فرحان المطر: كوبا والمصور السينمائي

0

نظرة على الفيلم وثائقيCuba and the cameraman

صانع الفيلم: المصور الصحفي والمخرج الأميركي جون ألبرت

يبدأ الفيلم من لحظة الإعلان عن موت الرئيس الكوبي فيدل كاسترو.

مصور أمريكي هو (صانع الفيلم) الذي يبدأ في سبعينيات القرن المنصرم، عندما كان في أوائل العشرينيات من عمره، وبرفقة الجيل الأول من كاميرات الفيديو، يحاول تصوير الأوضاع الاقتصادية في نيويورك أولاً، مسلطاً الضوء على المسكوت عنه، والفساد الذي يكتنف الحياة في الحي الصيني هناك.

تلك الأثناء كانت ثورة جديدة تندلع في مكان آخر من العالم خارج أمريكا، معلنة عن برامج اجتماعية متقدمة، تشبه ما يطالب به الناس الفقراء في أمريكا، من تعليم وطبابة مجانيين، وسكن للجميع، إنها كوبا، والزعيم الذي بدأ نجمه بالسطوع: فيديل كاسترو.

يقول كاسترو: (نناضل لئلا يكون عمالنا مدينين لأصحاب الملايين الأمريكيين، إنهم لا يحتملون الفكرة أننا أنجزنا ثورة اشتراكية تحت أعين الولايات المتحدة).

بينما يقول الرئيس الأمريكي كيندي: (وعدت الثورة الشعب الكوبي بنهاية فترة الاستغلال الاقتصادي، وبدلاً من ذلك حصلوا على دولة بوليسية، وأؤكد لكم أن كوبا ستتحرر مجدداً يوماً ما).

من جهتها بدأت أمريكا حصارها العسكري والاقتصادي على كوبا.

1972 مئات آلاف الكوبيين يفرون إلى أمريكا.

تضاربت الآراء داخل كوبا تجاه الثورة بين مؤيد ومعارض لها، وعلى متن قارب شراعي انطلق المصور في رحلته صوب كوبا كي يرى بعين كاميرته الثورة كما هي على حقيقتها، تلك الرحلة التي امتدت إلى خمسة عقود من الزمن، حيث بدأ هناك بتكوين علاقات صداقة مع الناس العاديين بهدف رواية قصة كوبا.

بداية تلك الصداقات كانت مع عائلة “آل بوريغو” الذين يعيشون في مزرعة خارج العاصمة الكوبية “هافانا”. كريستوبال 64 عاماً، وأنخيل، وغريغوريو، وأختهم ليلو. تقول ليلو: (كنا دائماً مزارعين، وننتج طعامنا بأنفسنا).

بينما كريستوبال فهو الذي يقوم بتنظيف الأرض من الحجارة كعمل تطوعي، وهي الطريقة التي يرى أنه من خلالها يخدم الثورة.

غريغوريو بعد أن ينتهي من عمله كل يوم، يذهب إلى الشراب والاحتفال والغناء. يقول: (لدي زجاجة خمر لا أستطيع العيش من دونها).

بمناسبة الذكرة السادسة عشرة للثورة الكوبية، وخلال المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكوبي، يتاح للمصور تسجيل خطاب كاسترو الذي ألقاه في المؤتمر واستمر لعشرين ساعة.

يقول كاسترو في كلمته: (إما بلادنا، أو الموت، سننتصر).

1979 يزور كاسترو نيويورك للمرة الأولى لإلقاء كلمة في الأمم المتحدة، ويكون الأمريكي الوحيد الذي يرافقه في الطائرة إضافة إلى الوفد الكوبي هو المصور جون ألبرت.

في الطائرة يسأل كاسترو: هناك من يريد قتلك في نيويورك ألست خائفاً؟!. يجيبه: لا أحد يموت في غير ساعته، وأعرف أنني سأموت، ولكن لا أعرف متى. ثم يسأله: يقولون إنك تلبس سترة واقية من الرصاص صحيح؟!. يرد كاسترو بأن يكشف عن صدره العاري، ويقول ضاحكاً: لدي سترة أخلاقية وهي قوية وتحميني دائماً.

آلاف الكوبيين المعارضين للنظام الشيوعي كانوا يتظاهرون في نيويورك احتجاجاً على زيارة فيديل. يسأله الصحفي عن رأيه بهؤلاء المعارضين له، فيقول مجيباً: (أحترم أولئك الذين يعارضونني لأنهم نشيطون ويعملون، وأشكر الذين يقفون في صفي وأحترمهم أكثر، إنهم أكثر شجاعة.

خلال هذه الرحلة للرئيس الكوبي ومرافقة المصور الأمريكي له تظهر جوانب من شخصيته كإنسان مبتسم دائماً، صاحب روح مرحة، غير متكلّف أبداً.

من جانب آخر، فإن أولى نتائج هذه الزيارة هي السماح للمرة الأولى لعائلات الكوبيين الفارين منها بالعودة إلى كوبا ولم شمل عائلاتهم.

مشاهد العودة إلى الوطن بعد غياب قسري عنه لتسعة عشر عاماً بدت مؤثرة للغاية.

بدأت رغبات الألاف من الكوبيين الراغبين بالهجرة نحو أمريكا بالتزايد.

ردود أفعال المواطنين الكوبيين المؤيدين للنظام ضد هؤلاء الراغبين بالهجرة، كانت عنيفة جداً تتراوح بين الاتهام بالخيانة، إلى الاعتداءات الجسدية المباشرة، خاصة عند محاولات منعهم من الاقتراب من السفارة الأمريكية، وظهر واضحاً في الفيلم بعض المؤيدين وهم يحملون العصي والهراوات لقمع المعارضين.

قال كاسترو: (إذا لم تكن في صف الثورة، فقد آن وقت الرحيل).

فتح ميناء مارييل وسمح للقوارب الأمريكية باصطحاب كل من يرغب بمغادرة كوبا، حيث تمت أكبر عملية لجوء في أقصر فترة زمنية.

بعض الكوبيين غادروا بحثاً عن الحرية التي حلموا بها طويلاً، وبعضهم أرغم على المغادرة لأنه يشتبه بعدم ولائه للثورة والقائد.

عاشت كوبا سنوات من الارتياح الاقتصادي على الرغم من الحصار الأمريكي، ذلك أن تجارتها الخارجية كانت قائمة على التبادل التجاري مع الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، غير أن الأوضاع انقلبت تماماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتلك الدول التابعة له.

هنا بدأ الفقر يظهر على حياة الكوبيين بقسوة، وانتشرت السرقة، وكافة أشكال الجريمة، وساد الفساد مناحي الحياة كافة.

خلال هذه الرحلة الطويلة التي قضاها الصحفي الأمريكي متنقلاً بين كوبا وأمريكا على مدى العقود الخمسة، وعبر الصداقات التي أقامها مع ثلاث عائلات كوبية أولها (آل بوريغو)، ومن خلال تصوير مراحل حياتهم في كل مرة كما هي، فإن الفيلم استطاع أن يروي قصة كوبا فعلاً، ومعاناة الناس فيها من الجوع والحرمان لأبسط مقومات الحياة بسبب ذلك النظام البوليسي الذي حكم كوبا وما يزال حتى بعد وفاة كاسترو، تحت راية الشعارات الاشتراكية البراقة.

فيلم “كوبا والمصور” استطاع بمنتهى الذكاء والبساطة والواقعية، ودون ادعاءات ومقولات كبرى نقل صور عبادة الفرد هناك بأكثر تجلياتها وضوحاً، وأظهر صورة الشبيحة الكوبيين منذ تلك الأيام.

إضافة إلى صور العزلة عن العالم وكأن كوبا كانت تعيش وحيدة في كوكب آخر.

دون إغفال التوق الشديد إلى الحرية على الرغم من كل القمع الذي كان مسلطاً على حياة الناس، ذلك التوق الذي غامر كثيرون بحياتهم في سبيل الوصول إلى بلد الحرية الحلم أمريكا كما يرونها.

تلك بعض النقاط التي وقفت عليها في متابعتي لهذا الفيلم الوثائقي الهام الذي أنصح بمشاهدته، وهو ما زال يحتوي على الكثير الكثير من الأحداث والتفاصيل التي أتطرق إليها كي لا أفسد على المتبع متعة المشاهدة.

*خاص بالموقع