فرج بيرقدار في “مرايا الغياب”: حضور الشعر في انعكاسات الصور والأخيلة

0

أنور بدر

رئيس تحرير مجلة أوراق

أوراق 11

أوراق الدراسات

لسبب لست أعرفه بدقة، تقاطعت طرقنا أنا والصديق فرج بيرقدار لسنوات طويلة، ليست العلاقة الحزبية أو الرفاقية فقط، بل جمعتنا الصحافة بكثافة أكبر حين عملنا مع كوكبة من الأصدقاء الرائعين في مجلة “القاعدة” لجبهة التحرير الفلسطينية، وكان الإعلام الفلسطيني حينها مساحةً ومنبراً لحرية التعبير، حين لم تكن هذه الحرية متاحة في سوريا، وحين لم يكن لدينا حتى كليّة جامعية لدراسة الإعلام أو الصحافة، شكل الإعلام الفلسطيني كليّة تخرجنا منها بكفاءة أهلتنا لامتهان الكتابة والصحافة، وهي مناسبة لنعترف هنا بأهمية هذا الإعلام ودوره، ثم جمعتنا زنزانات فرع فلسطين للأمن العسكري، قبل أن يُرحل فرج إلى سجن تدمر سيء الصيت، ثم نعود ونلتقي في سجن صيدنايا العسكري الأول لسنوات ليست قليلة.

وما بين هذه المحطات وقبلها وبعدها كنتُ متابعاً لتجربة فرج الشعرية وتطورها، إذ عجزتْ كل هذه المحطات عن تغييب الهاجس الشعري لديه، فلم ينقطع عن كتابة الشعر حتى في فرع فلسطين حيث لا قلم لدينا ولا قرطاس، وقد ساعدته على ذلك ذاكرة استثنائية، مكّنته من حفظ الشعر بل ونَقْلِه أيضا، عبر النقر بطريقة “المورس” على الجدران الفاصلة بين “المزدوجة” التي كنا بها عشرون رفيقا ونيف بداية، وبين باقي الزنازين الانفرادية لرفاقنا الجدد.

في تلك الرحلة الطويلة، وما بين هذه التقاطعات، تُطل أشياء كثيرة، ورفاق غابوا عن الحياة، وأسماء تباعدت في متاهات الجغرافيا التي أعاد السوريون اكتشافها لاحقاً، ومحطات غدا بعضها في ذمة التاريخ، وذكريات أخرى أعرف أنْ لامجال لذكرها في هذا المقام، لكنني الآن، وفي إطار اشتغالنا في هذا العدد من مجلة “أوراق” على ملف أدب السجون والمعتقلات، سأتوقف مع تجربة فرج الشعرية، حيث كتب في هذه السجون والمعتقلات أجمل أشعاره، كما كتب لاحقاً عن تجربته في السجن وآثار هذه التجربة في كتابه الجميل “خيانات اللغة والصمت.. تغريبتي في سجون المخابرات السورية”، وربما لن نستطيع الإحاطة بكل ذلك، لهذا سأكتفي فقط بالإطلالة على ديوانه “مرايا الغياب” الذي شكل بؤرة في هذه التجربة، تميّزت من بين سابقاتها ولاحقاتها من قصائد فرج بامتلاكها روحاً وإيقاعاً خاصتين بقصيدة النثر، دون أن تقطع مع كامل التجربة المسكونة بشعر التفعيلة واستدعاء الأوزان أحياناً.

فهذه القصائد، وكما يشير فرج في مقدمة المجموعة، كتبت في سجن صيدنايا بين عامي 1997 و2000م، وقد جمعها الشاعر أو اختارها من بين أشعار كثيرة لخصوصيتها كقصائد نثر، تحررت من الوزن والقافية وأي اعتبارات شعرية تقليدية، إلا أنها ظلت مسكونة بروح فرج وتجربته التي نهلت من الإيقاع حتى في نثره، هذا الإيقاع الذي هرب من بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، أعاد الشاعر اللعب به، إذ استطاع أن يبنى منظومته المستقلة على دعامتين من اللغة أولاً، ومن الصورة أو الخيال تالياً.

وكأنه يؤكد نظرية الجاحظ حين قال “المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وتكمن الحكمة في إقامة الوزن وجودة السبك، فإنما الشعر صياغةٌ، وضرب من التصوير”، والصياغة تكون بالكلمات كما يؤكد الشاعر الفرنسي مالارمية “الإبداع لا يكون بالأفكار بل بالكلمات”، فإذا كان الشعر يُبنى من مفردات اللغة، فالشاعر الجيد هو الذي يتقن استخدام هذه المفردات لمنحِ مبناه جمالية خاصة به، غير مكتفٍ بالمستوى الدلالي للمعنى، فاللغة كائنٌ حيٌ لدنْ يتنفس في الشعرِ ويتلونُ ويتضوعُ بجماليات وأحاسيسَ كثيرة، ودون ذلك تموتُ شعريّة النص، ويصبح أقرب للشعر المترجَمْ حين يهتم المترجِمُ بالبحث عن دلالة المفردة قاموسيا فقط، فيما تَمتحُ الشعرية الجميلة من الدلالة المعرفية للألفاظ ومن الظلال والإيحاءات التي تنموا على هوامش تلك المفردات أو الكلمات، وأعتقد أن اللغة العربية في هذا المستوى من أغنى لغات العالم بالمفردات وظلال المعاني لكل كلمة، بما يمنح الشاعر مساحةً للعب على هذا التنوع متجاوزاً نقل المعنى فقط، باتجاه نقل الإحساس الكامن في ظلال الكلمات ومنحنياتها، حين يوحي بالحالة دون أن يُصرح بالقول.

دعونا نقرأ تعريف الشاعر لمراياه والتي صاغها شعراً منثوراً كمقدمة:

كان يمكن لهذه المرايا 

أن تكون مطراً صافياً

أو صمتاً صافياً

أو دمعاً صافياً على الأقل.

بيد أن الظروف

كانت من حجر

وكان صليل الزمان والمكان 

مضرّجاً بما يشبه الدم

وبما يشبه الجنون

وبما يشبه الآلهة 

وبما لا يشبه شيئا على الإطلاق.

دعونا نلحظ كيف تسلل بنا الشاعر إلى موضوعه دون أي مباشرة أو خطابية، وكيف أشركنا في فخ الاحتمالات الممكنة لفهم هذه المرايا: مطرا صافيا، أو صمتا صافيا، أو دمعا صافيا على الأقل، لكنه في النهاية ألغى كل هذه الاحتمالات، لأن الظروف “كانت من حجر”، وفي العربية إما أن تكون الظروف زمانية أو تكون مكانية، لذلك أضاف الشاعر بالاتكاء على الفعل الماضي الناقص لمفردة “كانت”: وكان صليل الزمان والمكان مضرّجا بما يشبه الدم.

لنتمعن في استخدم مفردة “الصليل” التي تنتمي لعالم السيوف، بنسبتها إلى الزمان والمكان، لتستقيم عبارة “بيد أن الظروف كانت من حجر”، وكيف أعادنا ثانية إلى دلالة الصليل هنا، حين أكد أنه هذا الصليل كان: مضرّجا بما يشبه الدم، وبما يشبه الجنون، وبما يشبه الآلهة، وبما لا يشبه شيئا على الاطلاق.

فالشاعر أراد أن يُخبرنا عن المكان الذي يعيش فيه، والذي وزع فيه تلك المرايا، دون أن يُسمِهِ، ودون أن يستخدم كلمات السجون والمعتقلات وأشكال التعذيب التي خبرها، لكن مفرداته القليلة كانت كافية لتضيء المعنى النهائي الذي أراد أن ينقلنا إليه، أو أنه أرادنا أن نعيشه، بحيث جاءت مفرداته أكثر إيحاءً وأقوى دلالةً وتأثيراً.

ومن هنا تأخذ هذه المقدمة أو التعريف ل”مرايا الغياب” أهميتها ومغزاها، إذ تضعنا في بؤرة المكان/ السجن، ويضعنا الشاعر في مواجهة مراياه المئة التي ستعكس لنا صورته أو صورنا في أخيلتها، وبين ظرفي المكان والزمان كما سنرى لاحقا.

دعونا ننظر في المرآة الرابعة من مرايا الشاعر:

قلبهُ جرسٌ

جسده كنيسةٌ

وعيناه مغمضتان

على امرأةٍ

ترتدي حزنها

وتقيمُ لعودته

قدّاساً من الدموع.

نتعرف من خلال 15 كلمة فقط بما فيها حرفي جر، وبمفردات بسيطة وواضحة على قصة تلك المرأة التي ترتدي حزنها، وتقيم لعودته قداساً من الدموع، ترى أي عودة تنتظرها تلك المرأة؟ ونحن نعرف أن العودة تكون بعد الغياب، فأي غياب قصده الشاعر؟ ومن هو الذي تنتظر المرأة عودته؟

نلحظ بداية ومن خلال ضمير “هو” الغائب أن هنالك شخص ما غير معرف إلا بالصفات، “قلبه جرس، جسده كنيسة، وعيناه مغمضتان، على امرأةٍ”، لينتقل مركز الحدث إلى تلك المرأة التي جاءت أيضا بدون تعريف إلا برداء الحزن، وبأنها “تقيم لعودته، قداسا من الدموع”، في هذا المستوى من المشاعر ليست المرأة مرتبطة بالحلم والرغبات، لكنها هي الأم التي تنتظر عودة ابنها الغائب، الابن الذي يُغمض عينيه ليرى في بصيرة القلب تلك الأم، لكن الشاعر تركه بصيغة ضمير المفرد الغائب، لأنه أراد أن يتحدث عن ذاته التي تنعكس في مرايا الآخرين، وهذا يمنحه التعدد والتكاثر ليصبح أقوى من ضمير المتكلم المشخص والواحد، مهما كان معرفاً، كذلك كانت الأم هنا لا تحتاج إلى التعريف، فالأم معرفة بذاتها وبعمومها، لكن الأقوى في هذه الومضة الشعرية أن فرج لم يتحدث مباشرة عن الغياب، إلا بصيغة نقيضه العودة، فتلك المرأة التي “ترتدي حزنها وتقيمُ لعودته قداسا من الدموع”، هي التي ستأخذنا إلى عوالم السجن والقهر والغياب والانتظار، حتى أن تلك الكلمات القليلة بَنتْ لنا مخيالاً لقصة كاملة، عاشها الشاعر وتألم في ثناياها، وهو يطوف بنا من خلالها دون أن يُفصح عن أي من دلالاتها.

مرايا الشاعر المئة هي ومضات من أيامه وأوجاعه التي عاشها أو كتبها في السجن، فكيف لهذه المرايا أن تهرب من صورة السجن والسجان، ومن برودة الجدران وافتقاد المرأة والحرية؟ حيث حاول التعبير عن السجن بنقيضه الحرية، كما كتب في المرآة التي حملت رقم 9:

لا حرية

خارج هذا المكان

بيد أنها حرية تبكي 

كلما سمعتْ الأقفال

تقهقه فيها

المفاتيح.

في هذه الومضة يأخذنا فرج إلى مكان يعيش فيه، ليُعرف هذا المكان بدلالة الحرية، فيقول: “لا حرية خارج هذا المكان”، غير أن هذا التعريف سيبقى ناقصا، إذ يصعب على القارئ تحديد هذا المكان الذي لا حرية خارجه، لذلك يسارع الشاعر لتوضيح الأمر عبر تعريفه للحرية المتوفرة بقوله: “بيد أنها حرية تبكي”، فكيف تبكي الحرية؟ ولماذا تبكي؟ يأتينا الجواب في الجملة الأخيرة: “كلما سمعتْ الأقفال، تقهقه فيها، المفاتيح”.

ففي مفردتي الأقفال والمفاتيح يكمن سر المكان والحرية، والذي يتوضح عبر فعل القهقهة، فمفاتيح البيت غالبا لا نسمع صوتها، لكن مفاتح الزنزانات والسجون، لمن خبر هذه الأمكنة، هي الوحيدة التي يعلو صوتها إلى درجة القهقهة، وبذلك إذا عرفنا المكان بصفته السجن أو الزنزانة، يتضح معنى الحرية التي تبكي، وتبقى المفارقة الأقوى “لا حرية، خارج هذا المكان”، فمجرد وجود هذا المكان/ السجن هو نفي للحرية في سوريا الوطن أو البلاد، وهي مفارقة صادمة أن تكون في السجن أكثر حرية مما أنت خارج أسواره، لذلك أضاف الشاعر: انها حرية تبكي!

وبمقدار ما تعيدنا هذه اللقطة إلى المقدمة الأولى وصليل الزمان والمكان المضرج بما يشبه الدم وبما يشبه الجنون أو الآلهة وبما لا يشبه شيئا على الإطلاق، فإن الومضة العاشرة تستعيد صورة هذا المكان بدلالة الزمان الرتيب الذي يمضي بين جدرانه:

جميع الشروخ والأخاديد

التي ترونها على الجدران

حفرتها عيوني

وهي تحدق فيها

منذ سنوات

لا جدوى من حسابها.

كم هي قاسية وجارحة صورة الحفر عندما يكون الفاعل “عيوني” منسوبة للشاعر الذي تمضي سنواته الطويلة في السجن، ولا خيار له غير التحديق الذي حفر مع الاستمرار شروخا وأخاديد في تلك الجدران، وحتى بلغ به إحساس باليأس أنه لا جدوى لحساب الزمن أو السنوات التي تمضي في السجن.

لكنه يُعيدنا إلى صورة هذا الزمن في المرآة 12 حين يقول:

هكذا ..

السجن زمنٌ

تُؤرَّخه في الأيام الأولى

على الجدران

وفي الشهور اللاحقة

على الذاكرة

ولكن عندما تصبح السنوات 

قطاراً طويلاً

متعباً من الصفير 

ويائساً من المحطات 

فإنكَ تحاول شيئاً آخر

يشبه النسيان.

هذه الصورة الحزينة للسنوات التي تمضي في السجن برتابة قاتلة دون أمل في نهايتها، فلا جديد في هذا السجن غير التكرار، مما دفع الشاعر لاستخدام ضمير المخاطب “السجن زمنٌ تُؤرَّخه في الأيام الأولى”ففعل تؤرخه فاعله ضمير مستتر تقديره أنت المخاطب أو القارئ، وكذلكالأمر في الجملة قبل الأخيرة “فإنكَ تحاول شيئا آخر” أي أنك أنت الذي ستحاول شيئا آخر “يشبه النسيان”، في لعبة إدخالنا في حالة السجن كقراء بتنا نرى صورة في تلك المرايا، ونشارك الشاعر أحاسيسه بالرتابة وبالحزن، فربما تصنع هذه المشاركة شيئاً من العزاء.

يعود فرج في الومضة التي حملت رقم 37 إلى مفهوم الحرية، ليكتب:

الحرية وطن  

وبلادي منفى

وأنا نقيضي

فالزمن حضور والسجن غياب والحرية وطن وسوريا منفى، هكذا يستعيد الشاعر علاقة الوطن بالمنفى والسجن في مرآة الحرية باعتبارها نقيض السجن الذي يحتجز فيه الشاعر بعيدا عن الحرية وعن الحياة، لذلك يضيف: “وأنا نقيضي”، لأنهُ الشاعر المنفي عن وطنه داخل أسوار السجن والممنوعُ من الحرية التي يتوق إليها.

ويتابع الشاعر هذه العلاقة الصوفية بين الحرية والزمن، في الومضة 39 امن خلال التباس علاقة السجن بالزمن كفعل حضور:

ثمة من يقيسون الوقت

بدقات الساعة

وثمة من يقيسونه

بدقات قلوبهم

أما أنا

فلا ساعة لدي

وقلبي ليس لي.

فالمعرفة عند الصوفي تكون في القلب، لكن الشاعر في السجن ليس لديه قلب، لأن السجن غياب، والزمن حضور، وهو حاضر في المكان فقط:

هكذا هنا

وحدنا

أنا والمكان.

لابد أن تستوقف القارئ في مرايا الشاعر تلك اللغة الصوفية التي اتكأ عليها كثيرا في بناء صوره المتخايلة، إن لم تكن لعبة المرايا هي الحضور الصوفي للرؤيا في الشعر، لذلك سأعود إلى الومضة أو المرآة رقم 6:

قلت: يا شبيهي 

كن ماءً 

أو حجراً

رملا ً مبللاً بالسراب 

أو خضرةً جارحة 

طائراً مرتبك الجناحين

أو فضاءً أيأس من أن يضيق

فقط

فقط

لا تكن لا شيء.

تعيدنا هذه الشعرية بخفر إلى لغة الصوفية، أشعار ابن عربي والحلاج وابن الفارض وسواهم، وهي شعرية تمتلك ذات القوة وذات الايحاءات التي تنمو على هوامش النّص وفي متنه لتنقلنا إلى المعرفة في غياب اليقين عبر تَلبّسْ الحالة واحتمالية المعنى، “قلت: يا شبيهي”، على سبيل المثال.

لكنها مقاربة تتصاعد في الومضة 17 حين يقول:

صَفَوْت ُ

حتى أوشكتُ على الماءِ 

وأوشكَ الماءُ على الومضِ

 والومضُ على الرؤيا

والرؤيا على الكشف

والكشفُ على الغموض

والغموضُ على الشعر

 والشعُر على الصمت

 والصمتُ على السرِّ 

والسرُّ على الفضيحة.

دعونا نلاحظ هذه اللغة الصوفية التي تتناسل من بعضها، صوفية تحرث في اللغة وبحر الألفاظ لكنها تذهب في حداثة الألسنيين الذين ربطوا اللغة بالفكر، حتى أن “رومان جاكوبسون” يعتبر أن “اللغة ليست وعاءً للفكر.. بل هي الفكر ذاته”، واللغة عند فرج ليست مفردات، بقدر ما هي علائق تشكل سياقا يمنح المعنى ويبني النص أو الفكرة، وقديما قال الجاحظ “الشعر فنٌّ تصويريُّ يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعريّة، وحسن التعبير”، ولذلك قلنا بداية أن اللغة كائن حي لدن يتلون في الشعر وينمو أو يتطور في النص.

دعونا نتابع في المرآة ذاتها كيف يمتح الشاعر من مفردات وألفاظ صوفية، ليبني عمارته الحديثة:

شكراً يا معلمي

أعرف أن الطريّقَ

صار طويلاً ورائي

غير أنني سأعود

إلى حنان ترابي القديم

ولو مشياً

على قلبي.

أعتقد أن هذه اللغة تفرض علينا النظر قليلا في بنية الصورة الشعرية التي يشتغل عليها الشاعر، وهي بالتأكيد لا تمت بصلة إلى الصورة الكلاسيكية في الأدب العربي، التي توزعت بين التشبيه والاستعارة والكناية، وهي بمجملها تقوم على المنطق الأرسطي أو الصوري، كما يوضح الناقد الراحل “يوسف سامي اليوسف” أبو الوليد في دراسته المتميزة عن الشعر الحديث.

فإذا أردنا البحث عن المعنى في العبارة الأخيرة “سأعود … ولو مشياً على قلبي” بدلالة عناصر المنطق الأرسطي الذي يفترض وجود “وجه الشبه” بين المشبه والمشبه به، سيكون بحثا عقيماً، ولن نجد وجه الشبه سواء في هذه الصورة أو في معظم الشعر الحديث، وبالتالي لن نكتشف المعنى الذي أضمره الشاعر، وهنا يَكمن فخ الحداثة الشعرية التي تبني منطقها على تجاوز المنطق الصوري عند أرسطو وتجاوز كامل حمولة البلاغة الشعرية القديمة في بناء الصورة.

فالحداثة الشعرية، وفق نظرية “يوسف سامي اليوسف” وآخرين من دارسي الشعر الحديث، تقوم على الربط بين الشعور والفكرة أولاً، والنبش في مستويات اللاوعي، وصولاً إلى الانسجام مع منطق العصر الرياضي والديالكتيكي، باعتباره تجاوزاً لمنطق أرسطو الصوري، وهذا هو العمود الثاني لمبنى الشعريّة الذي اشتغل عليه الشاعر من خلال رسم صوره  في علاقتها باللغة الصوفية تحديداً، حتى وصلت ذروتها في “مرايا الغياب”، فالجملة الأخيرة للمرآة السابقة”غير أنني سأعود، … ولو مشياً، على قلبي” لن تفهم أو يفهم فعل “مشياً” كلفظة مفردة إلا في سياقالنص وفي ترابط المفردات وتواشج المشاعر والدلالات المباشرة للكلمات مع ظلال المعاني التي يضمرها الشاعر في اختيار تلك الألفاظدون سواها،بحيث تشكل أنساقاًللخطاب، تصنع الفكرة وتنقل الأحاسيس وهي تروي الحكاية.

ربما لا نستطيع التوقف مع كل مرايا الشاعر، التي متحت من الشعرية الصوفية في نسق من الحداثة الشعرية، لكن دعونا نظر في المرآة 18:

يا دينكم!!

كيف أراني 

وأنا دائماً معي؟ 

وإذا ابتعدتُ عني

فكيف أعرفني؟

تلك العلاقة بين الأنا والآخر، وبين الأنا والمتعالي في نظرية الحلول، وانفصال الأنا عن القائل، وهو ما سعى الشاعر لتفسيره في المرأة 23:

 – لمن

   هذه الجنازة

         يا شيخ؟!

سألتُه

وأنا أتناءى.

ـ للمعنى يا ولدي

أجابني 

وظل واقفاً

كشاهدة.

إنها محنة المعنى التي تدفع الشاعر للغوص في الكلمات، حين يكتشف مع جاك دريدا ورولان بارت أن الكلمات واللغة تُطور وتَخلق الفكر والمعاني:

24

تُرى 

ما الذي تستطيعُه الكلمات 

وما الذي أستطيعُه

مِن غير الوردة؟

لكنه يعود إلى مقولة البلاغة في الإيجاز، والتي ستنتهي إلى بلاغة الصمت:

27

لا أريدُ من الصمتِ 

سوى كلامٍ

لا سبيل إليه.

قبل المتابعة سأتوقف مع ملاحظ أخيرة تتعلق باستخدام الشاعر لضمائر الغائب والمخاطب، وأحيانا المتكلم، وقد تأتي أحيانا بصيغة المفرد وأحيانا بصيغة الجمع، فهي باعتقادي محاولة تأسيس شيء من الدراما وتعدد الأصوات داخل النص، دراما تنمو ملامحها عبر صيغة الحوار وتعدد الضمائر، واستخدام لعبة الاحتمالات أو نفيها، مع أنها دراما اللقطة السريعة والموجزة، حيث يوزع الشاعر مراياه المئة على قصائد قصيرة جدا، أشبه بالومضة الشعرية، سريعة ومكثفة ومكتفية بدلالتها، لكنها تتألق أكثر في لعبة المرايا التي تتبادل الصورة وانعكاساتها فتغنيها، ويبدو أن الشاعر أجاد صقل مراياه بدقة الأرمني العارف بمادته اللغوية، حين يلعب على التكرار، أو يلجأ إلى استخدام التضاد في الكلمات وفي المعاني، وأحيانا يُوظف المترادفات، وصولاً إلى استخدام الضمائر وكأنه يحاورنا كقراء أو يشركنا في عيش هذه الدراما والإحساس بها أو رؤية أنفسنا من خلالها.

وهو لم يكتفِ بمخاطبتنا كقراء، بل دعونا نسمعه يخاطب الله في الومضة 31 التي صنعت دراما قوية وقصة كاملة بكلمات قليلة:

أجل يا إلهي أجل

هذه هي سوريا

فكيف نرفع إليك العزاء

وبأي غيوم ستبكي

بأي غيوم؟!

وكأنه يخبر الله بصيغة التأكيد المكرر “أجل يا إلهي أجل هذه هي سوريا”، لينتقل من هذا التأكيد إلى صيغة الاستفهام “فكيف نرفع إليك العزاء”، فمفردة العزاء تَبني أو تُخبرُ كامل الحكاية، فالعزاء ليس بشخص بل بوطن وبلد، دون أن يضطر الشاعر للحديث عن أيٍ من تفاصيل فظائع الاستبداد في سوريا، مع التأكيد أن زمن الكتابة قبل زمن الثورة بكثير، وقبل الآن بعقدين من الزمن.

يمكننا أن نلاحظ أنه كان يستشرف شيئا مما يجري الأن في سوريا، حين يوزعها على فريقين، ضمير المتكلم بصيغة الجمع “يقتلنا الحب” وضمير الغائب بصيغة الجمع أيضا “تقتلهم الكراهية”، حين يسأل قبل عقدين من الزمن، أو يُسائل الله “أما في أمجادك العاتية، غير القتل”، في المرآة 82:

يقتلنا الحب

وتقتلهم الكراهية

رباه!!

أما في أمجادك العاتية

غير القتل؟!

أخيرا في المرآة 94 يستعرض الشاعر رحلته بين المرايا ليخبرنا:

كان الطريق وعراً

             وطويلا ً

                   ومتعرجاً

وقد مشيتُه إلى آخرهِ

غير أنني

 لم أصِل.

فما زال السجن موجوداً، وما زال النظام قائماً، ولم يصل الشاعر إلى حريته، ولا السوريون نالوا حريتهم بعد، بل ذهبت سوريا والسوريين إلى مزيد من الخراب والتدمير والقتل والتهجير المنظم، بحث بات أي خيال يقف متلجلجا وحائرا أمام ما حدث في العشرية الأخير من الزمن السوري.

وأعتذر في النهاية أن المساحة لم تتح لي إمكانية التوقف مع كل مرآة أو ومضة من هذه المجموعة، إذ يَصعبُ كثيرا اختيار بعض منها وتخطي البعض الآخر، لكن يمكن اعتبارها دعوة لقراءة هذه المجموعة، إذ تتيح زوايا كثيرة لدراستها نقديا، مع شكر خاص للأديب المثقف محمد كامل خطيب الذي أقر طباعة “مرايا الغياب” في وزارة الثقافة السورية عام 2005، والخزي لسلطة الأمن والاستبداد التي منعت توزيع هذا الكتاب، وصادرت الحريات وأكمّت الأفواه، حتى وصلنا إلى ذروة من مأساتنا كشعب وكوطن، لكننا مع ذلك لم نزل “يقتلنا الحب، وتقتلهم الكراهية”، لذلك نكتب الشعر ونقرأ الشعر.

*****

*- فرج بيرقدار شاعر سوري من مواليد حمص عام 1951، يحمل إجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق، أمضى في السجن أكثر من 14 سنة كمعارض سياسي، صدر له تسع مجموعات شعرية، وكتاب عن تجربته في السجن، وكتاب عن رحلته إلى هولندا، حيث حصل على منحة تدريس الأدب الجاهلي في “جامعة ليدن” في هولندا، نال ست جوائز عالمية، وواحدة عربية وجائزة سورية واحدة من “اتحاد الكتاب والصحفيين الكرد في سورية” باسم “جائزة حامد بدرخان”.

*-“مرايا الغياب” كتبت في سجن صيدنا العسكري بين عامي 1997 و2000، وطبعت في وزارة الثقافة السورية عام 2005، بعد تردد، لكن الجهات الأمنية قررت التحفظ على الكتاب بعد طباعته ومنع توزيعه، فبقي في مستودعات الوزارة، حتى أعيد طبعه بالعربية مؤخرا في مكتبة “سامح” في السويد عام 2020، ولكنها تُرجمت إلى الألمانية والسويدية والفرنسية والإنكليزية والسلوفينية والإيطالية”، وتحولت هذه المجموعة إلى مشروع غنائي باللغات السويدية والألمانية والإنكليزية، بإشراف الموسيقي سفانتى هنريسون والمغنية إيفون فوكس وعازفة البيانو آنّا كريستينسون.

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here