فصل من رواية “أبو دياب يتكلم في الأفراح”

0

جديد الكاتب خطيب بدلة

عن دار نون 4 في غازي عنتاب (تركيا) صدرت رواية الكاتب السوري خطيب بدلة “أبو دياب يتكلم في الأفراح”، وهي العمل الروائي الأول للكاتب الذي أصدرَ قبلها واحداً وعشرين كتاباً في القصة القصيرة والمقالة الصحفية..

ويمكن القول بأن رواية “أبو دياب يتكلم” هي أول رواية تدور أحداثها في مدينة إدلب، وقد تزامنت أحداثها مع السنة الأولى للثورة، وبحسب ما صرح الكاتب خطيب بدلة لموقع الرابطة لم تتقصد الرواية رصد أحداث الثورة بحد ذاتها، وإنما سعت إلى متابعة التحوات السياسية والاجتماعية والأخلاقية لشخصيات الرواية بنتيجة الأحداث الدموية التي بدأت تحدث خلال قمع النظام للثورة.

وينصح الكاتب القراء المهذبين بالابتعاد عن قراءتها، لأن فيها ما يخدش الحياء.

هنا فصل من الرواية خص به الكاتب خطيب بدلة موقع رابطة الكتاب السوريين

ضراط جحشات ونيك أمهات

أفرغت السيارةُ العسكريةُ السوفييتيةُ الصنع- من طراز “زيل 57”- التابعةُ لكتيبة “حفظ النظام بإدلب” حمولتَها من الشبان المعتقلين مُكَلْبَشي الأيدي في مدخل السجن المركزي بعنف وغِلّ. ترافقَت العمليةُ مع الدفع والرفس واللطم وإطلاق الشتائم على الأعضاء التناسلية للشقيقات والأمهات، والسؤال الاستنكاري: بدكن حرية؟! وبعضهم كان يجعله مَزيداً فيقول: بدكن حرية يا عرصات؟

كان المعتقلون يَسْقطون على الأرض ويَنهضون بصعوبة بسبب الكلبشات التي تَمْنَعُ أيديهم من الحركة والاتقاء، ومع ذلك، وعلى الرغم من آلامهم وتَأَذِّي أجسامهم وأرواحهم، فقد شعروا بشيء من الارتياح، إذ تحققَ السيناريو الأقل سوءاً بين السيناريوهات التي حَدَّثَهم عنها “أبو دياب” حينما كانوا مشحونين في السيارة “الزيل”.. فالوضعُ في السجن المركزي، بحسب اعتقاد معظمهم، مهما يكنْ سيئاً، أفضلُ من الموت رشاً بالرصاص، أو التسفير إلى تركيا، ومنعهم، بالتالي، من العودة إلى أهاليهم.

ولكنَّ ارتياحَهم النفسي لم يَدَمْ سوى لحظات، إذ انتابتْهم حالةٌ من الذعر الشديد مع خروج بضعةِ عساكر من أماكن جلوس الحرس وهم يحملون بأيديهم سكاكين حادة، فاعتقدوا، لأول وهلة، أنهم سوف يَذبحونهم!.. ولكن هذا الاحتمال اسْتُبْعِدَ حينما أغار هؤلاء العساكر على أيديهم المربوطة، وشرعوا يحررونها من الكلبشات بشكل اعتباطي، مما أدى إلى جروح ورضوض وكدمات هي في كل الأحوال أهونُ من ضغط الكلبشات الذي أدى إلى احتباس الدماء في أيديهم، ولا سيما أيدي الشبانِ السِّمَان ذوي السواعد المفتولة.

وبينما هم يمسدون زنودهم براحات أيديهم، بقصد جعل الدم المحتبس يسري في العروق، إذ جاءهم صوت أحد العساكر: بسرعة ولاه جْحَاش، (شَرّفوا) عَ الساحة!

ظن الشبانُ المعتقلون أن العنصر قد استخدم كلمة (شَرّفوا) بالخطأ، لأنها غير منسجمة مع عبارة “ولاه جْحَاشْ”؛ ولكنهم عرفوا، فيما بعد، أن الساحة الرئيسية في السجن قد اكتسبت بعد الثورة اسم “ساحة التشريفات”.. وفيها بدأ العساكر يضربونهم على رؤوسهم وأجسادهم كيفما اتفق، ويطلقون أصواتاً متداخلة: أهلاً بالطيبين.. شرفتوا.. وَقَّفْ.. بَعِّدْ.. ارجَاع ولاك.. هاتُه.. عندك هالواطي.. هداك اللي بقد الجحش.. نَاوْلُه.. بدكن حرية يا مَنَايِكْ؟.. يلعن بَيْ بَيْ اللي خلفتكن شرموطة.. إلخ. وشرع المعتقلون يتحركون بسرعة فائقة إلى الأمام والخلف واليمين واليسار، بعكس الجهة التي يتلقى الواحدُ منهم الضرب، وكانت هذه الحركة الاندفاعية العمياء، المتعاكسة في الشدة والاتجاه، كافيةً لدفع قسم منهم لتسلق السور المؤدي إلى سطح مهجع متصل مع سطح مستودع المحروقات، واستطاع ثلاثة منهم، على الرغم من وجود بواري عتيقة وأسلاك وقِطَع حديدية عديمة النفع، القفزَ إلى خارج السجن، ونزلوا بين البساتين، فعاجلهم الحراسُ المنتشرون على سطح المبنى بوابل من الرصاص، فقُتِلَ واحدٌ منهم، وتمكن الآخران من الفرار.

صاح أحدُ العناصر، ويبدو أن له سلطة على الآخرين:

– اسْكُووووتْ.. اسكوت. خلص بقى خلاااص. وقفوا الضرب عن هَـ الكلاب.

فتوقف العناصرُ عن الضرب، وارتفعت أيدي المعتقلين، غريزياً، إلى وجوههم ورؤوسهم، وصاروا يلمسون عليها، ثم يقربون أيديهم أمام أعينهم ليروا إن كانت قد أدميتْ بعد هذا الضرب الشديد أم لا.

قال العنصر: ما بدي أي حركة ولاه كرّ إنته وياه. اسمعوا شو بدي قول، افتحوا لي داناتكن وشَنْكُوها لفوق متل دانات الجحاش لما بيشمُّوا ريحة الفِشْكْ.

ههنا ساد صمتٌ مشوب بالترقب، فانفلت العنصر ضاحكاً، وقال:

– أي والله، آنستوا وشرفتوا.. لو تعلمْ الأرضْ مين اللي مَ يزورْها خُفِسَتْ، وضَرَطَتْ، واستبشرتْ، وقَبَّلَتْ موضعَ القدمِ. لو تعرف الجحشاتْ إنه حضراتْكِنْ جايين لعنَّا كانت رفعتْ دْنَابْها وكْعَابْها لفوق حتى تستحكم بالضراطْ حاشاكم وحاشا شوارب الطيبين أمثالْكِنْ. ترى نحنا منعرف إنكن عرصات، وكَوَّادين، وكلاب، وكل واحد منكم طالع في المظاهرة لحتى يقبض ألفين ليرة من مصاري بندر بن سلطان، ويصرفها على السرسرة والزَّعْرْنة والمَنْيَكة والملذات الشخصية. وعلى أساس شو؟ على أساس هالحيوان الواطي مفكرْ يدحش حاله بين المتظاهرين ويصيح صوتين، ويستنى تا يجوا زعران الثورة ويصوروه، ويناولوه الإيصال، وهو بياخد الإيصال وبيروح لعند المحاسب، بيقبض الألفين ليرة، وبيتيسر في حال سبيله. لاكن يا عرصات إنتوا ما بتعرفوا أنو أُسُود الجوية، وفرسان العسكرية، ونمور أمن الدولة والسياسية واقفين إلْكِنْ بالمرصاد. ولا حلزونات إنتوا مفكرين وجوهْكِنْ وجوه حرية وثورة وتمرد عَ السيد الرئيس القائد بشار؟ لا بحضي وبديني، وجوهكن ما فيها ربي يسر، ولا فيها يا يُمَّا عْطيني الدِرْبي بالليلْ يا دادا بالليلْ. على كل حال، وعلى قولة أخونا جورج يَسُّوف: جيتْ بوقتك فَرْفَحْ قلبي. هلق بقى بعدْ ما هالشباب الكَيْسِين رحبوا فيكِنْ بساحة التشريفات، راحْ ياخدوكم لتتنعموا بواجبات الضيافة لمدة شهرين في منتجعات “سجن إدلب المركزي”، لأن القائد العظيم السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد ألغى قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة، وما عاد فينا ننقعكن عندنا للأبد، ولكن على كل حال هاي مانَّا مشكلة، بالنسبة إلي هَـ الشهرين كافيات تا نيك أمهاتْكِنْ واحد واحد.. قولوا لي بقى، في حدا عنده سؤال؟

قالها واتجه إلى حيث يقفون، وشرع يمشي بينهم، على طريقة الأستاذ الجامعي الذي يمشي بين المدرجات لكي يتمكن من محاورة طلابه أثناء طرحه الأسئلة العِلْمية الدقيقة عليهم.

أدرك جميع المعتقلين، في تلك الوقفة، أن الحديدة في هذا المكان حامية، وأن عاقبة الأخدْ والرد لن تقل في شدتها عن الشحن في السيارة العسكرية والاستقبالاتْ الحقيرة التي أسموها “التشريفات” إمعاناً في الإذلال والإهانة. ولذلك صمتوا، وأخذوا يشيحون بوجوههم لئلا تلتقي نظراتُهم بنظرات هذا الشخص العدواني الذي كان يُحَدِّثُهم. ولكن وجه “أبو دياب الدايخة” من النوع الذي لا يمكن إخفاء الانطباعات المرتسمة عليه، وقد لاحظ العنصر أن في فمه كلاماً يريد قوله، فلكزه في صدغه، وقال له:

– إنت ولاهْ كرّ، هات لأشوف، شو في عندك؟

قال أبو دياب متردداً: ولا شي، بس حبيت أني شِيْدْ بالكلام اللي حضرتك وجهت لنا ايَّاه.

قال الرجل بنوع من السذاجة: شلون يعني بدك تشيد بكلامي. قول تَـ أشوف.

قال أبو دياب بطريقته الملتبسة: كلامك بيدل على إنك إنسان مليء بالعلم والمعرفة والثقافة والإدراك. والله العظيم إنته إنسان مُحَنَّك، وضليع، ومُتَمَكِّنْ.. بتحب أحكي معك بصراحة؟

قال العنصر بمزيج من الاستغراب والاستخفاف: أي والله بحب.

قال أبو دياب: بصراحة إنته لازم تمتنع عن معاشرة الناس العاديين اللي متلنا، هاي المعاشرة معناها إنه نحن راح نقتبسْ من علمك ومعرفتك، وبتكون إنته بهالحالة الخاسر الوحيد! أنا بدي إعترفْ قدامْ هالناس الأوادم بأنك فاجأتني بالمعلومات التي بتمتلكها عن المتظاهرين، وعن الجحشاتاللي بيرفعوا دنابُنْ وكعابُنْ وبيضرطوا في الهَوَا. أنا بشوف إنُّه رَسْمْ لوحة تعبيرية بهالمستوى الرفيعْ ما بيقدر عليه غير إنسان مبدع، وألمعي، ولماح، ومربى في بيت أهله تربية حسنة، متل حضرتك.. كمان الحكي اللي قلت لنا إياه عن الألفين ليرة اللي بيقبضها كل متظاهر من بندر مانُه قليلْ.

هنا سيطرت على أبو دياب رغبة قوية في الاسترسال، فتابع يقول وكأنه فقد الإحساس بخطورة الموقف: بصراحة هالمعلومة بتحطّ العقل في الكف. يا أخي إذا كان عددنا نحن المتظاهرين اللي طلعنا من قدام جامع الحسين تلاتمية زلمة، شلون هادا بندر بن سلطان بده يدفع لكل واحد ألفين؟ احسبها بعقلك، وعلى أقل من مهلك، تلاتمية زلمة بألفين بيطلعوا ستمية ألف! وإذا تطورت المظاهرات وصار يطلع في كل مظاهرة عشرة آلاف إنسان، أي والله بندر لحتى ينخرب بيتُه من كتر الدفع.. بتعرف أشو كمان؟ أنا ما كنت بعرف إنُّه المظاهرات مأجورة.. من غشمي كنتْ مفكرْ إنُّه هالناس طالعين منشان الحرية! بس إنته هلق نورتني، وإذا صار إلنا نصيبْ وطلعنا مظاهرات في المستقبل بصراحة أنا راح كون واعي لمصلحتي، وما بصيح “الله أكبر” أو “الشعب يريد إسقاط النظام” قبلما إستلم نْصّ المبلغْ عَ الأقل.. إذا حدا بيقلي اطلاع مظاهرة بدي إفتح إيدي متل الجرن وقلُّه: نَوَالْ.. ناولني أجرتي سلف، لإنُّه على قولة المتل بعد العرس ما في قرص. وراح خبر رفقاتي كلهم يعملوا متلي، لإنه البلد متلما تفضلت حضرتك فيها أسود ونمور وفرسان ومن هالحباشات هاي..

صرخ العنصر فجأة: اخراس بقى ولاه، حيوان. اخراس، يخرب بيتك شو كرّ. ولك أنا ما قلت إنو الواحدْ فينُه يحكي اللي بدو إياه، أنا قلت اللي عندو سؤال يسأل.

قال أبو دياب: نعم أستاذ. كمان أنا عندي سؤال.

قال العنصر وهو ينفخ: ولاهْ صعلوكْ أنا مانّي أستاذ. أستاذ واحدْ متلك. على كل حال بدي أسمعك للأخير، شرف، اسآل.

قال أبو دياب: إنته قلت بدك تنيك أمهاتنا واحد واحد، والحقيقة إنُّه بعض الشباب المتظاهرين أمهاتهم عايشات، والباقين أمهاتهم ميتات.. يعني عدم المؤاخذة، الأمهات الميتات شلون بدك تنيكُنْ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعتذر عن الكلمات المهذبة التي وردت في سياق هذا الفصل.

خطيب بدلة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here