الحلم
توفّي والداه، تنكّر أقاربه له، هرب من الملجأ المزدحم باليتامى، احتضنت الشوارع خطاه، رافقته القطط
الشاردة، ينام معها، ويشاركها ما تجود به أكياس القمامة.. ثم راح يعمل نهاراً، ينظف المحال بأجرٍزهيد،
يمسح زجاج السيارات، يبيع مناديلاً، أعواد ثقابٍ، أو زهوراً. وفي الليل، يتسلل إلى الحديقة، يوافيه رفاقه،
يتمسّحون به، يداعبهم ضاحكاً، تهزّ القطط ذيولها، تموء بتدللٍ، يضع سبابته على فمه طالباً منها الهدوء، كي
لا يكتشفهم الحارس الغليظ فيطردهم، يقاسمهم القليل الذي جناه..ثمّ ينام متوسّداً حذاءه البالي.. ووحده الحلم
يدثره بالدفء!
العمل
يحمل صندوقه، ويجوب الشوارع، الحلم يرافقه، يراه قريباً، كلما وضع زبونٌ قدمه لتلميع حذائه. صفعتان
تنتشلانه من الحلم، يحتقن وجهه بالدماء، الرجل يرغي ويزبد، والطفل دامعٌ يبصق الشتائم.. ترتفع
الأصوات، يتجمّهر الناس، ينظرون .
يهبط ثلاثة مسلحين ملثمين، من سيارة مصفحة، ترفع رايةً سوداء، ثيابهم سوداء.. يرفع أحدهم الطفل،
مُمّزقاً أسماله، وهو يصرخ: ” ولدٌ وقح، يشتم الله.. كافر.”
هيبة الرجال الثلاثة تستبد بالجمهور المتفرج؛ ينقطع همسهم، ويلوون أعناقهم منسحبين. يجرّ الرجال الطفل
إلى السيارة، يحشرونه في المقعد الخلفي، ويغادرون..!
مناجاة
من كوةٍ صغيرةٍ في الزنزانة، ينظر الطفل إلى السماء، يرى وجه أمه يبتسم..
أماه.. مضت خمس سنواتٍ على رحيلك وأبي، صرت في ربيعي الثاني عشر، رجلاً مسؤولاً عن أقوالي
وأفعالي، هكذا قال الرجل الملتحي في محاكمتي.. تشاجرت مع زبون كنت ألمّع حذاءه، فاتّسخ جوربه،
اعتذرت منه، وقلت له أنّي سأنظفه.. لكن الرجل الغاضب رفض، كما رفض منحي النقود، تشبّثت بحقي،
كنت أحتاجها من أجل حلمي.. ضربني، شتمك وأبي، حينها لم أعد أحتمل، بصقت عليه، وكرصاص البندقية
انطلقت كلماتي سريعة، متلاحقة، تردي المحظورات تباعاً.. قال الرجلُ أنّي شتمت الذّات الإلهية.. أوه، لا
تسأليني، لا أعرف ما قصدهم، لكنّي أحب الله.. لكن اسمعي.. غدًا يتحقق حلمي.. هل تصدّقين ذلك.. ؟ ما
أعظم حظي!
الموت
ثيابه برتقالية اللون جديدة، يسير هادئاً، لم يبك ، لم يتوسل، لم يرتجف. لوّح الجلاد بالسيف، إذ ذاك شعّت
عينا الطفل بشموسٍ ضاحكةٍ. جلجل رعدٌ، وكبرق يخطف الأبصار، هبطت وسط ساحة الإعدام، صاحت
بالمتجمهرين: ” مَن كان منكم بلا خطيئةٍ فليقطع رأسه!”
اندفع الطفل نحوها، ارتمى في حضنها: “أماه، انظري تحقق الحلم، ثيابٌ جديدة”
دفن رأسه في صدرها، حملته وصعدت نحو السماء.. ووحدها، ظلت ابتسامة العينين في الرأس المقطوعة،
تُدين المتجمهرين!
*خاص بالموقع