فرج بيرقدار: درس تطبيقي ممتاز

0

لقد سطا بوتين على المثل الشهير الذي يقول “الكذب ملح الرجال”، وقد أعاد إنتاجه بجدارة متميزة، إذ قال في البداية أن جيشه سيقوم بعملية عسكرية “خاصة” في أوكرانيا، ثم صارت العملية “الخاصة” حرباً شاملة تستهدف إسقاط كييف و “النازيين” الذين يحكمونها، لترسو الكذبة أخيراً على أن الغرب كان يستعد لغزو أراضي روسيا، ولذلك كان لا بد من تدخله عسكرياً في أوكرانيا.

في المحصلة تفوَّق بوتين على نفسه بما يكفي للوصول إلى عكس ما يبتغيه من خطط وأهداف. وفي سياق أهدافه الكبرى أطلق جملة أهداف صغرى من مثل تخويف فنلندا والسويد من الانضمام إلى حلف الناتو. ولكن جرعات التخويف لم تكن مدروسة جيداً، فأعطت مردوداً معاكساً جعل فنلندا والسويد تفكران بتفادي الخوف عبر التقدّم أو القفز إلى الأمام بدلاً من التراجع أو القفز إلى الوراء.

وبغض النظر عن مدى دقة أو عدم دقة ما أسلفتُ، فإني سأتوقف عند جزئية محددة مما سبق، أعني الجزئية المتعلقة بكيفية تعاطي السويد مع تهديدات بوتين، وانعكاس كل ذلك على الموقف من مسألة الانضمام إلى حلف الناتو.

من المعروف أن السويد دولة محايدة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن العدوان الروسي على أوكرانيا، وتهديدات بوتين غرباً وشرقاً، وتحرّشاته وخروقاته للأجواء السويدية، أثارت مسألة انضمام السويد إلى حلف الناتو وفق إيقاع زمني متسارع لا يترك مساحات مفتوحة أو واسعة للمناورة والانتظار، ولذلك كان لا بد من حوارات مستعجلة بين الأحزاب، وتحضيرات وترتيبات إعلامية متواترة ومتصاعدة على ألسنة رؤساء حكومات وأحزاب سياسية في الحكومة والمعارضة، ومراكز أبحاث واستطلاعات رأي وخبراء سياسات وأمن وتوازنات.

بدأت موجة التصريحات الأولى لزعماء الأحزاب السويدية بالحديث عن أهمية دراسة السياسة الأمنية المستقرة منذ الحرب العالمية الثانية، ثم بدأت الموجة الثانية بالحديث عن أهمية إعادة دراسة السياسة الأمنية، ثم عن ضرورة وليس فقط أهمية ذلك، تلتها موجة تصريحات عن إيجابيات وسلبيات الانضمام للناتو، ثم موجة رابعة عن تغيير بعض الأحزاب لمواقفها من الحياد السابق، ثم إعلانات الحزب الذي يرأس الحكومة بأن الحزب يتدارس السياسة الأمنية، لتنقلب الموجة إلى أن فنلندا تنوي الانضمام قريباً، الأمر الذي سيبقي السويد مستفرَدة أو يضعها في موقف صعب يدفعها إلى التفكير في مخاطر أن تبقى الوحيدة بين دول الشمال خارج الناتو، وبالتالي جرت تداولات أولية في بعض مفاصل الحزب، ثم آلت التشعّبات وجس النبض والاختبارات إلى الاتفاق على تحديد موعد لاجتماع استثنائي للحزب الاشتراكي الديموقراطي في 24 أيار/مايو، وذلك من أجل الخروج بموقف موحَّد بشأن قبول أو رفض الانضمام للناتو، تبِعَ ذلك تبكير لموعد الاجتماع ليصبح في 15 أيار/مايو، وقد ترافق ذلك مع تصريحات لسكرتير الحزب ورئيسة الحكومة وبعض الوزراء عن أن الحزب بات قريباً من اتخاذ قرار بشأن الناتو، ثم عدم تأكيد تلك التصريحات لفترة والعودة إليها بصورة أقوى وأكثر وضوحاً ضمن عملية جبذ ونبذ، وإشارات إلى أن المزاج العام يميل أكثر فأكثر إلى ضرورة الناتو لضمان مستقبل الأمن في السويد، وأن الإيجابيات أكثر من السلبيات، وأن نسبة المستطلعة آراؤهم تجاوزت الخمسين في المئة، وذلك ما لم يحدث من قبل، وهكذا دواليك “طاسة ساخنة وطاسة باردة” ثم تسخين الباردة قليلاً وتبريد الساخنة قليلاً إلى أن أصبح كل شيء معتدلاً أو عادياً ومقبولاً.

الآن في 10 أيار/مايو، أي قبل أيام من موعد اجتماع الحزب الذي يرأس الحكومة، أصبح الوضع واضحاً ومهيأً ومحسوماً إلى درجة أن بعض المواطنين صاروا يعرفون أن نتيجة القرار باتت محسومة ولم يعد من مبرر لإطالة زمن التمهيد له، بل إن البعض ضاق ذرعاً من قصة هذا “الموت المعلن” حسب عنوان رواية ماركيز.

خلال أقل من ثلاثة شهور نجح تغيير المزاج السياسي والاجتماعي في السويد حيال سياسة أمنية مستقرة منذ 77. وقد كان هذا التغيير تطبيقاً ناجحاً لمناهج كلّيات الصحافة والإعلام والسياسة والدراسات المتعلقة بخلق أو تغيير الرأي العام، وهو في الوقت نفسه درس تطبيقي مكثّف لطلاب تلك الكلّيّات. بالطبع يمكن تطبيق تلك المناهج بصورة إيجابية كما بصورة سلبية، وذلك تبعاً لطبيعة وأهداف أصحاب التأثير والمصلحة.

بالطبع يمكن لأيّ كان، حكومة أو مؤسسة أو حزباً أو جامعة، أن يستفيد من مثل هذا الدرس، فهل سيستفيد منه الدب الروسي أم سيواصل التفوّق على نفسه؟!

*خاص بالموقع