فرج بيرقدار: سلامُ حسان عباس وصلني إلى السجن..فبشَّرَني بحريتي

0

في العام 1992 أيقظ نظام الأسد محكمة أمن الدولة العليا، من سُباتها الذي دام سنوات، وعلى ذلك استيقظ وضع مجموعتنا، وقررت السلطات نقلنا من تلك المملكة المرعبة والمجنونة، أعني مملكة سجن تدمر الرابضة على تخوم الصحراء، والتي كانت في ما مضى واحات وارفة ترعاها وتحرسها جدتنا الملكة زنوبيا.
في الواقع كان بعضنا يعتقد أن وجودنا في سجن تدمر هو مشروع تصفية متمهِّلة وبالتالي طويلة الأمد، لكن فجأة أخرجونا من المهجع ونقلونا إلى إحدى الساحات، حيث أعادوا تسجيل تفاصيل قيودنا من اسم وكنية وتاريخ ومكان ميلاد بالإضافة إلى اسم الأب والأم إلخ. أتذكّر أن أحد رفاقنا نسي اسم أمه، وأن المساعد الذي يشرف على تسجيل قيودنا قرَّعه بشدة: هل يُعقَل أن ينسى أحد اسم أمه؟
كأن المساعد لا يعرف ما يكتنف هذا السجن من جمر ورماد يمكن أن ينسى معهما السجين أمّه وحليبها وأهله وماضيه وحتى مستقبله.بعدها ساقونا إلى سيارة عسكرية ذات صندوق مغلق راحت تطارد الطريق لساعات إلى أن وصلنا إلى سجن صيدنايا القريب من دمشق. 

بعد أيام على وصولنا إلى صيدنايا، بدأوا بأخذنا إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق على دفعات، تضم كل واحدة منها حوالى دزينة. طريقة سوقنا إلى المحكمة وأيدينا المغلولة إلى جنزير طويل، كان يستحضر في ذهني ما قرأتُه من سِيَرة عبيد روما ومجتلداتها.كان مضى على مجموعتنا سنوات ونحن في انقطاع تام عن العالم الخارجي، فلا زيارات ولا أخبار ولا آفاق يستريح البصر عليها.

بعد جلسات عديدة، سمحت المحكمة بلقاءات مباشرة بيننا وبين المحامين الذين غامروا وتطوعوا للدفاع عنا.اقترب المحامي منير العبدالله من قفص المحكمة الذي نحن فيه وسأل: من بينكم فرج بيرقدار؟أخيراً هناك من يسأل عني من خارج أجهزة المخابرات وإدارة السجن. اقترب مني ليقول: سأخبرك بأمرين. الأول أن مرافعتك انتشرت في الخارج على نطاق واسع، والثاني أمانة من الدكتور حسان عباس بأن أنقل لك سلامَه. سألته إن كان الدكتور حسان عباس يعرفني شخصياً، لكنه قال: لاحقاً نتحدث، فرئيس المحكمة يطلب إخلاء القاعة الآن.لي أصدقاء كثر كنيتهم “عباس”، غير أني لا أعرف أحداً منهم باسم حسان، لكن رغم عدم معرفتي به، بل ربما بسبب عدم معرفتي، فقد كان سلامُه نوعاً من التواصل مع العالم الخارجي وأشبه ببشارة حرية. نعم هي بشارة خروجي من ذلك الموت المعنوي. أن تكون مقطوعاً لسنوات عن العالم الخارجي هو موت معنوي. أن تكون منسياً هو موت معنوي. أما أن يصلك سلام من شخص يهتم بأمرك وأنت لا تعرفه، فذلك والله ينشر في النفس عرساً من الأجنحة، ويعوِّض عن أولئك الكُتّاب والمثقفين الذين باتوا يخشون من أي ذكر لعلاقتهم بي.لاحقاً عرفت الكثير عن حسان عباس، ورسمت أحلاماً وأمنيات في أن ألتقيه إذا بقيت حياً وخرجت من السجن. لم يطل الانتظار كثيراً، فبعد ثماني سنوات من وصول سلامهِ إليَّ أُطلِق سراحي، وتواصل معي حسان ليدعوني إلى أمسية شعرية في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، حيث كان أستاذاً فيه بعدما رفضت جامعة دمشق تعيينه فيها.

رجوته أن يغض النظر عن الأمسية فأنا لا أريد أن أورثه وجع رأس مع أجهزة المخابرات، وحين أبدى إصراره حدَّثته عن قناعتي في أن السلطات المعنية لن تعطي الموافقة على أمسية شعرية تتضمن اسمي، وبالتالي فإنه يغامر في أمر يعرِّضه للمتاعب ولا سبيل إلى تحقيقه. قال لي: لا عليك، فنشاطاتنا في المعهد لا تقتضي موافقة السلطات.- حتى لو.. هو أمر سيُسجَّل عليك.لم يكترث حسان لما قلت، لكنه أبلغني أن القاعة صغيرة، وأنه لن يبلغ بالأمسية سوى طلبة المعهد وبعض الأصدقاء المقرَّبين.مع ذلك ورغم كل الاحتياطات فإن القاعة لم تستوعب أعداد من حضروا.قال لي: لا عليك.. لدينا كراسيّ إضافية، ويمكن لأصدقاء المعهد أن يقفوا في الغرف القريبة من القاعة.

هكذا سقط السجن، وانتصبت الحرية في القاعة والغرف المجاورة.قدمني حسان على نحو اقتضى مني الكثير من الضبط لكي لا تغدر بي دموعي.كان يتحدث للجمهور عن عودتي من البعيد البعيد. كان كمن يقول ها أنذا أعلن عن إطلاق سراح روحك وشِعرك وأحاسيسك وليس جسدك فقط.كان سلامه وأنا في السجن بشارة حرية لي، وها هو الآن يتوجّني أمام الملأ بمعنى الحرية العميق والمتسامي. كان يهمه أن يعرّفني إلى أكبر عدد ممكن من العاملين في المعهد. هل كان حسان يدرك أن من يمضون سنوات طويلة في السجن يصبحون أكثر حاجة للتواصل مع الآخرين، لعلهم يستعيدون أنفسهم أو يعيدون تأهيل ما أحرقته سنوات السجن في قيعانهم الداخلية العميقة؟

حسان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلَّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت.كان حسان وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها.ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، لكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساساً، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية.حين أتابع ما قام ويقوم به حسان، أشعر أنه ليس فرداً بل ورشة عمل في منتهى التفاعل والنشاط والأمل.هو باختصار، كما عرفتُه وكما عرّف نفسه في المقابلة التي أجراها معه مركز حرمون للدراسات المعاصرة، (رجلٌ من دون أن يصبح ذكوريًا، وعربي من دون أن يصبح عنصريًا، وعلوي من دون أن يصبح طائفيًا).. وأضيف أنه جدير بالعلوّ بقدر تواضعه ونفوره من التعالي.

الدكتور حسان عباس.. هي مناسبة أتوسّل بها الآن لأعلن لك، وأمام الجميع، الكثير الكثير من الشكر والامتنان والمحبة على ما قمت وتقوم به من أجل الإنسان عموماً، ومن أجل شعبنا خصوصاً.أشعر بالسعادة والإنصاف والفخر حين أتذكّر أن فرنسا منحتك وسام “السعفة الأكاديمية برتبة فارس” العام 2001، فأنت جدير بذلك وأكثر، وأشعر بالحزن والألم والمرارة حين أتذكّر أن حاضرنا السوري لم ينصفك واقعياً، وإن كان أنصفك وجدانياً لدى من يتقنون قراءة الأصول والأعماق ومكامن المجد والتضحيات، حيث لم تدّخر جهداً ولا حباً ولا عطاءً، ولكني على أمل أنَّ المستقبل، وإن تأخَّر، سينصف ويكرِّم مؤسسيه من أمثالك.

(*) هذه المقالة هي مشاركة الشاعر السوري فرج بيرقدار في كتاب “حسان عباس بعيون معاصرة” الذي حرره وأشرف عليه الكاتب فايز سارة، وشارك فيه عدد من معاصري حسان عباس والراغبين في إنصافه وتكريمه.

(المدن)