ثم يوضع فوقه الكحل أو النيل، فيزرّق لون الجلد أو يخضر. كما استعمل الوشم كنوع من التعويذة السحرية، إذ غطى العديد من مناطق أجسادهن، وخاصة الخدين.

 كانت علامات الوشوم جزء من الممارسات الاجتماعية السحرية الروحية، بفعل حيوية طاقة تلك الإشارات والعلامات، لنيل الولادات الكثيرة المكررة والناجحة. وتبرز أهمية تلك الطقوس لهذه العلامات الشخصية، بوصفها نوعا من الرموز الشفيعة. وكان الوشم يُرسم على ذراع الملك والوزراء في ذلك الوقت. وقد صورت الكثير من آثار وادي الرافدين، وشوما على أذرع تماثيل الملوك مكتوب عليها (كبير القوم أو الملك) بالكتابة المسمارية قبل 3000 ق.م. أما الفراعنة فهم أكثر من برعوا في هذا الميدان. وهذا ما تؤكده الأبحاث والدراسات على المومياوات المكتشفة. وكان الوشم يتم عن طريق وخز الجلد، وإدخال الصبغات في الطبقة العليا منه، حيث كانوا يستخدمونه لأغراض التجميل والتزيين، وأحيانا لطرد الأرواح الشريرة. وقد وجدت آثاره على المومياوات المكتشفة، حيث كانت تمتلئ بأصباغ معدنية، ومواد عشبية يطلق عليها (ماء الإله). وقد كان الوشم لدى الفراعنة، يرمز الى حماية النساء من الأمراض الجنسية، وكذلك حمايتها أثناء الولادة.

 أما الوشم عند النساء العربيات قديما، فقد كان مقياساً للجمال والزينة، ويُستعاض به عن الحليّ. بينما يُعدّ عند الرجال، مظهراً من مظاهر القوة والتفاخر. كما أن له علاقة بوسم الإبل والغنم، بوسوم ترمز الى القوة مثل الأفعى. ومن خلال الوشم، تُبرز المرأة أنوثتها وجمالها، ويشير الرجل الى قوته وفحولته. ومن المنظور النفسي، يُمثل الوّشم قديماً رُقيَة شفائية يقوم به الناس في سبيل الشفاء، أو لطرد الحسد. فكان قدماء العرب يضعون وشماً على جزء من جسد المريض، فوق موضع الألم فيشفى. كما تلجأ الأمهات إلى وشم أطفالهنّ، حتى يزول عنهم الألم، أو وقاية لهم من الأمراض المهددة، فيكسبهم الوشم بذلك، راحة نفسية وطمأنينة، مادام الوشم يلزمهم حتى مماتهم، فهو منقوش في أجسادهم وأذهانهم، باعتباره تميمةً وتعويذةً، إلى جانب ما يمثله من زينة وتبرجٍ، ليشكل جزءاً من حياتهم اليومية، ويعبر عن بساطة عيشتهم. ولكنها بساطة لا تخلو من عمقٍ دلاليّ يتداخل فيها الوعي الجماعي، باللاوعي الذي يهدد حياتهم البدائية، من خلال خوفهم من الضياع والفقدان، فيلجؤون الى الوشم، حتى يوحدهم في قبيلة واحدة، وفي طقس واحد، ليجمعهم نفس الوشم، كمعبِّرٍ عن الهوية، ويكون وشمهم عنواناً خاصا بهم، يميزهم عن باقي القبائل الأخرى.

 ومن دلالات الوشم عند العرب، أنه يرمز الى قوة المشاعر التي تربط بين الرجل والمرأة، فيعمد المحب إلى رسم اسم الحبيب أو صورته على ذراعه أو صدره، تعبيراً عن مدى حبه وتعلقه به، ويظل باقياً، بقاء الوشم الذي يصعُبْ أن يمحوه الزمن من الجسد.

 ومن الدلالات أيضاً، الرسوخ والبقاء، ليظل الوشم راسخاً في الخيال الشعبي، وفي الثقافات مهما تقادمت، فهو من رواسب الموروث الحضاري الإنساني، وقد ورد لفظ الوشم في الشعر الجاهلي عند طرفة بن العبد حيث يقول:

لخولة أطلال ببرقة ثمهد تلوح     كباقي الوشم في ظاهر اليد

وذُكر الوشم عند زهير بن ابي سلمى:

ديار لها بالرقمتين كأنها     مراجيع وشم نواشر معصم

أما في وادي الفرات فالوشم يسمى (الدق) لذلك ورد في الغناء الشعبي

المدك دك بن عمي ..

وهو من أنواع الزينة لدى النساء. أما الأطفال، فيعتبر الدق وسيلة ليبق الطفل حياً باعتقادهم. وعند الرجال يكون الدق على الزند، عبارة عن كتابة الاسم، أو صورة السلاح والطير، وأحياناً الحرف الأول والثاني لاسم الحبيبة. وتقوم بعملية الدق نساء غجريات، وهن يحضرن الى المنطقة أيام الربيع حصراً، وهو موسم الدق. وذلك لأنه يكثر فيه الخير، فتحمل الفتيات الزبدة واللبن الى المرأة الدقاقة، كأجور عينية. وفي الربيع أيضاً، لا تتقيح الجروح. وتتألف عملية الدق من عدة إبر تصل لحد سبعة، توضع في البداية بمزيج من الفحم والزبدة لإعطائها اللون الأسود، وغالباً ما يستخدم الكحل مع الحليب، لإعطاء الوشم لونه الأخضر الغامق. وقد تغنى المغنون الشعبيون بالدق بالأفراح والاعراس: 

جابك الله وجيت يا لخام الأزرق ..

 تلزق على النهدين وتخرب الدق ..

هناك دلالات وأنواع للوشم أو الدق على الوجه، وغالباً ما يكون للنساء، ويستخدم للزينة. ولكل موضع له اسم ومنها (شعابيات) و(سنابل) تدق على الرقبة والصدر.  أما (وردة) و(رثمة) فهو وشم يدق على طرف الشفة، بطول واحد سم، نزولاً نحو الأسفل. أما (كحلة القطة) و(غمازيات) فهو وشم يدق على طرف العين من الجنب، كما تُمد الكحلة اليوم.

ومنها أيضاً (حجول) وهو وشم يدق أسفل الساق وأعلى الكعبين، و(أمشاط وشقاليات) تدق على الساق. فيما يسمى (خِصر) الوشم الذي يُدق على الرسغ (خِص). أما (زلف) فهو وشم على شكل نقطة على الخد. و(هلالي) يدق في وسط الجبين، فوق بداية الحاجبين، ويشكل هلالاً يصل بينهما ويدل على مقامها ورفعتها. وأما (صحن الورد) فهو يدق على الزند بشكل دائري.

ومن الوشوم ما يتميز بدلالة كبيرة، مثل (وسادة ابن العم) إذ تقوم الصبية بوشمه على يدها، وهي دلالة أنها لن تتزوج إلا من ابن عمها، وهو على شكل امرأة ورجل متقابلين، وعلى جانبهما قبرين، وهو يرمز إلى البقاء معاً حتى الممات. ولهذا الوشم أهمية، فعندما كانت الصبايا يردن لجلب الماء، من النهر أو البئر، فإذا اقترب منها أحد الشبان ليخطب ودها، تريه الوشم دون أن تتكلم، فيتراجع الشاب مخذولاً.

أما الوشم على الخدين ويسمى (الردعات) وهي أشكال للورد على كل خدّ. وهي ترمز إلى أن هذه الخدود، جميلة كالورود، حيث يقول الشاعر:

ذيب خمش ظافري ومخالف النابات

دواي ماهو بكتب عندك يا بو ردعات (يقصد المرأة وليس الرجل)

وثمة أنواع أخرى عديدة، كالوشم الذي يدق على الفم فيسمونه (اللجم) وهو(جمع مفرده لجام) يرسم على طرفي الفم، وهذه دلالة على أن هذه المرأة ساكتة ومؤدبة، وغير ثرثارة، وتأتي بالمفيد، وهو لجم معنوي. وكذلك وشم الحنك (الرواك)، و(دواير) ومهمته التصدي لعين الحسود. ومنها وشم المضافة، وغزالة، وشارب الحسن، والسيالية، ووشم الحلابات، إضافة الى أوشام طبية أخرى.

وقد وشمت الرقيّات كامل الشفة السفلى والعليا وأطلقن عليه اسم (وشام) حيث يصبح لون الشفتين أزرق دلالة على السمرة وهو يرمز للجمال لأن العرب يفضلون الشفاه السمراء الداكنة.

 بصورة تقريبية، هذه هي الأوشام التي استطعت أن أرصدها، في منطقة وادي الفرات: الرقة مدينة وبادية وريفاً، وعلاقتها بحياة الناس ومجتمعها الفراتي، ودلالاتها، كفن شعبي تعبيري، متجذر في الثقافة الإنسانية. أتمنى ان أكون قد وفقت في ذلك.