رواية «حب عتيق» للروائي علي لفتة سعيد، الصادرة عام 2021 والحائزة على المرتبة الثانية لجائزة (توفيق بكار، للرواية العربية في تونس عام 2020)، هي رواية استثنائية من جميع الأوجه. فهي عن مكان ريفي وفلاحي، وتحديداً مدينة سوق الشيوخ «في الناصرية». وربما تؤشر عتبة الإهداء إلى هذه الحقيقة: «إليها يتجه الكلام: سوق الشيوخ»، لكنها أيضاً كناية مصغرة عن العراق، لذا فهي لا تنهض على شخصية مركزية محدودة، بل تنطوي على تعدد صوتي. والسرد فيها غالباً ما يغور في التاريخ، لكنه تاريخ غير رسمي، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح العتبة النصية الرئيسية للرواية، والتي أعلن فيها الروائي عن رؤيته لكيفية التعامل مع التاريخ في هذه الرواية، إذْ يقول:
«لست هنا معنياً بالتاريخ، بوصفه أرشفة وأرخنة، أو معنياً بالحقيقة المطلقة، بل بالحقيقة المتخيلة التي تصنع عالماً آخر، يحمل قصديته معه، من مدينة وجدت نفسها في وسط صناعة التاريخ الذي أهملها» (ص 9).
هذا المنظور يجعل الرواية تنضوي تحت مظلة رواية ما بعد الحداثة في التعامل مع التاريخ بوصفه تخييلاً وبنية سردية افتراضية، وربما وفق ما قاله الناقد الأميركي هيدن وايت الذي ينظر إلى التاريخ بوصفه سرداً.
ومن جهة أخرى يمكن أن تعد هذه الرواية متحفاً للمأثورات والحكايات والشخصيات والمظاهر الأنثروبولوجية الاجتماعية التي كانت تشكل النسيج الاجتماعي الجواني لقاع المدينة. ولهذا يمكن النظر إليها بوصفها نموذجاً موفقاً لما يُصطلح عليه في النقد الثقافي بالسرد الثقافي، لأننا يمكن أن نتعرف من خلالها على صور الحياة المتنوعة، ونمط العلاقات والقيم السائدة والتشكيلات الإثنية والمعرفية، والإرهاصات الأولى للحركات الثورية. والمتن الروائي يركز على فترة الخمسينات من القرن الماضي وصولاً إلى عام 1958، لكنه غالباً ما يعود بالذاكرة من خلال مرويات وشهادات واستذكارات أبطالها إلى مراحل تاريخية أقدم تعود إلى فترة الحكم العثماني (العصملي) وتحديداً قبيل الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، كما تتوقف عند ثورة العشرين وانتفاضة سوق الشيوخ عام 1935.
وهكذا فمدينة «سوق الشيوخ» التي هي كناية عن الناصرية، وربما كناية عن العراق بكامله، هي بنية مكانية مولِّدة للأحداث في الرواية. وهناك تنوع كبير في أنماط الشخصيات والنماذج البشرية، ففيها تتمثل جميع المكونات الاجتماعية والعشائرية والمذهبية والدينية التي يحفل بها المجتمع العراقي. إذ يحتل المسلمون، السنة والشيعة، الأغلبية، يتلوهم الصابئة المندائيون، كما تضم المدينة عدداً من المسيحيين يمثلهم «جورج» بائع المشروبات. فضلاً عن ذلك تضم المدينة عدداً من اليهود الذين يمتلكون كنيسهم الخاص ويمثلهم في الرواية «جاجو» البقال المشهور في المدينة.
وتلتقط الروايات نماذج نوعية ممثلة لثقافة المدينة من خلال التركيز على الثلاثي (عبيّس، ونعيّم، وستار) والثلاثي (نعمان، ومحمود، وسعد). الأول يميل إلى البساطة والتلقائية ويضم شخصيات شعبية قريبة من القاع الاجتماعي، في مقدمتها شخصية «عبيس» الذي يعدّ ذاكرة المدينة، و«ستار» الذي يمتلك صوتاً غنائياً عذباً. وكذلك شخصية «نعيّم»، الذي تشكل حكايته حبكة سردية أساسية لأنها تستمر لفترة زمنية طويلة. فهو ابن «الشيخ كاصد» الذي تهابه العشائر، لكن «نعيم» وهو شيخ شاب نزق في الثلاثينات من عمره وقع في حب «بدرية» التي اشترطت لقبوله زوجاً لها شرطاً قاسياً وغريباً، وهو أن يجمع مهرها الثقيل من التسول. وقد قبل «نعيّم» بهذا الشرط وبحضور «الملا يوسف» الذي كان ضامناً له. وهكذا تحول نعيّم إلى متسول يجوب الأزقة والمقاهي ويتلقى سخرية الأطفال والكبار معاً، لكنه ينجح في النهاية في جمع المهر، ويطالب بحقه في تنفيذ الوعد، لكن «بدرية»، وهي امرأة ذكية وتوصف بأن لها عقلاً يزن بلداً، تقدم شرطاً أخيراً للقبول بـ«نعيّم» يتمثل في عزوفه نهائياً عن «سُبّة» التسول التي تجذرت في سلوكه، لكن «نعيّم» يُخفق هذه المرة في الامتحان وينفلت من الجمع وهو يطلق توسله «من مال الله. عندي عرس وأريد فلوس» (ص 131).
وهكذا ينتهي حلم «نعيّم» الرومانسي بالزواج من فتاة أحلامه «بدرية». وهذا الثلاثي اعتاد أفراده الغناء والرقص على ضفة نهر الفرات ليلاً، وتعلو أصواتهم بالغناء الممزوج بالتأوهات والبكاء، لتسمعه المدينة في صوبيها، وبشكل خاص «بدرية» التي يثير لديها الإحساس بالأسى والندم، لأنها كانت السبب في وصول «نعيّم» إلى هذه الحالة المزرية الميؤوس منها. وأنا أرى أن هذا الثلاثي يمثل أحياناً نموذج الشخصية «الزوربية»، التي تعرّفنا إليها في رواية «زوربا» للروائي اليوناني كازانتزاكي. كما أن هذا الثلاثي قريب مما تسمى في الميثيولوجيا الإغريقية النزعة «الديونيزوسية» المشتقة من اسم الإله «ديونيزوس» أو الإله «باخوس»، إله الربيع والخصب والموسيقى، وهو يدعو إلى ممارسة كل ما هو حسّي ودنيوي وجسدي، بعيداً عن صحوة العقل وحسابات المنطق. أما الثلاثي الروائي الآخر الذي يضم «أمين، ومحمود، وسعد» فيمثل النقيض المقابل للنزعة «الديونزوسية». ذلك أنه يتميز بالميل إلى العقلانية والتفكير المنطقي المتوازن، والحس السياسي مما يجعله شبيهاً بالنزعة «الأبولونية» في المثيولوجية الإغريقية، نسبةً إلى الإله الإغريقي «أبولو»، إله النور والعقل والذي يدعو إلى التفكير العقلي المنطقي المنضبط.
وتضم الثلاثية الأبولونية في الرواية شخصيات مهمة، لها تأثيرها في حياة المدينة ونهوضها، هي: شخصية «نعمان» مدرس اللغة العربية في المدينة، وخريج دار المعلمين العالية ببغداد وهو مثقف يساري وشاعر، وعاشق لفتاة مسيحية اسمها «تانيا»، كما أنه واحد من مثقفي المدينة الذين تأثروا منذ كان طالباً في الجامعة، بالفكر الثوري، الذي راح يروّج له بين الشباب، ويعمل من أجل تحقيق تغيير اجتماعي ثوري يُخرج المجتمع من سكونيته وتخلفه، وهو ما تحقق فعلاً في نهاية الرواية عندما حصل مثل هذا التغيير الثوري عام 1958، فضلاً عن ذلك فقد كان «نعمان» يفكر بكتابة رواية عن المدينة، مما يشير إلى الجوهر الميتاسردي في الرواية. أما الشخصية الثانية فهي شخصية «محمود» وهو صابئي مندائي، يحمل أيضاً مثل «نعمان» أفكاراً يسارية ثورية. لكن مشكلته تكمن في أنه يعشق فتاة مسلمة اسمها «رزيقة» حيث يَحول التباين الديني بينهما دون تحقيق مثل هذا الحلم المستحيل. أما الشخصية الثالثة فهي شخصية «سعد» الذي يمتلك هو الآخر، فضلاً عن ميوله اليسارية، قصة مؤلمة عن حياته وأسرته، راح ضحيتها عدد من أفراد أسرته، أخذ يسردها على صديقيه «نعمان» و«محمود» اللذين قاما وفي أوقات متباينة، برواية قصص حبهما ومعاناتهما في الحياة. ولعبت الذاكرة دوراً مهماً في هذا السرد الاستذكاري الذي قدمته هذه الشخصيات الثلاث.
ومن الناحية الفنية يغلب السرد «المبأر» على الرواية، ففي الاستهلال، نجد «بدرية» وهي تتفاعل مع غناء «عبيس» و«ستار» و«نعيم» من خلال مونولوج داخلي عبر توظيف «أنا الراوي الغائب» بتعبير تودوروف:
«منذ أن سمعت صوته، وهو يغنّي على جرف النهر، لم يستكن قلبها، ولم يدر بخلدها أن هذا الغناء العذب سيعيدها إلى ذاكرة مكلومة» (ص 11).
كما أن الكثير من المرويات عن تاريخ المدينة تقدَّم بطريقة فنية مبأرة، إما عن طريق المنولوجات الداخلية للشخصيات الروائية، وإما من خلال حوارات درامية بينها نجد ذلك في حوار «رسول» مع زوجته «بدرية» عن تاريخ مدينة سوق الشيوخ:
«هذه المدينة قديمة، قبل أن يحتلها العصملية والإنجليز، وهي جزء من سومر» (ص 27)، لكن الرواية انطوت من الجانب الآخر، من الناحية السردية على مقاطع كثيرة تنتمي إلى السرد كليّ العلم، كما نجد ذلك في المثال التالي:
«لا أحد في المدينة لا يعرف عبيّس، كان الأشهر حتى من شيوخ العشائر، ومعارفه من الرجال الفقراء والنساء والأطفال، بل حتى الطبقة العليا من المجتمع» (ص 19).
وكان بإمكان الروائي أن يبث مثل هذا السرد كليّ العلم من خلال وعي أو رؤية شخصية روائية مشاركة لتتحقق عملية التبئير الفني في السرد، والتخلص من المباشرة التي يمليها السرد العليم، وهو أمر لم يخلُ بصورة واضحة من الطبيعة الفنية للسرد المبأر الذي يهيمن على الرواية.
لقد نجحت الرواية في أن تقدم معالم مثيرة لمدينة سوق الشيوخ، بخاصة عالمها الريفي الزراعي، وتقاليدها العشائرية الصارمة، وهو موضوع قلما اقتربت منه الرواية العراقية التي ظلت شخصياتها مدينية مأخوذة من المدينة الحديثة، وهو ما يمنح هذه الرواية خصوصية وتفرداً. ولأن الرواية تمتلك كل الثراء التاريخي والميثولوجي والروحي، نراها وقد تحولت لدى أبنائها إلى حب من نوع خاص، هو ما عبّر عنه عنوان الرواية «حب عتيق» ففي الحوار المحتدم بين «نعمان» و«محمود» و«سعد» حول تعلقهم، حد العشق، بمدينتهم، وتضحيتهم بمصالحهم وعواطفهم الشخصية، مثلما فعل «نعمان» عندما رفض أن يهجر مدينته من أجل حبيبته «تانيا» التي رفضت الذهاب معه إلى سوق الشيوخ، واقترحت عليه الهجرة خارج العراق. ونكتشف خلال ذلك انهماك «نعمان» بجمع المرويات والوقائع عن تاريخ المدينة وأناسها لغرض كتابة رواية عنها. ويرى «محمود»، وهو يؤيد صديقه «سعد»، أن يقوم «نعمان» بكتابة قصة حب «نعيم» لـ«بدرية» وقصة حبهم جميعاً لمدينتهم لتكون قصة هذا «الحب العتيق» أو «المعتق»:
«لكن محموداً، وهو يؤيد ما قاله سعد، طالب نعمان بإكمال قصة نعيم، وأن تكون القصتان المميزتان حكاية المدينة، قصة الحب العتيق الذي يبدأ بذاته، وينتهي بطرق مختلفة» (ص 166).
ومن هنا نكتشف دلالة العنوان في الرواية، ذلك أنه يدمج بين الخاص والعام في قصة حب «نعيم» الأسطورية، وقصة حبهم جميعاً لمدينتهم سوق الشيوخ التي أورثتهم هذا الحب العتيق الأزليّ.
*الشرق الأوسط