فرحان المطر: قراءة في مجموعة “آخر صورة” للكاتب السوري حافظ قرقوط

0

صدرت حديثاً للكاتب السوري “حافظ قرقوط” مجموعته القصصية الأولى بعنوان: “آخر صورة”. تقع في 158 صفحة، وتضم بين جنباتها تسعة عناوين لقصص قصيرة تتشكل منها هذه المجموعة.

    صحيح أن القصص منفصلة، ومستقلة بذاتها، غير أنها جميعاً ترتبط فيما بينها بتلك الروح المشتركة التي رسمت أقدار شخصياتها، حتى كأنما هي أقدار أفراد أسرة واحدة، عايشوا الظروف ذاتها إلى درجة أنهم صاروا متشابهين في كل شيء.

     كيف لا وكل الأحداث، والحكايات جرت لأشخاص سوريين، في “وطن” يفترض أن يكون لهم الملاذ الآمن الذي يوفر لهم الحياة الحرة الكريمة، غير أن ما نقرأه يدخلنا مباشرة إلى عنق الزجاجة، ونبدأ بافتقاد الهواء المطلوب للحياة.

    عنق الزجاجة هذا الذي رسمه بقدرة مدهشة حد الألم لنا القاص حافظ قرقوط، عندما أدخلنا معه مباشرة ودونما مقدمات وعبر القصة الأولى التي تحمل عنوان: “رقم” إلى إحدى زنازين الاعتقال حيث الجثث المكدسة فوق بعضها البعض، يمر فوقها السجانون، والقتلة دون احترام لهيبة الموت، وخصوصية بني الإنسان.

   تلك الصورة التي صارت جلية في أذهان البشرية التي تود أن تعرف حقيقة ما يحدث من انتهاكات فظيعة، وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا من خلال ما كشفت عنه صور المنشق قيصر، الذي قام بتسريب تلك الصور إلى العالم ظناً منه أن ذلك الفعل سيساعد في قلب الطاولة فوق رؤوس الطغاة.

   في قصة “رقم” حيث تتحدث الجثث بين بعضها، ومع ذاتها، ومع السجان أيضاً. يقوم السجان بكتابة رقم خاص على جبين كل جثة، ثم يقومون بتصويرها. تطلب جثة المعتقل من السجان أن يكتب لها الاسم الحقيقي بدل الرقم، فيكون الجواب بالتجاهل: (من النادر في هذه البلاد أن يجيب سجان على سؤال مسجون، فكيف بجثة كجثتي).

بعد أن تيأس الجثة من عدم الاستجابة لطلبها، فإنها تحاول بطريقة أخرى: (هل تساعدني وتلفظ الرقم الذي تدونه على جثتي كي أحفظه، كي لا يتحلل معها).

هذا السجان بكل الجبروت والعنجهية التي ترسم شخصيته تراه يخاف من ابتسامة شهيد تحت التعذيب: (إنها على بساطتها تستطيع أن تجلده ولو لمرة واحدة مقابل كل تلك الركلات والسياط).

إلى مكان وعالم آخر تنتقل بنا القصة الثانية التي تحمل عنوان:” عطرة أمي”، التي تروي حكاية كاتب يتقدم للمشاركة بمسابقة لصناعة فيلم، وهو يحلم بالجائزة بشقيها المعنوي، والمادي حيث هو أحوج ما يكون في ظروفه التي يعيشها.

يقوم بكتابة سيناريو عن تلك العطرة التي زرعتها أمه في البيت واعتنت بها، حتى صارت هي مركز الاهتمام، والشاهد على تلك الذكريات لهذه الأسرة.

يبدأ السيناريو من: (تلك القذيفة الغادرة التي وزعت خلايا جسده ((الأب)) على جدران البيوت في مدخل الحارة، وعلى مسام الشارع وأرغفة الخبز التي كان يحملها، كانت وهماً كما هذه البلاد التي جمعتنا في بيت وتفجرت دفعة واحدة). ثم يصل إلى وصف البلاد قائلاً: (البلاد التي قذاف مدافعها وطائراتها تستهدف خلايا الناس فيها، وتوزعها على الموائد وهي جزء من الخيال).

    ثم يحاول تعزيز سيناريو فيلمه بالحديث عن الطقوس الصوفية لأمه: (تلك الطقوس الصوفية لسيدة فقدت شريكها بلحظة غادرة، استطاعت فيها تلك القذيفة بانفجارها أن تحيل الزمن كله دفعة واحدة إلى ركام تختلط فيه الطلاسم بالحقائق لتعيد إنتاج فلسفة الإنسان). يرسم هذا السيناريو وهو على قناعة راسخة بأننا: (كلما اقتربنا أكثر من الحقيقة، أصبحنا أقرب إلى الخيال).

   على الرغم من كل هذه الحيثيات التي تضمنها السيناريو، إلا أن اللجنة تعتذر عن قبوله لأنه يفتقد إلى الإثارة والتشويق، فالموت وأعداد الضحايا صارت قضايا يومية اعتيادية على شاشات الأخبار ولم تعد تغري أو تثير أحدا.

عندما يصله رد اللجنة، يكون هو قد وصل إلى اليونان، بعد أن ركب البحر من تركيا مخاطراً بحياته، وحياة أسرته معه، في رحلة اللجوء الجديدة، وارتياد المجهول.

لم يخب أمله مع رد اللجنة هذه، ولم يعن له شيئاً أنه قد خسر حلمه بالفوز بجائزتها، لأنه أدرك في قرارة نفسه أنه قد حاز على جائزة أكبر وأهم بما لا يقاس، تلك هي جائزة عطرة أمه.

القصة الثالثة بعنوان: “حنين من جورة الشياح إلى الشياح”. تتحدث القصة عن “حنين” ابنة حي “جورة الشياح” في حمص، تلك التي فقدت زوجها في مجزرة الساعة بحمص، وهي الآن تائهة في بيروت تبحث عن أي عمل كي تستطيع مواصلة الحياة، (في مجزرة الساعة بحلكة ذاك الليل استشهد زوجها، ولم يأت الصباح حتى أزالت سلطات الأمن كل ما ينبض في تلك الساحة يشير إلى فعلتها حتى لو كان خيط دم بسيط، لتدفن الجريمة مع أولئك الذين قتلوا غدراً).

حنين التي تبكي بحرقة وهي لا تصدق كيف أن: (أولئك الأصدقاء الذين نعرف بيوتهم وتعرفنا معالمها عوضاً عن اتصالهم بي للاطمئنان علينا أنا وطفلي وأهلي، كانوا يرسلون رشقات الرصاص محملة بكل مشاعر التشفّي). ليس هذا فحسب، بل إن حنين قد تحولت إلى شاهد من نوع آخر على أنواع الموت المتعددة التي تعرفها في سوريا، (الذي أذكره أن الأرض كلها خانت إنسانيتها وتركتنا في حصارنا وموتنا ودموعنا، فبعد أن استشهد زوجي، استشهد أخي منير على باب المنزل بشظية قادمة من انفجار مجهول، ثم استشهد أبي على باب الفرن بغارة طيران تفنن طياروه بتمزيق الأماكن والأجساد وكأنهم ينتقمون من أرغفة الخبز وتلك الحجارة والأبواب والنوافذ والأرواح التي خلفها، استشهدت زوجة أخي منير وهي في المطبخ تحضر الطعام لأولادها برصاصة قناص كان يتفقد حركة البيوت من بعيد لإشباع غرائزه).

أما هي التي أصبحت وحيدة مهجرة هاربة من الموت في بيروت، فتراها تفكر: (هنا في بيروت لا صوت قذائف ولا قناص على المعابر، لكنها تخيفني، نعم أنا في بيروت خائفة بل مرعوبة لحدود الفاجعة، أنتظر رحلة عودة وإن إلى خيمة قرب أرواح من غادرونا).

القصة الرابعة “أمل من خشب”. “أم حازم” قتل زوجها الجندي في لبنان عندما كان الجيش السوري يحارب ميشيل عون المختبئ بالسفارة الفرنسية في بيروت، وعاد في صندوق خشبي، مع بضعة عسكريين، ولم يسمح لها بفتح التابوت لترى جثة زوجها.

عملت مستخدمة في مستوصف، وهي تحلم بالتعويض من خلال ابنها حازم عندما يكبر ويتخرج. “حازم” الذي تحول مثل كثيرين أثناء الثورة السورية إلى شبيح رخيص دون مشاعر أو أحاسيس، عندما بدأ رحلته بالاستجابة للطلب منه أن يكون شاهد زور أمام لجنة المراقبين، ليتحدث عن الإرهابيين، وذلك مقابل وعود بتأمين عمل له.

عندما قتل ابنها الشبيح حازم، أعادوه لها أيضاً في صندوق خشبي، وطقوس تشبه تلك التي عرفتها بموت زوجها، حتى أنها تساءلت في نفسها: هل تحولت كل الأحلام في حياتي إلى مثل هذا الخشب الذي أودعوا فيه جثة زوجي وولدي؟

القصة الخامسة “آخر صورة” وهي التي حملت هذه المجموعة القصصية عنوانها.

“أم مازن” ابنة “حي الخالدية” بحمص تنتقل إلى دمشق بعد استشهاد ابنها، ثم سوف تشاهد صورته على هاتف زوجها حين أرسل له رفاق ابنها هذه الصورة ليخبروه باستشهاده، (محمد استشهد… قالتها وكأنها تنهي نشرة أخبار، وساد الصمت لخلو الحدث من موسيقى قد تخرج لتوضح للسامع خصوصية الأخبار). ابنها محمد الفتى اليافع الذي رفض المغادرة بعد أن حاصرت قوات النظام وشبيحته حيّهم، بعد أن قرر البقاء مع رفاقه وأبناء الحي للدفاع عنه، ولو كان ذلك فقط من خلال العمل الذي يتقنه، ألا وهو التمريض، فكيف سيهرب وهناك من سوف يحتاج إليه.

القصة السادسة حملت عنوان: “إنها أمي يا أوغاد”، بطلتها “سلمى” الزوجة التي ترملت بعد وفاة زوجها العامل بالبناء في مشروع دمر بدمشق، بعد سقوطه عن السقالة في الطابق الرابع، عندما كان عمر ابنه الوحيد “أنور” عامين فقط.

(لم تدرك سلمى أن الأوطان حين يسكنها الطاعون، تتحول إلى أوبئة تخطف الأنفاس والأحلام، دأبت في سنوات عمرها فقط على العناية بابنها لحين قطاف الفرح).

تتلقى سلمى اتصالاً من شقيقتها ماجدة التي تسكن مسافة خمسة دقائق مشياً على الأقدام عن بيتها في الحالات العادية، تخبرها فيها بأن ابنتها قد أصيبت بشظايا الانفجار الذي وقع للتو قريباً من البيت. تهرع لنجدة أختها ومحاولة إسعاف ابنتها بما تمكنت من حمله من مواد الإسعاف الأولية، رباط وقطن طبي ومعقم وبعض الحبوب المسكنة للألم.

في الطريق يعترضها حاجز الأمن ويعتقلها بتهمة تهريب الدواء للإرهابيين، وفي المعتقل تتعرض لشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، إضافة إلى الاغتصاب المتكرر. ذات يوم يدخل عليها ثلاثة عناصر من الشبيحة لاغتصابها، ويبدأ أولهم بالتغني بجمالها، والثاني يكمل تعداد أوصاف جسدها المثيرة، بينما يحتج الوحش الثالث عليهما لأنهما يريدان حرمانه من هذه الوجبة الجنسية الدسمة.

كانت سلمى ملقاة في جانب الغرفة متكورة على نفسها، محاولة حماية جسدها العاري بالطريقة الممكنة، عندما سمعت صوت الشخص الثالث، وعرفته. كانت المفاجأة عندها أكبر من كل قدرة لديها على التوقع أو الاحتمال، أي قدر هذا الذي جاء بها إلى هذا المكان، ورمى بها بين أنياب هؤلاء الوحوش؟!. وما سر هذه المفارقة الكارثية بأن يكون ابنها “أنور” هو ثالث هؤلاء الوحوش؟!. منذ متى وهو يمارس التشبيح، لم تكن تعلم، ولا تعرف أي شيء عن غيابه الذي كان يبرره لها بالدوام في الجامعة والدروس التي لا تنتهي بينما هو يمارس القتل والنهب، وأخيراً يقترب من لحظة اغتصاب امرأة معتقلة دون أن يعلم للحظة واحدة أنها لم تكن سوى أمه؟!. عندما التقى وجهه بوجهها أخيراً، وتقابلت عيونهما النظر فيما بينهما كانت هي قد فارقت الحياة لقسوة المفاجأة، بينما ثار بوجه زملائه الوحوش صارخاً بهم: إنها أمي أيها الأوغاد. (ماتت سلمى… ماتت الأم وهي عارية وباردة ووحيدة في حلمها… وعاش أنور، عاش الابن يبحث عن أم تشبه الوطن حين يتعرى بتورم الأوغاد وتكاثرهم).

القصة السابعة بعنوان: “ساحة الشيخ ضاهر وساحة القلب”.

الطفل “صافي” يتلقى خبر نجاحه في الشهادة الإعدادية، ويطير من الفرح هو وأهله، فيقوم بكسر مطمورته التي جمع بها قروشه لمدة عامين، وكذلك تفعل شقيقته ويجمع المبلغين، ويتسلل هارباً من البيت قاصداً السوق لشراء بعض الحلوى احتفالاً بهذه المناسبة الكبيرة، بينما كان والداه وأخته يتلقون الاتصالات المهنئة بهذا النجاح. لم ينتبه أهله أول الأمر لخروجه، وعندما سألوا ابنتهم عنه، أخبرتهم أنه ذهب لشراء الحلوى، وسيعود فوراً.

لم يعد صافي إلى البيت بعد تلك اللحظة. والداه لم يتركا وسيلة إلا جربوها، ولا باباً إلا طرقوه في رحلة البحث عن ابنهم الصغير، ليستمر الحال على هذا المنوال أربعة أعوام قبل أن تصل رسالة على هاتف والده يقول فيها: (أنا صافي يا أبي… اتصل بي على هذا الرقم). شيء يشبه المعجزات التي تأتي دون مقدمات، هكذا كان وقع الرسالة على الأب.

اتصل به ليخبره أنه في ساحة العباسيين بدمشق، لا يعرف أين يذهب، وأنه والحمد لله ما زال يحفظ رقم هاتف والده لأن أرقامه الأخيرة مطابقة لتاريخ ميلاده. ماذا يفعل صافي في دمشق، ومن الذي أوصله إليها؟!. تزاحمت الأسئلة في رأس والده، وطار على وجه السرعة برفقة زوجته وابنته إلى هناك لملاقاته. (بين دمشق واللاذقية ارتسمت معالم جنازة أكبر من كل الجنازات… إنها جنازة وطن تشكلت على هدير الطائرات وجنازير الدبابات وصور رئيس تطغى على صور كل من قتل لأجله وهو يملأ جوفه ضحكاً يشبه الاستهزاء).

روى صافي لهم حكاية الغياب، وقال إنه بينما كان يجري مسرعاً لشراء الحلوى والعودة إلى البيت ألقي القبض عليه من عناصر المخابرات الذين كانوا يطاردون المشاركين بمظاهرة كانت قبل قليل في الطريق، واعتقلوه بتهمة المشاركة بالمظاهرة أولاً، وعندما عثروا على المبلغ الذي كان بحوزته أضيفت له تهمة تمويل الإرهابيين. ليتنقل خلال السنوات الأربعة الماضية بين فروع المخابرات وآخرها المخابرات الجوية.

لم يصدق أهله أن الطفل الذي تركوه بكل البراءة قد عاد إليهم بهذه الذقن الخفيفة على وجهه، إضافة إلى ما يحمله من تجربة اعتقال مبكر أقل ما يقال عنها إنها قاسية ولا إنسانية وظالمة. أما كيف خرج؟!. وكان هذا السؤال الأهم الذي وجه له، فقد قال: لقد صدر عفو رئاسي وشملني.

القصة الثامنة بعنوان: “الحبل السري وأمي”.

(عندما دوّى صوت الانفجار الذي أسقط الجسر المعلق، شهقت أمي ونادت علينا بصوت لم نعتده من قبل، أو لا ندري من أين خرج بكل ذلك المكنون الذي يجمع الترجي بالأمل بالخوف ممزوجاً بلهجة تأمرنا للتنفيذ، هل عبر ذلك الصوت من بقايا روحها القلقة على أنفاسنا، أم من زوايا القلب المرتجف مع كل نسمة تصيبنا، أم من بقايا حبلها السري الذي ربطتنا به بكلمة أمي).

(حين لمحناها على عجل تصاعد الدخان من جديد مع صوت انفجار قوي ليقطع الطريق بيننا وبينها وبين بقايا البيت، حيث تناثر جسدها وتناثرت معالم المكان كقطع الثريد لتعلن على الملأ أن هذا العالم جهز أوراق النعي على طريقته، وقد قرر سلفاً أن يجعل الأماكن كلها هنا منسف ثريد بلحم آدمي لغربان العالم بعمائمها السوداء، تتشارك وليمة الدم مع ديكتاتور بربطة عنق وضحكة صفراء، وتعينها وحوش بقالب بشري وقد تحولت لما يشبه الطاعون على أعناق البسطاء).

(أحاول بتلك الزحمة أن أتذكر اسمي فلا أجد سوى كلمة منسية، دير الزور).

القصة التاسعة والأخيرة في المجموعة بعنوان: “راجعي أمن الدولة، يولا ابنة الأشهر الخمسة”. والد “يولا” ناشط في المظاهرات المضادة للنظام، وقد صار مطلوباً، الأمر الذي اضطره لترك زوجته وابنته والفرار إلى تركيا. أم يولا تحاول الخروج بشكل نظامي إلى لبنان كي تلحق بعد ذلك بزوجها في تركيا، غير أنها عند المعبر الحدودي بين لبنان وسوريا، تفاجأ بأن هناك منع مغادرة وسفر بحق ابنتها الرضيعة يولا وعليها بالتالي مراجعة إدارة أمن الدولة.  

حاولت التوسط، ودفعت المال بغية الحصول على إلغاء منع السفر بحق ابنتها دون جدوى، إلى أن قررت أخيراً اللحاق بزوجها على نفس الطريق عبر الشمال السوري الذي لا تعرفه من قبل. من السويداء إلى الشمال السوري لم تكن الرحلة سهلة بطبيعة الحال، وعندما وصلت ووقفت على ذلك الحاجز: (تأمل ذلك العنصر الملتحي الذي بدا عليه أنه لم يغتسل منذ العصور الوسطى هويتها وفتح عينيه على آخر اتساعهما ثم تأملها، حيث ابتدأت تتشكل المفارقة لديه، سيدة سافرة الرأس في الصورة على البطاقة الشخصية، ومغطاة إلى أخمص قدميها هنا في الحافلة، وابتدأ السؤال بنبرة أتاحت لها التشفي والاقتناص، بل والاستقواء بفوهة سلاح أعمى).

أخيراً، وفي نهاية المطاف: (وصلت يولا إلى تركيا لتساهم بأشهرها العشرة بزيادة أعداد اللجوء فيما بقيت ابتسامتها الندية التي تليق بالصرخة الأولى للسوريين تتسع وتتسع لترسم على أفق قادم ولو من بعيد… كلمة… حرية).

    مجموعة آخر صورة للقاص حافظ قرقوط وثيقة من وثائق هذا البلد المثخن بالجراح، منقولة بعدسة شديدة الدقة والوضوح، وبعناية قلم شديد الصدق والالتزام بالحقيقة أولاً، وبقضية هذا الشعب الذي راهن على حريته في وجه الجلاد غير آبهٍ بما لاقاه، وسيلاقيه من مصير في سبيل هدفه الأسمى الذي ثار من أجله، ألا وهو الحرية.

  بعد عقد من الزمن على عمر هذه الثورة العظيمة، تأتي هذه المجموعة القصصية لتضيف لبنة جديدة في مداميك البناء الفني والأدبي المواكب للأحداث التي عاشها الناس، ودفعوا خلالها أثماناً باهظة التكاليف، ليس بالموت وحده الذي أزهق أرواح مئات آلاف السوريين، وليس بالسجون والمعتقلات والتشريد والتدمير وتجريب أصناف الأسلحة عليهم بما في ذلك المحرمة دولياً فحسب، بل بها كلها مجتمعة في كل لحظة مرت خلال هذه السنوات العشر.

    آخر صورة ستبقى شهادة حية أمام ضمائرنا للتذكير بالأهوال التي استقدمها علينا الطغيان، وهي كذلك أمانة الأديب والمثقف الذي يلتزم جانب الثورة وأهدافها النبيلة في الحرية والكرامة.

*خاص بالموقع