سامر أبو هشام: فنون الثورة السورية

0

هل أنتجت الثورة السورية نموذجها الفني الخاص؟ هذا السؤال ليس
سؤالاً ترفياً يفيض عن حاجة السوريين الذين ما زالوا يعيشون مآسيهم،
التي باتت الملمح الأول لثورتهم، خاصةً وأن أدوات التعبير الأهم التي
لازمت حراك الشباب الثائر كانت فنيةً خالصة، إذ لم تسعف السوريين أي
حالة منبرية سياسية مناسبة تعبر عنهم، وذلك بسبب من تشتت خطاب
المعارضة السياسية المنظمة، كما أن السوريين لم يكونوا متفقين في يومٍ ما
على اعتبار السلاح شكلاً من أشكال التعبير عن الذات، ولهذا فإن التركيز
على الفن قد تحول وضمن الخصوصية السورية ليكون الميدان الأهم
للتعبير عن الذات وعن الثورة وعن سوريا الحلم.
هنا علينا أن نرى كيف أنه بقدر ما كانت الأدوات الفنية المتوفرة
بين أيدي السوريين تحاول الاشتغال على تطوير خطابها، كانت تجد نفسها
متلاصقةً مع الحدث اليومي، والوقائع التي تفرضها التطورات الحادثة في
الواقع مما جعل تطور الأداة الفنية في حالة توازٍ مع الخطابات التي كان
الواقع يفرضها، على شكل معادلةٍ قد تبدو مريبة لدعاة الخصوصية الذاتية
للفن، ممن رأوا في كل ما أنجز من أعمال فنية (تشكيل، موسيقى، مسرح،
سينما.. الخ) مجرد أصداء للواقع، سيتم نسيانها حال إنجاز الثورة لغاياتها.
هنا يستعيد هؤلاء الصياغات السابقة للمنجز الفني المرتبط بالثورات، إذ
أن لكل ثورة في التاريخ منجزها الفني المعبر عنها، وبالتأكيد فإن الفيض
الفني الذي يرافق المد الثوري، لن يبقى منه سوى تلك الأيقونات الفنية
العظيمة، التي بقيت خالدة لدى الجمهور، ليس لارتباطها بالحيثيات
الزمكانية التي أنتجتها، بل للحيثيات الفنية ذاتها، أي تلك القيم الفنية التي
أضيفت لسيرورة الفن عبر هذه الأيقونات.
وبالعودة إلى السؤال الذي يطرحه فن الثورة السورية، وبالاتفاق مع
وجهة النظر السابقة، فإن البحث عن الأنموذج الفني البعيد عن الغرض
الخطابي المرتبط بالمباشرة كصيغة فنية، يصبح فعلاً واجباً، وذلك بسبب

من كثافة المنجز الفني الذي تنوس مستوياته الإبداعية بين قطبين تفصل
بينهما مساحة واسعة، هما، قطب المنجز الفني الذي تنتجه عقلية احترافية
تمسك بأدواتها الإبداعية، وقطب آخر، ينتمي للحراك الشعبي العفوي،
حاول أن يعبر عن رؤيته، بطريقته، دون أن يكون مهتماً بتأصيل أدواته
أو تأطيرها ضمن حيز يشبه الفضاء الاحترافي.
لقد ساهم العديد من الفنانين السوريين في بدايات الحراك السوري،
ولا داعي لتعداد أسماء هؤلاء الفنانين لأننا نتذكر أن الملامح الأولى
للتجمع السوري بدأها فنانون سوريون حينما وقفوا أمام سفارتي مصر
وليبيا في دمشق، ولعل المظاهرات الأولى في دمشق، وكما توضح الوقائع
قد حفلت بمساهمة فاعلة من طيف واسع من الفنانين السوريين المتوزعين
على السينما والمسرح والتشكيل والموسيقى، غير أن القمع الشرس الذي
واجهت به السلطة هذا الحراك جعل الكثيرين من هؤلاء ينكفئون إلى
متاريس أدواتهم الفنية، لتبدأ الأعمال الإبداعية بالظهور، فمن أغنية “يا
حيف” لسميح شقير والمؤلفات الموسيقية لمالك جندلي، إلى البوسترات
واللوحات التي قام بتشكيلها العديد من الفنانين التشكيليين من مثل أعمال
عمران فاعور وفاديا عفاش وتمام عزام ووسام الجزائري، إلى الكاريكاتير
الذي يرسمه الفنان علي فرزات، إلى الفيديوهات الساخرة التي انتشرت
على موقع اليوتيوب والتي قام بتمثيلها بضعة من الفنانين السوريين الذين
آثروا إخفاء شخصياتهم عبر الأقنعة تارةً وعبر استخدام تقنيات مسرح
العرائس تارة أخرى، كانت ملامح المشهد الفني الثوري تتضح، فالجميع
كان يريد التعبير والإفصاح تأييده للثورة عبر أداته الفنية، ونظراً
لاستنكاف الكثير من الفنانين المحترفين المكرسين عن أداء دورهم، فإن
مسار تحولات التجربة الفنية الاحترافية الثورية، كان يخوض في معترك
الواقع الخاص للفنانين الذي بات الكثيرون منهم عرضةً للاعتقال أو
الاستدعاء، أو اختيار المنفى بما يسمح به من أمان يساعد على العمل
بحرية. نتحدث هنا عن شهورٍ طوال، عانى فيها الفنانون، دون أن تتوفر
لديهم المنابر المناسبة لطرح منتجهم، سوى صفحات المدونات الإلكترونية
الشخصية، أو صفحات مواقع التواصل الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر،
وبالمقابل لهؤلاء فقد كانت عجلات إعلام المعارضة التقليدية والإسلامية
منها على وجه الخصوص تقوم بإنتاج أعمالها الفنية المحرضة والمواكبة
للحراك الثوري في الداخل، غير أن أغلب ما تم إنتاجه لم يخرج عن
الأسلوب الدعوي المباشر الذي دأبت عليه هذه المعارضة منذ سنواتٍ
طوال.

إن التدقيق في طبيعة المنتج الفني هنا يؤشر بالحقيقة إلى ارتباط هذا
المنتج بالواقع بشكل مباشر، فالأغنية تروي حكاية الثورة مرة، وترثي
الشهداء مرة ثانية، كما أن اللوحة تمارس الفعل ذاته، بينما بقيت المشاهد
التمثيلية دراميةً ومسرحيةً تمارس السخرية من النظام، لتعريه وتفضح
بنيته القمعية، وغلب على المنتج السينمائي في هذه المرحلة النوع
التسجيلي أو الوثائقي، الذي يحاول تثبيت الواقع السوري الصعب على
الأشرطة الممغنطة لتعرض في الفضائيات العربية والعالمية.
إن أغلب ما أنتجه القطب المحترف في هذه المرحلة، كان مصبوغاً
بالملامح السابقة، وبالتأكيد فإن ارتهان هذا القطب لطبيعة أدواته التي
تتطلب البحث عن ممولين لهذا الإنتاج، لم يجعل منه حالةً راسخة، لا بل
إنه بدا في الكثير من الأحيان مقصراً عن مماشاة التفاصيل التي يفرزها
الواقع، ولهذا فإن واقع الشعب المنتفض، وبما أحدثه من تحريك في ذوات
الشباب السوري الذي أراد أن يمسك بالواقع، وبأي شكل من أشكال التعبير
عن الذات، كان سباقاً في البحث عن صياغات فنيةٍ بسيطةٍ لا تتطلب
تمويلاً خاصاً قدر تطلبها لرغبة صادقة من قبل القائمين عليها، ومن هذه
الزاوية الخاصة، حدث انفجار الفن الشعبي الثوري، فكل بؤرةٍ ثورية في
سوريا (التنسيقيات)، وجدت نفسها وعبر منابرها، بحاجة لإنتاج أعمالها
الفنية الخاصة، وبينما كانت بعض التجارب تكلل بالنجاح، كان ثمة تجارب
أخرى تموت في أرضها بسبب من الضعف التقني في المنبر، أو بسبب
الظروف التي تتعرض لها البؤرة من قمع وتدمير من قبل السلطة، ورغم
هذا الواقع، فإن تجارب مهمة تم إنتاجها ووصلت للجماهير الواسعة لترسخ
في وجدانها، كما ترسخت أعمال المحترفين، فمن أغاني القاشوش الحموي
إلى أناشيد الساروت الحمصي كمثال ترافق مع تطوير آليات حركية في
تكنيك المظاهرات الجماهيرية، التي تحولت من مجرد تجمع بشري إلى
حالةٍ احتفالية راقصة.
كان الفن الشعبي الثوري يخطو عميقاً ليشكل قطبه الخاص، القطب
الأكثر جماهيريةً والأكثر عفويةً، والذي طبع الثورة السورية بطابعه، حتى
غدت تمظهراته التي انتشرت محلياً وعربياً وعالمياً، ملمحاً خاصاً بالثورة
السورية، ولعله من جماليات هذا الاكتساح الكبير للفن الثوري الشعبي، أنه
لم يبق مجرد فن شعبي بل تم تحويله ومن قبل الفنانين المحترفين أنفسهم
إلى أيقونة سمعيةٍ بصريةٍ تستحق أن يعاد إنتاجها عبر الأدوات الاحترافية،
فأغنية “جنة.. جنة” لعبد الباسط الساروت والتي انتشرت في البداية على

اليوتيوب كتسجيل عبر الهاتف الجوال، تحولت وعلى يدي بضعة من
الفنانين المحترفين إلى أغنية ملحنة ومغناة عبر التسجيل في الاستديوهات
الاحترافية، كما أن أناشيد القاشوش الحموي، تحولت إلى نشيد سيمفوني
قام بتأليفه الموسيقار السوري مالك جندلي. وهنا نستطيع وبكل ثقةٍ أن
نحدد أن الملمح الأهم للثورة السورية، إنما يكمن في تقدم الفن الشعبي أي
الفن الذي أنتج عبر أدوات بسيطة غير احترافية، وبالتساوق مع تفاصيل
ويوميات الانتفاضة الجماهيرية، ليكون في صدارة المشهد، وكذلك تحوله
إلى مادة خام يقوم المحترفون من الفنانين بالتعاطي مع رسوخها
الجماهيري لتكون منطلقاً لتسويق الفن المحترف.
إن التفكير بالنموذج الفني هنا، قد يجعلنا نغفل النظر عن التقييم
النقدي الذي نستخدمه لتبيان القيمة الفنية، فالواقع السوري وبصيرورته، لم
يمنح الفنانين الفسحة الكافية للتأمل الواسع والكافي، لإنتاج النموذج
الأولي، ثم القيام بحرقه في سبيل إنتاج الأفضل، كما يحدث في آليات
الإنتاج الإبداعي التقليدي، فهنا يتم صناعة النموذج دون التوقف عند
هناته، ليتم طرحه في الفضاء الثوري، كي يخوض حالته الاختبارية
الخاصة، وإن لم يلق القبول المطلوب يتم صناعة منتج فنيٍ آخر، دون
العودة إلى ما سبق. ولهذا فإن الكم الذي تم إنتاجه من أعمال فنية موزعة
على أنواعها بات أكبر من أن يتم إحصاؤه بشكل سهل، فبعد مرور عامين
وشهرين على قيام الثورة، باتت المكتبة الفنية الثورية كبيرة وممتدة،
ولكنها ورغم تفاوت مستوياتها الفنية، ظلت راسخةً لدى الجمهور الذي
يستعيدها دون ملل منها، وذلك لارتباطها في عقله الباطن بلحظاتٍ قاسيةٍ
عاشها الجمهور، ودفع فيها أثمان عالية.
غير أن النتيجة الأهم التي صنعها الفن الثوري السوري وبقطبيه
الاحترافي والشعبي، جاءت من زاوية بعيدةٍ عن التأمل في طبيعته، لقد قام
هذا الفن بتحطيم الأيقونات الراسخة في الفن السوري التقليدي بكل أنواعه،
وفرض الفنانون الثوار على أي قارئ أو متابع تزميناً جديداً لقراءة العمل
الفني، وبذلك بات الفن السوري نوعين، الفن قبل الثورة، والفن بعد
الثورة، ولعل هذا التقسيم بحد ذاته إنما يضعنا، كجمهور متابع، أمام تحول
هائل في آليات التفكير، لا بد سيؤدي في وقت ما إلى إنجاز القطيعة مع
الماضي بما فيه من نماذج فنية استمدت تكريسها من الواقع الراسخ الذي
فرضته السلطة طيلة أكثر من أربعين عاماً.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here