فرحان المطر: اليونانيون العرب وأحفاد كريت

0

هذه نظرة على فيلمين وثائقيين لقضية واحدة، الفيلم الأول: (اليونانيون العرب)، مدته 47 دقيقة. اما الفيلم الثاني، فهو : (أحفاد كريت)، مدته 48 دقيقة، وهما من إعداد وإخراج: هلا مراد، وإنتاج: قناة الجزيرة الوثائقية.

يطرح الفيلم الأول، قضية على درجة عالية من الحساسية بالنسبة لي كلاجئ أو مهاجر سوري، تتمثل بالسؤال التالي: هل يمكن أن يتحول الوطن إلى مجرد حلم؟!.

لا بد من التوضيح بدايةً بأن الفيلم بحد ذاته لم يطرح هذا السؤال من قريب أو بعيد، غير أن الانطباع الذي تركه لدي خلال مشاهدته تم تلخيصه بهذا السؤال، بقدر ما أثار في داخلي من مخاوف وجودي على مستقبل أبنائي، وربما أحفادي في المستقبل، حين تنقطع أية أواصر صلة مادية واقعية حقيقية تربطهم بما كان اسمه وطن آبائهم وأجدادهم نتيجة ما زال يحدث إلى الآن منذ عشر سنوات.

ربما سبقني في هذا السؤال، الفلسطيني الذي ما زال يحلم بالعودة، وهو يحتفظ بمفتاح بيت أبيه وجده في فلسطين، بعد أن هجّر منها في عام 1948.

هل سيكون مصيرنا كسوريين ذات يوم كما مصير الهنود الحمر في أمريكا؟!. عن ضياع الهوية بالابتعاد القسري عن الوطن أتحدث.

يتحدث فيلم (اليونانيون العرب) لإعلامية هلا مراد، عن التهجير القسري لأجدادها من (جزيرة كريت اليونانية) قبل مائة وثلاثين عاماً، أولئك الناس الذين توزعوا على مدن شواطئ المتوسط في طرطوس بسوريا، وطرابلس في لبنان، وأخرى في ليبيا؟!.

عن أولئك البشر، وحكايتهم منذ أن بدأ اقتلاعهم من جذورهم الأصلية حيث وطنهم الأم جزيرة كريت، ورميهم عبر البحر المتوسط نحو مصيرهم المجهول، حيث نزلوا بلاداً لا يعرفون لغة أهلها، ولا يجمعهم بها سوى عامل الدين المشترك، وأصبح اسمهم الجديد (الكريتيون)، حيث عاشوا، وعملوا في الزراعة وصيد السمك، وعدد من المهن الأخرى، واندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ونسيت أجيالهم اللاحقة لغة أهلهم الأصلية، وعاشوا على اجترار الذكريات والحكايات التي يتداولونها أباً عن جد، مع الحنين الذي لم يتوقف للعودة إلى منبتهم الأول جزيرة كريت، وهو ما تحول دون تحقيقه آلاف العقبات.

عالج الفيلم موضوعه عبر اللقاء مع (الكريتيين) الموزعين في مدن إقاماتهم الحالية، سألهم عن تاريخهم، ووجودهم الحالي، وأحلامهم، وعلاقتهم بالجذور، من حيث اللغة والعادات وتابع رحلة البحث والاستقصاء عن الأسئلة الكبرى.

ثم وصل الفيلم إلى جزيرة كريت ذاتها التي هجر منها الأجداد، وشاهد البيوت التي ما تزال خاوية على عروشها، واستنشق عبق التاريخ من خلال ملامسة الحجارة، ومشاهدة الآثار الباقية شاهدة على الزمن.

ظروف الكريتيين ورواياتهم عن تاريخهم تتشابه تماماً في كل من سوريا ولبنان وليبيا، أما في مصر فقد كان الوضع مختلفاً فاليونانيون هناك لم يهجروا ولم يتعرضوا للتطهير العرقي بل هم وصلوا للتجارة والعيش منذ عقود طويلة.

الفيلم الثاني عن ذات الموضوع بعنوان: (أحفاد كريت)، تتناول فيه القضية من خلال سرد حكاية جدتها هي، وقد عادت هلا مراد مرة أخرى من خلال هذا الفيلم إلى جزيرة كريت برفقة ابنتها فرح، وشقيقتها.

أرى أن الفيلم الثاني يكاد يكون مكملاً للأول، أو حتى اعتباره الجزء الثاني منه.

من خلال ما تطرحه مشاهدة هذين الفيلمين لقضية اليونانيين الكريتيين الذين هجروا من بيوتهم، ومعاناتهم مع حق العودة الذي بات في حكم المستحيل، والعيش في حالة الحنين والبكاء على وطن تم اقتلاعهم منها، ما زالوا يحلمون بمجرد رؤيته ولو بزيارة عابرة.

من خلال هذه النظرة السريعة على الفيلمين الوثائقيين (اليونانيون العرب)، و(أحفاد كريت)، وبعد أن يتاح لك أيها القارئ العزيز فرصة المشاهدة، فإنني سأترك لك حرية الاتفاق أو الاختلاف مع وجهة نظري التي بدأتها على هيئة سؤال الخوف من ضياع الهوية، وأن يصبح الوطن مجرد ذكرى بعيدة، ونوستالجيا نغازل بها أرواحنا كلما اشتد بنا الحنين.

يبقى أخيراً أن أي تهجير قسري لأية مجموعة بشرية من أرضها، تحت أية مبررات وحرمانها من حق العودة، هو جريمة بحق الوجود الإنساني بحد ذاته. قضية الكريتيين، ليست مسألة عابرة لا تستحق التوقف عندها، بل هي واحدة من القضايا التي يجب التعامل معها بكل الجدية والاحترام الذي يليق ببني البشر.

*خاص بالموقع