قرأتها مرتين. الأولى عندما كانت مخطوطاً، ووصلتني للاستئناس برأيي بها قبل النشر نظراً للعلاقة شديدة القرب التي تربطنا معاً، أنا ويوسف دعيس. علاقة الجيرة في الحي الواحد، والطفولة المشتركة، والأحداث التي نعرفها معاً، هي وشخصياتها، مع ملاحظة بسيطة هنا هي أنني لم ألعب معه يوماً في تلك الطفولة بسبب تقدمي عليه بالعمر بضع سنوات، وهو ما كان وما زال يؤخذ بعين الاعتبار، أدباً، واحتراماً، وعرفاً اجتماعياً كان سائداً في تربيتنا.
قلت رأيي ذلك الحين بالرواية وكنت قد أعجبت بها أيّما إعجاب، ووصفته مداعباً بالروائي، وهي كلمة لو تدرون وقعها في بيئة شديدة الخصوصية كما هي الحال في بيئة “مثقفي الرقة” التي كانت قائمة بذاتها، ولم يعد لها وجود الآن نظراً لتحطم المكان الذي تنتمي إليه تلك البيئة، وتشرّد، وتوزّع أولئك المثقفين في أربع جهات الأرض بعد كل ما شهدته الرقة من زلزال لم يبقِ ولم يذر.
صدرت الرواية الأولى باب الأبواب، واحتفى بها كثيرون، وكتبوا عنها مشيدين، بينما كنت أنتظر.
أنتظر ماذا؟!. ولماذا تأخرت بالكتابة عنها، وكان الأولى أن أكون أول من يكتب عنها؟!.
كنت أحاول معالجة القضية التي ألفيت نفسي في مواجهتها خلال قراءتي الثانية للرواية، تلك المتمثلة بهذا السؤال: كيف لي أن أكتب عن شخصيات وردت في الرواية وأنا أعرفها حق المعرفة، بصورتها الحقيقية، وصوتها الذي ما زال راسخاً في الذكرى مع كل هذا الزمن البعيد، والمواقف التي أراها الآن خلال القراءة الجديدة ماثلة للعيان؟!. في الرواية ومع هذه الشخصيات، كنت أشعر أنني أقف إلى جانب الكاتب، أراقب ما تراه عينه تماماً، حتى لو كان ذلك من زاوية أخرى مغايرة، أو مختلفة بعض الشيء.
عندما يرسم في الرواية صورة تلك المرأة، الأم، بشخصيتها الأسطورية بقدر ما هي واقعية وصادقة تماماً، تلك المرأة المكافحة التي بنت أسرتها، ووضعت لها حدود مملكتها الخاصة، التي لا يستطيع المرء إلا الوقوف احتراماً أمامها، وهي التي لم تتكل على زوج كان مشغولاً بعالمه الآخر، والذي يعود إلى منزله كالغريب، أو الزائر، ولا يراه أطفاله إلا كلمح البصر، حيث يظل دور الأم في التربية وتدبير أمور حياة أطفالها، ورسم مستقبل شخصياتهم هو الأساس.
(فيما كانت أمي مشغولة بتدبير شؤون البيت، كنّا نكبر بجوارها ونرى مدى ما تعانيه من قهر، أمي اليوم مشغولة بصناعة تنانير الخبز، فهي ترسلني إلى السوق لجمع بقايا الشعر من الحلاقين، لكي تقوم بخلطه بتربة زور الفرات، وتعجن الطين المخلوط بالشعر، ثم تقوم ببناء التنور دوراً دوراً، وبعد أن يجف الدور الأول تقوم ببناء الثاني، ثم تروب الطين، وتقوم بطلي الحد الفاصل بين الأدوار بالطين الرائب لكي يتماسك التنور، وهكذا إلى أن تصل نهاية البناء الطابقي، وتقوم بالنهاية بطلي داخله إلى أن يتحول إلى جدار صقيل ونظيف من الداخل).
يتابع بطل الرواية عطاء الله رسم التفاصيل التي تصور شخصية هذه الأم وكفاحها:
(ما بين باب بغداد وبيتنا مسافة طويلة إن سلكتها مشياً، وماذا إن كنت تدحرج حلّة قطرها يتجاوز المتر ونصف؟!. وصلنا البيت بعد عناء وتعب شديد، كانت يدا أمي ملطختين بالشحوار، والعرق يتصبب منها، ما زلت متشبثاً بعباءة أمي، وكأني أريد أن أقاسمها تعبها. ركنت الحلّة أمام الدار، رغم التعب كانت أمي سعيدة في جمع حصيلة الكروة، التي ستكون لنا خير معين في الدراسة والعيش).
الأم الطيبة القلب، المفطورة على الكرم، والإيثار وفعل الخير دون انتظار مقابل:
(قال لي ذات مرة أبو عرفات، وهو صديق من حارتي يكبرني بثلاثة أعوام، أمك أول امرأة ستدخل الجنة من بين نسوة الحارة، فقد أكل من خبزها كل أبناء الحي في أيام لم يكن يعرفون سوى الخبز والشاي).
ترسم الرواية في مواضع منها صورة الرقة في ستينيات وسبعينات القرن المنصرم، وهذه واحدة من تلك الصورة التي تصف ما حدث بعد مشاهدة عرض فيلم سينمائي بصالة سينما الزهراء، وهي واحدة من ثلاث دور للسينما في ذلك الوقت: الشرق وغرناطة، والزهراء التي تعرف أكثر باسمها صاحبها: سينما الجدوع.
(قاعة السينما الممتلئة برواد من كافة الأعمار خرجت وهي تصيح “زواج عتريس من فؤادة باطل”، وفي الشارع تجمّع الناس وهم يصرخون “زواج عتريس من فؤادة باطل”، التحق المارة بالتظاهرة، ودون وعي راحوا يرددون “زواج عتريس من فؤادة باطل”، ومن أمام باب السينما الذي لا يبعد كثيراً عن ساحة الساعة في شارع تل أبيض ولمسافة تصل إلى أكثر من ألف متر، مشى المتظاهرون وهم يهتفون “زواج عتريس من فؤادة باطل” إلى أن فرّقهم عناصر الشرطة بالقرب من جامع شيخ الفواز).
عطا الله بطل الرواية، كان عاشقاً أيضاً للفرات، وفاطم التي كانت حلماً قبل أن يغيّبها الفرات إلى غير رجعة.
(عشقه للفرات بدأ مع غسل الصوف، ومع تلويحة يد فاطم باتجاه الجسر، فاطم بعبثها الأنثوي استقرت في مخيلته طوال عشر سنوات تقريباً، خيالها وملامحها لا تفارق رأسه، عشقه للفرات خالطه خوف متنام يوماً إثر يوم، فالفرات أخذ أيقونته إلى غير رجعة، وما زال يسمع بين الحين والآخر عن غرق أطفال ونسوة وشباب ورجال أيام الربيع والصيف).
الشخصية الثانية التي تحيط بها الألغاز من كل حدب وصوب، هي “حسين الحسني” والد عطا الله، يقول عنه:
(كان أبي يحرص على إغلاق الأبواب، ويقول “إن الأبواب الموصدة تفتح لك باب السؤال، والسؤال يقودك إلى معرفة الحقيقة، وإلا لِمَ جعل الله للجنة أبواباً، وللنار أبواباً، ولِمَ وضع الناس أبواباً على مدنهم وقلاعهم، وأطلقوا عليها أسماء لها دلالاتها. لا تغفلوا الأبواب وقيمتها، ولا تتركوا أبوابكم مشرّعة للريح، فما خلفها مستودع أسراركم والكنز الذي تخفون”).
هذا الوالد الذي كانت علاقته بالنساء في بعض جوانبها متهورة، لا مبالية، كما في هذا المشهد الذي يصور إحدى تلك العلاقات العابرة.
(وجد المرأة العجوز أمامه. قال: “خيراً إن شاء الله يا جارتي؟!” قالت: “ابن عمي ماذا تريد على الغداء”. قال: “أي ابن عم وأي غداء…؟ لا شأن لي بغدائك يا امرأة”. ثم قال بتعجب: أية مصيبة وقعت عليّ في هذا المكان القصي؟ قالت: “ألم تتزوجني البارحة، وبالعلامة أنقدتني مهري، وقلت الشاهد هو الله”. قال: “وكلي الله يا حرمة. فأنا إلى الآن لا أعرف حتى اسمك، ومع ذلك إن كنت قد عقدت عليك، وتزوجتك فأنت طالق”، ثم قفل راجعاً إلى وحدته).
من تلك الصورة للرقة وناسها في ذلك الزمن الذي ابتعد كثيراً لدرجة أنه لم يبق منه شيئاً سوى من خلال الحكاية والذكريات، تنتقل رواية “باب الأبواب” إلى اللحظة الراهنة لتضعنا وجهاً لوجه وبصورة صادمة مع الحدث:
(الجحيم ما باتت تُوصف به الرقة، المدينة الهادئة والمعزولة عن العالم، المدينة التي كان يُشار إليها بعلامة استفهام كبيرة دائماً، المدينة التي كانت تغيب عن نشرات الأخبار، ونشرات الأحوال الجوية، تحولت بين ليلة وضحاها إلى سرّة الكون، ومستودع أسرار للقتلة بعد أن مرّت جحافل جيوش سوداء وصفراء في أزقتها وحواريها الرحبة، وكما مرّ عليها سابقاً الطاعون الأسود والوباء الأصفر، ها هي أعلام صفراء وسوداء وبيضاء تخفق اليوم فوق سواريها، وها هم جنود بلحى كثة وأخرى حليقة يتراقصون فوق جثث عباد الله).
ثم تقترب الكاميرا أكثر فأكثر نحو عناصر المشهد:
(اخترقت الطائرة المشهد، ثم غابت مع صخبها نهائياً، صرخ من كل قلبه هذه المرة: لست خائناً. لست خائناً. والله ما فررت إلا لكي أنجو بنفسي وعيالي من هذه المذبحة. يا رب الكون. يا رب العباد. يا رب المتعبين والمقهورين افتح لي بابك، لقد فتحت لنا الحرب أبواب الجحيم، ولم يتبق إلا بابك، يا رب افتح بابك لكل الناجين بأنفسهم وعيالهم، فأنا ومعي كل المهزومين نقف على أعتابك، ثم جثا على ركبتيه، ونادى: “هل هناك باب يفضي إلى كل الأبواب؟!”).
أية أهوال وكوارث كانت بانتظار الناس هنا، في الرقة، وأي مصير هذا الذي لم يكن يتخيّله أكثر المتشائمين والسوداويين في حياتهم؟
(في الأيام التي تلت هذه الأحداث لم يتبقَ في الرقة إلا قلّة قليلة من الناس العجزة، والمعاقين، وممن لا يملكون أسباب الرحيل. من يروي الآن أحداث الرقة الأخيرة، بكل تفاصيلها المؤلمة والمؤثرة. مات ورحل الرواة، وأصحاب الكلام، والجلساء الظرفاء الذين يجتمع عندهم الناس من كل حدب وصوب. صمت مطبق يحيط بشوارع وأزقة الرقة، لا حياة هناك سوى أصوات الانفجارات، وصواريخ وقذائف تنهال على الحيطان والأسطح وتفتك بالشجر والحجر).
كما في كل مكان من العالم يشهد موتاً ودماراً بسبب الحرب، كذلك هي الرقة وأهلها:
(الناس في الرقة صاروا يميزون بين قذيفة الهاون والصاروخ وما بين البرميل المتفجر والقنبلة الصوتية أو العنقودية، وصار مألوفاً أكثر ما يقوم بجمعه الأطفال من بقايا القنابل والصواريخ، وصار لافتاً أن ترى جمهرة من الفتية والصبية والكبار والنساء تتجه أنظارهم إلى الأعلى، في محاولة يائسة للبحث عن مكان سقوط القذائف، أو على أقل تقدير توقع مكان سقوطها، ونسبة الأذى الناجمة عن الانفجار، وتحليل شكل وقوة القذيفة، ونوع الطائرة، سيخوي أم ميغ. صرنا محللين عسكريين، وقبلها سياسيين وإعلاميين، ولا نعرف ماذا يخبئ لنا القدر).
في غمرة أحداث هذا الزلزال، ومسرح اللامعقول الذي رسم مشاهده عبر الرقة بأحيائها، وبشرها العاديين، كان ثمّة ملاك للرحمة هبط على الرقة دون استئذان، في محاولة منه لصنع المعجزة التي لم يقدر عليها أحد من قبل، ذلك عندما حضر الأب باولو ليقوم بالمهمة المستحيلة:
(لم تنفع تحذيرات الناشطين والأصدقاء من ثني الأب باولو عن عزيمته في لقاء قادة داعش، وإن استطاع أن يلتقي بالبغدادي، فهو جاهز، وأخيراً وقعت الفأس بالرأس، ودخل الأب باولو غار الأفعى، معقل الدولة في عاصمة الخلافة المزعومة، وغادرنا إلى غير رجعة).
رواية “باب الأبواب” الحافلة بالغرائبية الشديدة، والواقعية المفرطة، بلغتها الأدبية، واليومية، بالحوارات التي نسمع فيها أصداء أرواحنا مع كل جملة هنا وهناك، خاصة عندما ترسم لنا صورة الواقع القريب جداً، ذلك الذي لم تنته أحداثه بعد.
هذه الرواية استطاعت أن تجعل الشهداء والموتى ينطقون بأصواتهم، ويدلون بشهاداتهم التي تروي ما حدث، وكيف ماتوا.
المختار ماجد العثمان العائد من أمريكا.
نيسان إبراهيم الناشطة الكردية.
الحاج صالح العبد الله العلي من حارة السخاني بالرقة.
هيا الطفلة ذات الثلاثة عشر ربيعاً التي زوّجت قسراً لداعشي مهاجر.
الحاج أحمد ليلى من أهالي الرقة الذي رفض المغادرة وقال مشيراً بعصاه: ادفنوني هنا قبري لن يكون سوى في بيتي.
الطفلة سلام ذات السنوات الثلاث التي تركتها أمها أمام الجامع هرباً من الموت.
رواية “باب الأبواب” التي تضم بين طياتها: باب الجذور، باب المعرفة، باب السبيل، باب الشاهد، باب الجهاد، باب الهجرة، باب الموت، باب الرؤيا، باب الحجر، باب العبور، باب الخروج من الجحيم، باب المنتهى، وباب الخواتيم.
الرواية التي يبدأ الدخول فيها من باب الجذور عندما يقول:
(إذاً لا مناص من السفر. لتكن الغرب وجهتك، بعد أن تتجاوز الجبال الوعرة، وأن تعبر باب المكتوب، وتترك خلفك باب الجهاد، وباب الرسل، وباب الأربعين، هذا يعني أنك تصنع تاريخاً جديداً لحياتك، يقولون إن إسطنبول بلد العالم، وهي مفتاح لكل باب موصد، مفتاح باب الرزق والعلم. مفتاح المعرفة وكشف الأسرار، مفتاح الحقيقة).
من سفر، وتاريخ، وذكريات، ومصائر أشخاص، وشعب، نسج الأديب الرقّيّ المبدع يوسف دعيس خيوط روايته الأولى لتكون بذلك دخول الأقوياء في عالم الرواية، وهذا ما أشرت إليه بداية عندما وصفته أول مرة بالروائي، وهي الكلمة التي كانت ستحدث العديد من المعارك الأدبية في بيئة مثقفي الرقة التي لم يتحدث عنها أحد بعد، بما لها من خصوصية يكاد لا يعرفها غير أهلها.
*خاص بالموقع