فادي سعد: ماذا لو لم يرحلوا باكراً؟

0

لا يستطيع المرء إلّا أن يتساءل، بعد قراءة أعمال تشيخوف، خصوصاً قصصه المتأخرة الأكثر نضجاً، أو بعد الانتهاء من قراءة روايات كافكا المذهلة: ماذا كان تشيخوف أو كافكا أو غيرهما من الكتّاب المؤثرين الذين ماتوا باكراً في أربعيناتهم، ليكتبوا، لو عاشوا وامتدت حياتهم إلى الخمسينات والستينات وأبعد؟ شيء محزن أن يدفن الموت المواهب قبل أن تقدم كل ما لديها. لا يعود الموت هنا خسارة خاصة بالكاتب وأهله. يشعر المرء أن الخسارة عامة وشخصية، خسارة للفنّ. خسارة للإنسانية كاملة.

ما الروايات التي كان كافكا سيهدينا إياها لو لم يمُت في عامه الأربعين؟ الوصول إلى ما بعد الأربعين يبدو شاقاً ومجهداً بالنسبة إلى الكثير من الأدباء. ادغار آلن بو مات على عتبته. جين أوستن ماتت في عامها الحادي والأربعين. أمل دنقل في عامه الثالث والأربعين. شيلي في عامه التاسع والعشرين. إميلي برونتي، رامبو، أبو القاسم الشابي، أبولينير، سيلفيا بلاث، بدر شاكر السياب، ستيفن كرين، جون كيتس، رياض الصالح حسين، بوشكين، فان غوخ، ماتوا قبل أن يبلغوا الأربعين.

لا يحزن المرء فقط على الإبداع حين يرحل مبكراً، بل أحياناً على السبب التافه الذي يقف خلفه، والذي كان يمكن تفاديه أو معالجته. من المؤلم أن تقضي جرثومة السلّ على تشيخوف وكافكا وكيتس، بينما يمكننا الآن أن نعالج المـُصاب بهذا المرض بسهولة ببعض الأدوية. كأن الزمن لئيم في توقيته وسابق لأوانه بالنسبة إلى البعض.


من الناحية النقدية الجافة، الموت المبكر للمبدع يستدعي بعض التساؤلات ويُغري ببعض الفرضيات، وسنتعرض لثلاثة منها. هل هناك أية علاقة بين الإبداع بشروطه القاسية والموت المبكّر؟ خصوصاً ذاك الإبداع الذي يبدو كأنه يتفجّر باكراً عند بعض الكتّاب. أليس ممكناً أن أحكامنا النقدية التاريخية على بعض الأسماء الأدبية تتأثر بسردية موتها المبكر، مُعظِّمةً إياها، بغض النظر عن قيمة أعمالها الفعلية؟ أخيراً، هل نحن متأكدون بأن بعض الكتّاب الكبار من الراحلين “قبل أوانهم”، كانوا سيستمرون في تقديم الروائع الأدبية، بالمستوى نفسه، لو أعطاهم القدر فرصة العيش لسنوات وعقود أطول؟ سنفصّل قليلاً. 

الانغماس
لم يعد ارتباط الإبداع بالاضطرابات النفسية، وربّما لاحقاً بموتٍ قبل أوانه، يثير الكثير من الجدل الآن. الدراسات العلمية التي تطرقّتْ إلى الموضوع والدراسات الإنسانية النفسية والجينية الحديثة حسمتْ تقريباً هذه النقطة. كبشر، نحن نتاج تركيبتنا البيولوجية الوراثية، أكثر بكثير مما تُشكلّنا تأثيرات البيئة والمحيط. لذلك، الكلام يكون أكثر علمية، عندما نقول أن تركيبة إنسانية خاصة (لنفترض أنها منطوية مكتئبة) هي التي تنجذب نحو التعبير عن نفسها بطريقة فنية. والعكس ليس صحيحاً. لا دلائل على أن الإبداع في حدّ ذاته له تأثيرات سلبية في صاحبه. وفي حجّة مضادة، يرى عالم النفس الأميركي-الكرواتي تشيكسينتميهالي، أن الانغماس الإبداعي، وما ينتج عنه من خلق، يُنتج حالة نفسية يمكن أن تساعد المبدع على مجابهة قلقه وعصاباته. أي أن الإبداع قد يساعد في إطالة الأعمار.

موت المبدعين المبكر لا علاقة له بمخاضاتهم الإبداعية. هي صُدف الحياة، أو تركيبة خاصة منذ الولادة، تميل إلى السوداوية والانطفاء المبكر. هكذا يمكن تفسير انتحار شاعر مثل توماس شاترتون مثلاً.


موت شاترتون بسمّ الزرنيخ، وما تبع ذلك من أسطرة الشاعر وتتويجه كرمز لشعراء الحقبة الرومانسية، يوضّح المعضلة الثانية في التعامل مع موت المبدعين المبكّر. هل تستحق أعمال شاترتون الشعرية ذلك التتويج؟ أطلق وردزورث على شاترتون لقب “الشاب العجائبي”. هل يستحق شاترتون هذا اللقب؟ ليس الأمر تحاملاً على شاترتون بالذات، يمكن أن نقول الشيء نفسه عن سيلفيا بلاث التي قتلت نفسها في سنّ الثلاثين. شخصياً، لستُ معجباً بكتابات بلاث. لكن، بغض النظر عن رأيي الشخصي، لا يمكن تجاهل أن ثمة أسطرة حدثت لها بسبب طريقة موتها. عندما يحدث ذاك التداخل بين الأسطورة وما أنتجته تلك الأسطورة فنيّاً، لا يعود من السهل الفصل بين الاثنين. اعتبرَ الكثير من النقّاد المعاصرين لكيتس أن أشعاره سوقية لا قيمة لها. لكن ذلك كله تغير بعد موته المبكر في الخامسة والعشرين ليُرفع كأيقونة من أيقونات الحركة الشعرية الرومانسية.

قصة كافكا مع صديقة ماكس برود تحوي أيضاً ذلك البُعد الغامض الخرافي. لا أحد يمكنه أن يعرف بالضبط ماذا طلب كافكا من صديقه قبل موته. هل اشترط فعلاً حرق جميع أعماله غير المنشورة، وهل ردّ برود أنه يرفض هذا بشكل قطعي؟ مات كافكا مبكراً قبل أن نعرف الحقيقة كاملة. حتى موت تشيخوف غير الدراماتيكي، تحوّل إلى قصة شبه خيالية. تمضي القصة كالتالي: استيقظ تشيخوف وطالب بإحضار طبيب. عندما وصل الطبيب، جلس تشيخوف وأعلن أنه يموت. طلب الطبيب زجاجة شمبانيا. أخذ تشيخوف كأس شمبانيا، تفحّصها، ابتسم، تجرّع الكأس، ثم اضطجع على طرفه الأيسر لافظاً أنفاسه الأخيرة. لا يهمّ كثيراً مقدار الخيال في هذه القصة، وليس القصد هنا التقليل من قيمة أعمال كافكا أو تشيخوف التي لا يمكن لأي ناقد أو كاتب الانتقاص من قيمتها التاريخية والفنية الكبيرة. كل ما هنالك أن قصص النهايات المبكرة هذه تجعل من الأساطير الفنية (التشيخوفية أو الكافكاوية أو الكيتسية) أساطير متكاملة مثالية.

أخيراً، من أكثر الأسئلة التي تثير فضولي شخصياً، ما شكل الروايات التي كان كافكا سيكتبها لو عاش عشرين سنة أخرى؟ كم “محاكمة” كان سيقدّم لنا؟ هل كان سيكتب أفضل منها، أم أنه مات في ذروته؟ هل كان تشيخوف ليستمر بالزخم نفسه؟ لربّما تغير أسلوب كيتس لو عاش حتى الستينات من عمره. نسمع كثيراً عن أهمية أن يجد الكاتب صوته المتفرّد الأصيل. هل هناك عمر معيّن كي يتحقّق هذا التفرّد ويتشكل الصوت؟ لا أظن أن هناك إجابة موحّدة على أسئلة كهذه، أو حتى إجابة نهائية من أي نوع.

رامبو
هناك زاويتان للنظر في مقاربة علاقة الإبداع بالعمر. نظرة ترى أن الإبداع المبكر، ذاك الذي يتفجّر في البدايات، هو ذروة ما يمكن أن يصل إليه بعض الكتّاب. لا بد أن شاعراً مثل رامبو أفضل من يمثل هذا التيار. ونظرة ترى أن الإبداع يحتاج إلى الزمن. إلى الخبرة والتجربة والحكمة كي يتجوهر. أن الكتابة الأجود للمبدع لا تكون في سنوات شبابه الأولى، بل لاحقاً. مثلاً، الكاتب الأميركي فرانك ماكورت نشر كتابه الأهم “رماد أنجيلا” وفاز عنه بجائزة “بوليتزر” وهو في السادسة والستين. الروائية أنيتا بوكنر كتبت روايتها الأولى في الثالثة والخمسين، ولم تتوقف بعد ذلك. بل وجد باحثون في جامعة تورونتو، أن الأداء العصبي لأدمغتنا يتحسّن مع الزمن. صحيح أن تناقصاً تدريجياً يحدث في بعض المَلَكات، لكن الشبكات العصبونية الجديدة التي تتشكّل مع الزمن، والمرونة المشبكية العصبية التي تزداد مع التعلّم والتراكم، تعوّض عن ذلك بأداء دماغي أفضل مع تقدّم العمر. الخبرة يمكن أن تؤدي إلى كتابة إبداعية أغنى.

الكاتب الأميركي بنجامين موزر يعتبر القدرة على البقاء على قيد الحياة، موهبة مثل غيرها من المواهب. الحفاظ على الجسد موهبة أيضاً. لذلك ربّما، الكتّاب الذين لا يملكون هذه الموهبة، كانت كتاباتهم اللاحقة لتخلو من الموهبة أيضاً. فكرة قد يكون فيها ما يستحق التبصّر.

*المدن