فرج بيرقدار: ممالك الرعب والموت والجنون… سوريا الجهنّمات

0

سلمتني دورية مخابرات أمن الدولة إلى دورية من المخابرات الجوية. 

أول من صادفته، وأنا أدلف من الدرج إلى داخل الفرع، كان ذلك الجلاد الرياضي الذي كلما ضربني سدحني أرضاً.

نظر إليّ بامتعاض وقرف وهو يقول: لشو راجع لعندنا يا شرموط؟

أي ورطة هذه يا إلهي.. يلعن ربك إذا كان لك رب  يا تركي علم الدين.. ليش رجّعتني لهون؟

أدخلوني إلى إحدى الغرف، وطلب مني الحارس أن أقف على رجل واحدة مع رفع اليدين كالمصلوب.

قلت: كيف أفعل ذلك؟

قال: يا عين أمّك.. أبتتذكّر كيف كان الأستاذ يعاقبكين؟

رفعتُ يديّ، ووقفت على رجل واحدة.

دقائق من الصمت ثم التفتُّ إلى الخلف، فجاءني صوته كضربة سوط: وجهك عالحيط يا شرموط.

بعد زمن أحسست أن شبَحه لم يعد موجوداً، فتلفّتّ حولي وأنزلت يديّ وحرّكتهما في كل الاتجاهات، ثم سمعت وقع خطواته فعدت إلى الوضع المطلوب.

خلال غيابه انتبهت إلى أنه يستطيع مراقبة يديّ، ولكن الباب لا يتيح له أن يرى رجليّ، فصرتُ بين حين وآخر أبدل الوقوف من رِجل إلى أخرى.

كأنه انتبه إلى أن تعبي أقل مما هو متوقّع، فدخل الغرفة وسألني على أي رجل كنت أقف في البداية. كدت أبتسم لسذاجة سؤاله، ولكن كان عليّ أن لا أخسر احتمال تعاطفه مع سوء حالي فقلت: على هذه التي أقف عليها.

اقترب مني وأمسك بساقي، فبدأت رجلي ترتجف، فاقتنع أني على رجل واحدة طوال الوقت.

بقيت على هذه الحالة، مصلوباً نهاراً وممدداً على بلاط الغرفة ليلاً، لثمانية عشر يوماً، بدون أي سؤال أو جواب، ثم أطلقوا سراحي.

أعرف أن أخي الأكبر يخدم الإلزامية أيضاً. استطعت التواصل معه، والتقينا في الساحة العامة في عربين القريبة من دمشق.

كان يسكن في بيت طيني شبه متهدّم، قدّمه له أحد أصدقاء والدي من عربين.

أول مرة أرى أخي الأكبر يحضِّر طعاماً. في العادة تلك مهمة أمي.

بالطبع لا أقلق على أخي الأكبر، فهو من أفضل الرجال الذين أسهموا في نسج حياتي إنسانياً وأخلاقياً وثقافياً وسياسياً.

حدَّثَني عن معاناته في البحث عني، وعن الوساطات والرشاوى، وقال لي إنه وصل مرةً إلى باب سجن المخابرات الجوية، وقال له صاحب الوساطة: أخوك ليس هنا، ومع ذلك يمكنك أن تدخل وترى السجناء فرداً فرداً، ولكن أخي خجل من تكذيبه، وعاد أدراجه.

عدتُ إلى كتيبة الصواريخ التي أتبع إليها قرب منطقة غباغب القريبة من درعا ومن الجبهة مع إسرائيل.

هناك عرفت أن خدمتي الإلزامية انتقلت من لواء الصواريخ، إلى فوج مدفعية قريب من مطار التيفور العسكري على تخوم صحراء تدمر.

لا أعرف أي شيء عن المدفعية، فدورتي العسكرية كانت على الصواريخ، ولكني حين وصلت إلى الفوج أرسلني حارس الباب الرئيسي إلى مكتب القيادة.

لم يأخذ لقائي بقائد الفوج أكثر من دقيقتين أو ثلاث، تخللها تهديد ووعيد، ثم انتهى الأمر بقوله لي:

– إذا كنتَ تظنُّ نفسكَ تستطيع أن تفعل هنا ما فعلته في كتيبة الصواريخ، فأنت غلطان. انقلع.

نظرت إليه أنوي أن أسأله إلى أين أنقلع، ولكن وقاحة عينيه، وصمته المتربِّص، وسبابته المصوِّبة نحو الباب، لم يسمحوا لي أن أقول ولو كلمة واحدة.

كان في الخارج من تولى مرافقتي إلى مكتب الإدارة حيث أخذوا مني كل ما لديّ من وثائق، وأعطوني بوطاً عسكرياً وثياباً وأواني، ثم أرسلوني بسيارة نقل الطعام إلى سرية المدفعية التي تمّ فرزي إليها.

خلال ساعات اطمأن لي أحد العساكر، فقدم لي شرحاً وافياً لطبيعة حياتهم، وحذرني من شخص ابن حرام شغلته كتابة التقارير بزملائه، ثم همس لي أن قائد السرية هو ضابط أمن الفوج.

في الأيام الأولى كان قائد السرية حذراً في التعامل معي، ولكن حذره بدأ يسترخي يوماً إثر آخر.

بعد سهرات وأحاديث عديدة في الثقافة والفن والتاريخ والشعر قال لي: فرج.. من أنت؟

قلت ساخراً: لك أن تخمّن.

قال: قبل أن تأتينا بشهور وصلتنا أخبار مفادها، أنك رجل شرير، وأنك ضربت قائد كتيبتك بسكين، وأنك لستَ وطنياً، ولهذا نُقِلتَ من سلاح الصواريخ إلى سلاح المدفعية كنوع من التأديب، مع حرمانك من مغادرة الفوج إلى أن تنتهي خدمتك العسكرية، فما قولك؟

إذا كانت المخابرات الجوية جهنم منقّحة، فإن خدمتي العسكرية ستكون جهنم أيضاً وإن كانت أقل تنقيحاً. إنها سوريا الجهنمات.

– لم تجبني.. أليس لديك تعليق؟ 

قلت: لدي تعليقات لها أول وليس لها آخر، ولكني أعرف مسبقاً أن لا جدوى من أي تعليق.

يبدو أن قائد السرية لم يعد مقتنعاً بالمعلومات والتقارير التي وصلته بشأني، فبدأ يدعو قادة الفصائل للسهر عنده كي يطرحوا أسئلتهم عليّ ويستمعوا إلى أحاديثي. كانوا في البداية متوجسين مني كما لو أني مجرم، ثم بدأت الأحاديث والمسامرات بتغيير الصورة.

في الاختبارات التدريبية نصف السنوية على رمي أهداف جوية تتحرك ببطء رسبت سريتنا في الاختبار. عاد قائد السرية متجهماً وهو يصب غضبه على العساكر الأغبياء الذين لم يصيبوا ولو هدفاً واحداً لتنجو السرية من عار الرسوب.

التفتَ إليّ فجأة كما لو أنه اكتشف معجزة.

– الاختبار سيعاد بعد أسبوع، وأريدك أن تكون على أحد مدافعنا. إصابة واحدة من أي مدفع نحقق درجة مقبول وننجو من العار، وأنا سأعتمد على المدفع الذي تقوده.

لم يكن لي غير أن أبتسم وأنا أقول: تعرف أن اختصاصي صواريخ، ولا أعرف شيئاً عن المدفعية.

قال: أنا أدرّبك خلال ساعات. الأمر بسيط لشخص مثلك.

ذهبنا إلى أحد المدافع وراح يشرح لي عن عجلة الزاوية التي تتحكم بارتفاع وانخفاض سبطانة المدفع، وعجلة الاتجاه لملاحقة خط الهدف مع التسديد على نقطة تسبق الهدف بذراع، لأننا لو صوبنا على الهدف مباشرة فستصل القذيفة متأخرة.

في يوم الاختبار حذَّرني من أن يراني أحد من قادة السرايا

– استعرْ بذلة غير بذلتك، وأخفِ رتبتك، ولا تترك الخوذة أبداً. حين ترى أحداً يعرفك، أخفض مقدمتها بحيث تغطي جزءاً من وجهك.

من بين أربعة مدافع كان مدفعنا هو الوحيد الذي حقق أكثر من إصابة مباشرة، فعدنا وقائد السرية يوزع وعوده بسخاء من إجازات وإعفاءات ومكافآت.

السخاء يمكن أن يشمل الجميع باستثنائي، فالأوامر العليا تحول دون ذلك. 

يوماً ما، قال لي قائد السرية: عندنا اليوم درس توجيه معنوي عن تاريخ سوريا منذ الاستقلال، وأريدك أن تحضره حتى لو كنتَ ممنوعاً من حضور الدروس. سألته عن سبب منعي، فقال إنه لا يعرف السبب، ولكن القرار ينصّ على ثلاثة ممنوعات: لا مغادرة للسرية، لا إعطاء دروس، ولا حضور دروس أيضاً.

سألني بعد الدرس عن رأيي بما قدّمه، فدقّقتُ له بعض المعلومات والتواريخ.

قال لي: إسمع.. أنا على ثقة أنك رجل مظلوم. لقد مضى على وجودك في السرية شهور، وكل شيء يؤكد لي أن هناك خللاً لا أعرف سببه، لذلك اسمعني جيداً.  سأغض الطرف عنك لو غادرتَ سراً لترى أهلك، ولكني لا أستطيع تحمُّل ذلك على مسؤوليتي. أنا فقط سأغض الطرف، ولكن إن ارتكبتَ مخالفة ما وأمسكتك الشرطة العسكرية في حمص، ولم أجدك غداً في السرية، فلا أستطيع إلا أن أسجلك غياباً غير مبرَّر. هل يناسبك ذلك؟

شكرته وقلت إنه يناسبني.

بقيتُ على هذه الحال إلى أن أنهيت خدمتي الإلزامية، وفوقها عقوبة الشهور التي أمضيتها في المخابرات الجوية، إذ اعتبروها تغيباً عن الخدمة، ثم فوقها ثمانية شهور يسمونها احتياطاً.

انتهيت من لعنات الجيش ومن الجامعة معاً، ولكن جميل حسن لم يقطعني من لعناته وتوعّداته. 

كان أملي، في ما لو اعتُقِلتُ مرة أخرى، أن يكون اعتقالي من أيّ جهة مهما كانت باستثناء المخابرات الجوية. 

*مجلة رمان الثقافية