فضيحةُ القرن

0

غابرييل غارسيا ماركيز

ترجمة وتقديم: أمل فارس *

أوراق العدد 12

الترجمات

فضيحةُ القرن عنوانُ الإصدار الأحدث للراحل الدائم الحضور أبدا ماركيز بطبعةٍ فخمةٍ وبصورته متصدّرةً الغلاف عن دار فينتاج الإسبانية (راندوم هاوس ـ نيويورك 2019). ما إن وصلني أجلّتُ ما بين يديّ من ترجماتٍ وغرقت في قراءته. مازلت أهيم بالكتب، على وجه الخصوص هذي التي تصل على غير حسبان في طرود مُحكمة تُدفئ القلب والروح رغم نثرات الثلج التي علقت بها فالثلوج في هذا الوقت من السنة تغمر الأرصفة ومداخل الأبنية بل تغمر روتشستر بأكملها إذ لم تتوقف عن الهطول طوال الليلتين الماضيين وهذا حدث أقل من عادي خلال شتاء نيويورك العاصف. المقالات المدرجة في الكتاب تشدُّك من عناوينها ولا يخيبُ ظنك في المضمون، وإن كُتبت في حقب زمنية متباعدة وبعيدة عن شكل العالم الحالي ومجريات أحداثه إلا أنها تُظهر مقدرة عالية لدى ماركيز الصحافي على المزج بين القصة والحدث اليومي وهذا ما يبقيها صالحة لكل زمان. من ضمن العناوين كانت العاصمة المكسيكية حاضرة كما وكوبا وباريس وبالطبع بوغوتا حيث بدأ حياته الدراسية. وكذلك فنزويلا حيث أقام ما يقارب ثلاث سنوات “حاسمة ومفصلية في تاريخ البلاد كما على الصعيد الشخصي” حسب قوله، أواخر الخمسينيات، شهد خلالها انقلاباً عسكريا لضبّاط الجيش ضد الرئيس ماركو بيريز هيمينيس (والذي وصل إلى الحكم بدوره بعد انقلاب عسكري نفّذه ضد الرئيس المنتخب الكاتب رومولو كاجيغو 1948) وكتب منها وعنها العديد من المقالات لصالح جريدة Momento/ دقيقة. كما عن زعيمها الذي أحببناه وانتخبناه أواخر التسعينيات قبل أن يتبين أنه عرّاب انهيار البلاد الذي نشهده حاليا “تشافيز الفيديليّ” كما يطيب لبعض معارضيه المحليّن تلقيبه. وتحدّث ماركيز عن الفارق بين القصة والرواية السؤال الذي حسب قوله “احتل المرتبة الأولى من حيث عدد المرات التي كان عليه أن يجيب فيها عنه” ولكنه كان يُجيب في كل مرة كما لو أنها الأولى. وتطرّق إلى محاولاته الخاصة في مضمار الترجمة، وذكر أمراً بغاية الأهمية ألا وهو ضرورة التواصل مع الكاتب إن أمكن واشراكه في عملية الترجمة. وهذا بالفعل ما حرصتُ عليه منذ بدأت في هذا المجال وباعتقادي أنه واجب تجاه النص والقارئ أكثر منه تجاه الكاتب. وجاء عنوان المقال الذي اخترته للترجمة تعبيراً صريحاً عن مدى إحاطته بالجهد الذي يبذله المترجم (الذي لا يضاهيه جهد سوى جهد كاتب العمل) إلا أنّ مشقة المترجم المضاعفة تتأتى من كونه يتخذ الموقع الوسط بين لغتين ويتوجب أن يكون أهلاً لهذا الموقع ويتعامل بانتفاء تام لأنا الكاتب إن صح التعبير عبر تبنيه لنص ليس نصه على اعتبار أنه كاتبه وإعادة خلقه مع حرصٍ تامٍ على روح النص وجماليته.

هنا ترجمة لمقال ماركيز عن الترجمة بعنوان “المترجمون الجيدون المساكين”، والتي نُشرت في جريدة “الباييس” الاسبانية قبل أن يحتويها هذا الكتاب المهم.

المترجمون الجيدون المساكين

غابرييل غارسيا ماركيز

قال أحدهم بإن الترجمة هي الطريقة المُثلى للقراءة وبرأيي إنها الأصعب والأكثر تعقيداً والأسوأ مردوداً. يقول المثل الإيطالي (Tradttore,Traditore) بما معناه أنّ المترجم خائن. ماوريس إدغار كويندرياو، واحد من بين أذكى المترجمين وأغزرهم انتاجاً في فرنسا، كشف خلال سردٍ لذكرياته عن تفاصيل تتيح لنا التفكير بشكلٍ مغاير تماماً إذ قال “المترجمُ قرد الراوئيّ” مقتبساً عن الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك وقاصداً القول بإن على المترجم أن يقوم ينفس الإيماءات ويتّخذ ذات الموقع الذي يتخذه الكاتب في السّرد سواء أعجبه ذلك أم لم يعجبه. ويمكن القول بإن ترجمات ماوريس لأعمال أدباء أمريكا الشمالية إلى الفرنسية، ممن كانوا بعدُ آنذاك كتّاباً مغمورين غير معروفين في عصرهم أمثال ويليام فوكنر وجون دوس باسوس وإرنست همنغوي وجون ستينباك، لم تكن إعادة خلق بارعة وحسب بل ساهمت بالفعل في صنع جيلٍ فرنسيّ تاريخيّ كان تأثيره على الأجيال الأوروبية المعاصرة بما فيهم بول سارتر وألبير كامو أكثر من واضح. بما معناه أن كويندرياو لم يكن خائناً بل على العكس من ذلك تماماً كان شريكاً رائعاً. كما هي حال جميع المترجمين العظماء عبر الأزمان الذين غالبا ما تمرّ مساهماتهم في العمل المُترجَم دونما أن يلاحظها أحد، في الوقت الذي تُضخّم فيه عيوبهم وهفواتهم.

عندما تقرأ مؤلفًا بغير لغتك الأم تتوّلد لديك رغبةٌ طبيعية وعفويّة بترجمته وهذا مفهوم، لكون إحدى ملذّات القراءة، كما الموسيقى، تكمن في إمكانية مشاركتها مع الأصدقاء. ولعل هذا يفسّر لنا الرغبة الملحّة التي لم يتسنَ لمارسيل يروست تحقيقها قبل وفاته وهي انجاز ترجمة من اللغة الانكليزية لكاتب آخر مختلفٍ كامل الاختلاف عنه كما كان جون راسكن.

في الحقيقة اثنان من الكتّاب كنتُ لأرغب بترجمة أعمالهم من الانكليزية لأجل المتعة الخالصة وحسب هما أندريه مارلو وأنطوان دو سانت إيكزوبيري اللذان بالمناسبة لم يتمتعا، كما هو حال مواطنيهما في وقتنا الراهن، بأعلى درجات التقدير، لكن الأمر لم يتخطَ كونه رغبة. بالمقابل أعمل منذ مدة طويلة على ترجمة أناشيد الشاعر والكاتب الإيطالي غياكومو ليوباردي قطرة قطرة كما يقال لكني أنجز ذلك في الخفاء خلال ساعات تفرغي القليلة بوعي تام مني إلى أنه لن يكون الطريق الذي سيقودني أو يقوده إلى المجد. بل أمارسها كنوع من التسالي التي أطلق عليها الآباء اليسوعيين ملذّات العزلة. لكن الشروع بالتجربة وحده كان كافياً لأدرك مدى الصعوبة والتفان اللازم لمحاولة منافسة المترجمين المحترفين.

من النادر أن يصل الكاتب إلى حالةٍ من الرضى التام عن عمله المترجَم بمجمل كلماته وعباراته. كما ويكمن دوماً في كل مسار من مسارات الرواية نيةٌ خفية لا يعرفها سوى الكاتب، لذلك فمن المستحسن بأن يشارك الكاتب بنفسه في الترجمة بقدر الإمكان. إحدى التجارب البارزة في هذا الصّدد هي الترجمة الاستثنائية لِـ عوليس للكاتب الأيرلندي جيمس جويس إلى الفرنسية، وقد اشتغل على إنجاز المسودة الأولى والأساسية للنص بأكمله وبمفرده المترجم أوغست موريل الذي عمل بعد ذلك على النسخة النهائية بالتعاون مع الكاتب الفرنسي فاليري لابرو وجيمس جويس بنفسه. وكانت النتيجة، بشهادة أهل الخبرة والاختصاص، تحفةً فنية. ولعل الترجمة الوحيدة التي توازيها في الدّقة والكمال كانت تلك التي أنجزها الكاتب والمترجم البرازيلي أنطونيو هواييس إلى البرتغالية. أما الترجمة الوحيدة المتوفرة بالإسبانية فهي شبه مفقودة من الأسواق لكن تبرير الأرجنتيني خ. سالاس سوبيرات الذي انجزها لذلك يفيدنا كذريعة إذ أنه قام بترجمتها لتجزيه الوقت والمتعة الشخصية فقد كان متخصصاً في مجال التأمين على الحياة. اكتشفها المحرر سانتياغو رويدا من بوينوس آيرس مصادفةً ونشرها في أواخر الأربعينيات. بالمناسبة لقد قابلت سالاس بعد عدّة سنوات من صدور ترجمته في العاصمة الفنزويلية كاراكاس خلف مكتبه في شركة تأمين غير معروفة. قضينا ظهيرةً رائعة نتحدّث عن رواياتٍ انكليزية كان هو يحفظها تقريباً عن ظهر قلب. آخر مرة رأيته فيها كانت أشبه بحلم: كان يرقص، وقد تقدّم به السّن بشكلٍ ظاهر وحيداً كما لم يكن ابدا، خلال العجلة الجنونية لكرنفال بارّانكيجا. كان ظهوراً غريباً جداً لدرجة أنّني قررتُ الامتناع عن المبادرة بالتّحية.

إحدى التّرجمات التاريخية المهمّة تلك التي أنجزها إلى الفرنسية جورج جين أوبري وفيليب نيل لرواية جوزيف كونراد الكاتب العظيم على مر الأزمان، اسمه الكامل جوزيف تيودور كونراد كورزينيويسكي وقد ولد في بولونيا ووالده كان يعمل بالتحديد مترجماً لمجموعة كتّاب انكليز من بينهم شكسبير. لغة كونراد الأم كانت البولندية على أنّه بدأ بتعلم اللغتين الفرنسية والإنكليزية منذ طفولته المبكرة ووصل ليكتب باللغتين واليوم نعتبره، بحق أو بغيره، واحداً من بين أبرز أساتذة اللغة الإنكليزية. ويُحكى أنه قد جعل حياة مترجمي أعماله إلى الفرنسية لا تطاق إذ حاول فرض كمال أسلوبه في الترجمة عليهم. كما انه لم يتخذ القرار بترجمة أعماله بنفسه وذلك يبعث على الفضول حقا، على أنه لا يُعرف الكثير من الكتّاب ثنائي اللغة ممن يفعلون ذلك. المثال الأقرب المعروف من قبلنا هو خورخيه سمبرون الذي أتقن الكتابة بالإسبانية وبالفرنسية لكن بشكل منفصلٍ تماما. ولم يترجم لنفسه على الإطلاق. ولا يزال الإيرلندي صمويل بيكيت الحائز على جائزة نوبل للآداب المثال الأغرب إذ كتب العمل ذاته مرتين وبلغتين مختلفتين مع اصراره على أن أحدهما ليس ترجمةً للآخر بل إنهما عملان متمايزان كُتبا بلغتين مغايرتين.

قبل بضعة سنوات وخلال الصيف الحار لجزيرة يانتليريا كانت لي تجربةٌ أُلغُوزَةٌ كمترجم، كان الكونت انريكو سيكوغنا، مترجم أعمالي إلى اللغة الايطالية حتى وفاته، يعمل خلال تلك العطلة على ترجمة رواية باراديسو للكاتب الكوبي خوسيه لزاما ليما، الذي كنت معحباً بشعره وبشخصيته الغريبة، مع أني التقيته لمرات قليلة، أردت في ذلك الوقت أن أعرف أكثر عن روايته النثرية ولذلك ساعدت سيكوغنا قليلاً، لم تكن مساهمتي في عملية الترجمة بحد ذاتها إنما في العملية المعقدة لفك شيفرة عبارات ليما النثرية. وهنا أدركت حقاً كيف أن الترجمة هي الطريقة الأعمق للقراءة. ومن بين أمور أخرى وجدنا عباراتٍ كان الفاعل فيها متغير الجنس والعدد أكثر من مرة في أقل من عشر أسطرٍ حتى وصلنا إلى النقطة التي انعدمت فيها إمكانية معرفة من يكون ومتى كان وأين. ولمعرفتي بـليما كان من الممكن أن يكون ذلك الاضطراب متعمداً لكن كان وحده قادراً على توضيح ذلك ولكننا لم نتمكن مطلقا من سؤاله.

التساؤل الذي شغل المترجم سيكوغنا تراوح بين اختياره احترام هذا الشطح في الاتساق عند نقله إلى اللغة الإيطالية أم إخضاعه لقواعد أكاديمية صارمة. وكان رأيي أن يبقى النص على حاله وبهذه الطريقة ينتقل العمل من لغة إلى أخرى بشكله الأصلي ليس بجماليته وحسب بل وبعيوبه أيضا وهو التزام أخلاقي تجاه القارئ من اللغات الأخرى.

بالنسبة لي لا وجود لفضولٍ أكثر مللاً من قراءة ترجمات كتبي باللغات الثلاث والتي ستكون مهمة مستحيلة بالطبع. كما أني لا أتعرف على نفسي سوى عبر اللغة الإسبانية. على أني قرأت عدداً من الترجمات التي أنجزها غريغوري راباسا إلى الإنكليزية وعليّ الاعتراف بأني عثرت فيها على بعض المقاطع التي حازت إعجابي أكثر من تلك الأصليّة. الانطباع الذي تخلفه ترجمات غروغوري أنه يحفظ الكتاب عن ظهر قلب بالإسبانية من ثم يعيد كتابته كاملاً باللغة الإنكليزية. إنّ إخلاصه أكثر تعقيداً وأبعد عمقاً من مجرد الحِرَفيّة الاعتيادية. لا يدرج شرحاً في الهوامش مطلقاً والتي تعد أقل المصادر صحة وللأسف أكثرها استعمالا من قبل المترجمين غير المحترفين. في هذا السياق يحضرني المثال الأبرز على ذلك، ما قام به مترجمٌ برازيليٌ لأحد كتبي إذ أدرج يشرح في أحد الحواشي كلمة Astromelia فكتب التالي: “زهرةٌ خيالية ابتدعها غابرييل غارسيا ماركيز” والأسوأ من ذلك بأنني قرأت بعد ذلك لا أعرف أين بأن تلك الزهرة، ليست موجودة وحسب في منطقة الكاريبي كما يعرف الجميع، بل وأصل الاسم برتغاليٌ أيضا!

21 يوليو/تموز 1982

جريدة البايس ـ مدريد

……………………………………………..

ـ ماركو بيريز هيمبنيز Marcos Evangelista Pérez Jiménez

ـ ماوريس إدغر كويندرياوMaurice Edgar oindreau

ـ فرانسوا مورياك François Mauriac

ـ جون دوس باسوس John Roderigo Dos Passos

ـ جون ستاينبيك John Ernst Steinbeck, Jr

ـ جون راسكن John Ruskin

ـ أندريه مارلو André Malraux

ـ وأنطوان دو سانت إيكزوبيري Antoine Marie Jean-Baptiste Roger Conde de Saint-Exupéry

ـ غياكومو ليوباردي Giacomo Taldegardo Francesco di Sales Saverio Pietro Leopardi

ـ أوغست موريلAugust Morell

ـ فاليري لابرو Valery Nicolas Larbaud

ـ أنطونيو هواييس Antônio Houaiss

ـ خ. سالاس سوبيرات José Salas Subirat

ـ جورج جين أوبري Georges Jean-Aubry

ـ فيليب نيل Phillipe Neel

ـ جوزيف تيودور كونراد كورزينيويسكي Józef Teodor Konrad Korzeniowski

ـ خورخيه سمبرون Jorge de Semprún Maura

ـ الكونت انريكو سيكوغناel conde Enrico cicogna

ـ خوسيه لزاما ليما José María Andrés Fernando Lezama Lima

ـ غريغوري راباسا Gregory Rabassa

*كاتبة ومترجمة عن اللغة الإسبانية، صدر لها حديثا ترجمة رواية “الطفرات” لـ كاتبها خورخيه كومنسال عن منشورات تكوين، تعمل حاليا على ترجمة عدة مقالات لـ غابرييل غارسيا ماركيز من ضمن المقالات الواردة في العمل الصادر مؤخرا بعنوان (فضيحة القرن) والذي جمع فيه ورثة الكاتب عدداً من مقالاته المنشورة في عدد من الصحف الاسبانية والأمريكية الجنوبية (مومينتو الفنزويلية، الاستبيكتاذور الكولومبية، الباييس الإسبانية) من عام 1955 حتى 2004.