فادي سعد: جميعنا رواة لا يمكن الوثوق فيهم

0

عندما نقرأ رواية أو قصة قصيرة، نحبّ أن نصدّق كل ما يخبره إيّانا الراوي. يُقال إنّ النص السردي الناجح هو ذاك الذي يعطّل مؤقتاً قدرة القارئ على التمييز بين الوهم والواقع، ويُنسيه أن النصَّ في النهاية وليد الخيال. النقد الروائي يُشارك بطريقته في هذه اللعبة السردية، فقد ظهر في هذا النقد (منذ الستينيات) مصطلح “الراوي غير الموثوق فيه”. هذا يعني ضمناً أن هناك في الطرف المقابل رواة موثوق فيهم! لكن هل يوجد فعلاً راوٍ صادق؟


لنتحدث قليلاً عن بعض أساليب السرد. في كلّ رواية أو قصة، راوٍ يُخبرنا الحكاية. غالباً، هذا الراوي يقصّ علينا الحكاية، إمّا بضمير الغائب القريب (هو أو هي)، وإما بضمير أنا المتكلّم (سنقفز الآن فوق التقنيات السردية الأخرى الأقل استعمالاً). عندما نقرأ رواية بضمير الغائب، هذا يعني أن الراوي متموضع خارج شخصيات الرواية، يقول لنا كل ما يعرفه لحظة بلحظة، من دون أن يخفي شيئاً عنّا نحن القرّاء. راوي ضمير الغائب، من المفترض أنه لا يكذب على القارئ، لأنه يسير معه جنباً إلى جنب داخل الرواية، مُكتشِفاً معه أحداثها صفحة صفحة.

الأمر يختلف مع الراوي بضمير أنا (أو نحن) المتكلّم. الراوي هنا هو إحدى شخصيات الرواية. يُخبرنا الحكاية من وجهة نظر شخصية جداً، ومفرطة في الذاتية. لذلك من حقّ القارئ، بمجرد أن يرى ضمير الأنا في الرواية، أن يمسك بخيط الشك، متفحِّصاً بارتياب ما يُقال له. لتنبيه القرّاء من هذا الراوي الزئبقي، أتانا النقد بمصطلح “الراوي غير الموثوق فيه”، وصار هذا المصطلح ملتصقاً بشكل أساس بالروايات حيث الراوي(ة) إحدى شخصيات الرواية. راوي ضمير الأنا، غير الموثوق فيه، يمكن أن يكذب على القارئ، أن يُخفي معلومات عنه، أن يخدعه. ولدينا أمثلة كثيرة على روايات كهذه.

ربّما، من أشهر الرواة غير الموثوق فيهم، السيد هامبرت هامبرت في رواية “لوليتا” للكاتب الأميركي-الروسي فلاديمير نابوكوف. السيد هامبرت هامبرت، يسرد علينا حكاية شغفه وحبّه وعلاقته الغرامية مع طفلة قاصر لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، يُدلّعها السيد هامبرت باسم “لوليتا”. الحقيقة أن السيد هامبرت هامبرت، بسلوكه وتبريراته النفسية المرَضيّة لممارسته البيدوفيليا، شخصية مثيرة للاشمئزاز والغضب. لكن، لا يسعنا أحياناً عند قراءة قصّة السيد هامبرت من وجهة نظره، أن نتجنّب الشعور ببعض الشفقة عليه كما نشعر عادة عندما نُقابل أناساً مرضى، وفي غمرة قرفنا من السيد هامبرت، لا يمكننا الهروب من الشعور في أحيان أخرى بمتعة القراءة. خدعة خطيرة يحيكها نابوكوف عندما يمنح السيد هامبرت هذه القدرات التعبيرية النثرية المتميّزة، إلى حدّ إغواء القارئ، ودفعنا إلى نسيان مرَضيّة الموقف وعُصابية بطل الرواية.

السيد هامبرت، المثال الأوضح على معنى الراوي غير الموثوق فيه. كل جملة يقولها مشكوك فيها، مع أن خطابه متماسك ومعقول في عالم موازٍ يسكنه المرضى النفسيّون أمثاله. حسب هامبرت، لوليتا هي التي أغوته، وهي التي ورّطتْه في علاقة معها، وهي التي منعته من أن يتركها قبل أن تهرب منه. طبعاً، كل هذا هراء.

الرواة الذين لا يمكن الوثوق فيهم، لا يكونون أحياناً بهذا الوضوح وهذه الوقاحة. خديعة بعضهم للقرّاء أكثر مواربة وذكاء. في رواية “الأميركي الهادئ”، للروائي الإنكليزي غراهام غرين، يحكي لنا الصحافي “توماس فاولر”، بضمير المتكلّم، عن الحرب الفرنسية في فيتنام، وعن قصة حبّه للشابة الفيتنامية “فيونغ” تصغره بعشرين عاماً. يقع في حبّ فيونغ أيضاً عنصر مخابرات أميركي يُدعى “بايل”. علاقة حب ثلاثية، تنتهي بمساهمة فاولر في اغتيال غريمه بايل. فاولر قاتل، لكنه في الوقت نفسه صحافي شجاع، مثقف، عملي وساخر. إنسان يبدو في الفصول الأولى من الرواية مُقنعاً، محبّباً، شهماً أحياناً. لكنه أيضاً كاذب. في مواقف عديدة، يكذب على الآخرين وعلى نفسه وعلى القارئ. ففاولر يخبرنا في البداية، عن موت بايل من دون ذكر تفاصيل، ومن دون ذكر دوره في جريمة قتله. لا يخبرنا أنه شارك في اغتياله إلّا متأخراً جداً. يُخفي فاولر الكثير من الحقائق، لكن على القارئ أن يمضي في الرواية حتى النهاية حتى يكتشف خداعه المنمّق. فاولر راوٍ منطقي، مثير للإعجاب أحياناً والتعاطف أحياناً أخرى، مخادع وكاذب.

الأمثلة على كذب وعدم وثوقية رواة ضمير المتكلم، كثيرة. لكن بعض النقد الروائي المعاصر لا يُبرّئ بقية أنواع الرواة من تهمة الكذب، بل يعتبر أن أيّ راوٍ، في أي رواية، لا يمكن أن يكون صادقاً تماماً. كل أنواع الرواة، أكان هذا الراوي بطل الرواية، أو راوياً يقف خارج مسرح الشخصيات، أو حتى الراوي العليم كُلّي المعرفة، هؤلاء الرواة جميعاً، والكاتب الذي يقف خلفهم، لهم وجهات نظر. وجهة نظر شكّلتها مؤثرات ثقافية وفكرية ونفسية وإيديولوجية وبيولوجية، لذلك لا يمكن أن تكون وجهة النظر هذه محايدة. ما دمنا نسمع القصة من طرف واحد، تبقى القصة ناقصة، ولا يمكن تركيب الحقيقة إلّا إذا اطلّعنا على القصة من جوانبها كافة، أيّ إذا سمعناها من وجهات النظر الممكنة كلها، وهذا صعب تحقيقه في عالم السرد الروائي.

ماذا لو أسمعَنَا نابوكوف وجهة نظر لوليتا أيضاً، وما لديها من قول؟ بالتأكيد كنّا سنقترب عندها من حقيقة ما حصل. ماذا لو أسمَعنا أيضاً وجهة نظر والدة لوليتا، شارلوت، التي تزوجت هامبرت هامبرت؟ لاكتملت عندها الصورة أكثر. كلّما تعدّدت الأصوات السردية، اقتربنا أكثر مما يمكن تسميته بــ”الحقيقة الموضوعية”، وكلّما تمركز الراوي في نقطة واحدة، كان هذا على حساب هذه الحقيقة. ولا شيء يمنع أن نوسّع مجال هذه الفرضية، من العوالم الروائية إلى العوالم الواقعية. ففي الواقع أيضاً، إذا أردنا فعلاً أن نعرف ما يحدث، لا يمكننا الاعتماد على راوٍ واحد أو حتى اثنين. عالمنا معقّد بما فيه الكفاية، ويلزم فهمه الكثير من الأصوات السردية وسماع وجهات نظر عديدة. ربّما نستطيع من تقاطع هذه الكثرة أن نخرج باستنتاجات أوضح.

في عالم اليوم، يكثر الحديث عن الميكروفونات السردية التي بات الجميع يملكها. عن السوشيال الميديا التي جعلت من الجميع شخصيات لها أصواتها ووجهات نظرها (مهما كانت ثانوية) في رواية حياتنا اليومية. عن الضجيج والأصوات الكثيرة المتداخلة. يُذكّر هذا كله بلهجة سلبية ناقدة. بالمقارنة، في زمن مضى، كانت قصص وحكايات واقعنا تُسرد من مركزيات إعلامية وفكرية وإيديولوجية محدّدة وقليلة. لكن، هل كان هذا الزمن الماضي أفضل فعلاً؟ هل كان أكثر دقّة؟ هل الوضع أسوأ الآن، كما يوحي النقد الموجَّه ضد السوشيال الميديا (المحق في بعض جوانبه)؟ إذا كان الهدف فعلاً معرفة ماذا يحصل حولنا، ألا تساعد هذه التعددية الهائلة في الأصوات ووجهات النظر في تقريبنا من حقيقة العالم؟

في الماضي، كنّا نسمع أخبارنا السياسية من قنوات إعلامية كبيرة محدودة، تُلقّمنا المعلومات حسب أولويات معيّنة، أو كما يُقال حسب “أجندات” هذه القنوات. هذا ينطبق على الغرب أيضاً بقدر انطباقه طبعاً على عالمنا الشرق أوسطي. لا أعتقد أن هذا النوع من التلقّي أفضل من أن تكون مصادر أخبارنا آتية من آلاف الأصوات المنفردة والمجتمعة، الصغيرة والكبيرة، الموزّعة هنا وهناك في شبكة العالم الالكترونية الكبيرة. في عالم الفنّ، أحبّ أن أعتقد أنّ فقدان حرّاس بوابات التقييم الفنّي لمفاتيحهم التي كانت تختبئ في منابر إعلامية محدّدة معدودة، هو لصالح انتشار الفن وغناه وتعدّدية أصواته.

كأفراد منفردين، نحن رواة لا يمكن الوثوق فيهم، مهما حاولنا مقاومة ميولنا الذاتية وانحيازاتنا ورواسبنا الثقافية العميقة. لكننا، كجماعة متعددّة الأصوات، نقترب أكثر من دائرة الحقيقة واكتمال الصورة. ومع أن الاستشهاد بالأقوال المأثورة قد يبدو ممارسة بالية، لكن بعض هذه الأقوال له حكمته الغامضة المُجرَّبة، كذلك الذي يقول “إن الحقيقة تكمن في مكان ما في المنتصف”.

*المدن