غيثاء الشعار: خرافة الإنجاز

0

لقد جسدت النساء النموذج النسوي على أنه مجموعةٌ من الإنجازات وصرامة مع الذات، بدلاً من تبنيها لتوسيع مفهوم الحرية الذي يمكن أن يتضمن أحياناً التحرر من التطلعات والطموحات الأبدية. تتحدث نعومي وولف في هذا المقال عن هوس الإنجاز وتقدير الذات من خلالها

امتلأت الصحف الأمريكية في أواخر أيلول (من العام ٢٠٠٨) ببيانات عن سعادة المرأة، وقد بيّن الكاتب ومستشار الأعمال البريطاني ماركوس باكنجهام أن هذه الأبحاث أظهرت حقيقةً أن النساء أصبحن أقل سعادة على مدار الأربعين عاماً الماضية. المدونات والمجلات الإخبارية والبرامج الحوارية النهارية كلها أبدت أساها لأن النسوية رغم كل ما جلبته من حرية وخيارات كثيرة إلا أنها أيضاً جعلت النساء أكثر تعاسةً.

أخبرت النساء الباحثين الذين استشهد بهم باكنغهام أنهن “غير راضيات” عن جوانب عدة من حياتهن. في الواقع إذا كانت النساء الغربيات قد تعلمن شيئاً خلال الأربعين عاماً الماضية، فهو أن يكنّ غير راضيات عن وضعهنّ الراهن، وهذه رؤية مهمة يجب أن تنتبه إليها باقي الثقافات، لأننا نسعى إلى تصدير النسوية على النمط الغربي إلى العالم. إذ كما هناك جانب جيد في فكرة (رفع الوعي) على النمط الغربي، هناك الجانب السلبي أيضاً والذي يتعلق بتعليم النساء كيف يكنّ غير راضيات ومستاءات من واقعهنّ.

أشعل كتاب بيتي فريدان (اللغز الأنثوي) شرارة الحركة النسوية الغربية المعاصرة في العام ١٩٦٣، والذي سمح أخيراً بالشكوى لتحديد “المشكلة التي ليس لها اسم” بعدة طرق. وتبع ذلك عدة حوارات ونقاشات لمساعدة النساء الغربيات على تحديد ما هو “غير كافٍ” في العديد من جوانب حياتهن، الوظائف منخفضة الأجر مثلاً، حيث تعمل النساء وينسب الفضل للرجال في تعبهنّ، وفوق ذلك قد يتم التحرش بهنّ.

ورفعت الحركة المعايير على المستوى الجنسي: حيث أخبرت شيري هايت النساء في عام ١٩٧٣ أنهنّ إذا لم يستطعن الوصول إلى النشوة الجنسية من خلال الجماع وحده، فهنّ طبيعيات ويمكن أن يطلبن اهتماماً جنسياً أكبر وأكثر لطفاً. إلى جانب ذلك أثيرت مواضيع أخرى من قبيل: هل تريدين إدارة عملك الخاص؟ اذاً هيا يا فتاة.. هل تحلمين بأن يأخذ الرجل دوره بالتساوي معك في تربية الأولاد؟ هل تريدين أن تكوني قاضيةً في المحكمة العليا؟ إذاً على الفور يا أختي! دعا أولئك الذين صاغوا قيم النسوية الغربية النساء للمطالبة بالمزيد في كل مجال من مجالات حياتهنّ. لكن الجانب السلبي لهذه اللغة والفلسفة الطموحة يمكن أن يكون مصدر قلق شخصي مستمر، وهذا ما يلاحظه العديد من الرجال والنساء في بقية العالم (خاصة في العالم النامي) ويرونه تناقضاً مربكاً. 

أدى تعريف النسوية الغربية على أنها “السعي نحو المزيد” إلى مفارقة بالتأكيد، فتياتنا وشاباتنا غير قادرات على الاسترخاء. تكشف البيانات الجديدة في الغرب أننا ربما لم ننشئ جيلاً من الفتيات اللواتي يتمتعنّ باحترامٍ وتقدير عالٍ للذات. نحن نربي جيلاً من الفتيات اللواتي يعانين من قسوة شديدة على أنفسهنّ ويحاسبن أنفسهنّ بشدة. فتيات وضعن معاييرهنّ الشخصية الخاصة بشكل غير معقول، ولا يعطين أنفسهنّ فرصةً للراحة والتفكير إن كان ما يفعلنه “كافٍ”.

ماذا لو كنا قد فشلنا في الغرب في إعطاء بناتنا تعريفاً للنجاح يتيح لهنّ فعلاً أن يكنّ ناجحات، وذلك لأننا سمحنا بتعريف النسوية على أنها التفوق على الآخرين، فعل المزيد دائماً، والقيام به على أفضل وجه؟ بالنسبة لنا في الغرب ولسوء الحظ تم التعبير عن الموجة الثانية للنسوية من قبل نساء طموحات ومتعلمات تعليماً عالياً، ذهبن إلى كليات النخبة واعتبرن الإنجاز المهني هو ذروة الإنجاز. لم يتم إعطاء مساحة كبيرة لأشكال الإنجاز الأخرى مثل رعاية الوالدين المسنين أو المربين المؤثرين في المجتمع، حتى إن الوصول إلى حكمة داخلية معينة أو إلى السلام والبصيرة اعتبر (غير غربي) تماماً.

ماذا لو أننا فعلاً قمنا بتجسيد النموذج النسوي على أنه في المقام الأول مجموعة من الإنجازات وصرامة مع الذات، بدلاً من تبنيه لتوسيع مفهوم الحرية الذي يمكن أن يتضمن أحياناً التحرر من التطلعات والطموحات الأبدية؟ 

إعادة تعريف النسوية كما هي الآن، على أنها “السعي الدائم نحو المزيد” يلبي متطلبات الرأسمالية الاستهلاكية وأخلاقيات العمل ما بعد عصر الصناعة، لكن هذا ليس بالضرورة انتصاراً للنساء أو حتى الرجال. الآن بعد أربعين عاماً من إعادة إحياء الحركة النسوية المعاصرة، أصبحت النساء العاملات منهكات تماماً مثل بعض الرجال الذي اعتادو ان يدخلو في مسابقات للتفوق على الآخرين. على أية حال، عندما سُئل أطفال الأمهات العاملات في أحد الاستطلاعات الأخيرة عما يريدون تغييره في ظروف حياتهم، لم يقولوا إنهم يريدون قضاء المزيد من الوقت مع أمهاتهم، بل قالوا إنهم يتمنون لو كانت أمهاتهم أقل إرهاقاً وتوتراً.

عمتي أناسويا، التي تُعد أحد أهم النساء اللواتي أقتدي بهنّ، أجّلت الإنجازات المحددة تقليدياً في العالم المهني وركزت على الاهتمام بأسرتها، الآن بعد أن كبر أطفالها سافرت إلى التبت لعدة أشهر لتحقيق حلمها في أن تصبح ممارسة للطّب التبتي. من المؤكد أن النسوية فتحت الطريق أمامها للحصول على حياة فيها الكثير من الخيارات وساعدتها الآن للوصول إلى هذا الهدف غير التقليدي، لكني لا أعرف أن كانت النسوية تقدر بشكل صريح أكثر ما أقدره في عمتي وهو بابها المفتوح دائماً. إنها تستقبل الطلاب الذين يحتاجون إلى منزل، أو الأمهات اللاجئات العازبات اللواتي يعانين من عوز اقتصادي أو حتى ببساطة تخصص حيزاً للمراهقين الذين يعاني آباؤهم من مشاكلهم الخاصة. عندما أنظر إلى الطريقة التي تساعد فيها الآخرين وتأثيرها الإيجابي على حياتهم، فإن وظيفتها هي واحدة من أنجح “المهن” التي أعرفها، والتي تقوم بها عمتي وهي زاخرة بالهدوء والسكينة والسلام.

هل ينبغي للنسوية الغربية أن تعمق تعريفها لحياة المرأة الناجحة بحيث يمكن لأكثر من مؤهلات وإنجازات معينة أن تكون خيارات جيدة أيضاً؟ أعتقد أن الوقت مناسب للقيام بذلك، قد تكون هذه اللحظة فرصة عظيمة للنساء وأولئك الذين يهتمون لأمرهنَّ، خاصة مع انهيار الأسواق والارتفاع الشديد في نسبة البطالة، والتغيير الدراماتيكي في أسس مؤسساتنا. ربما يكون فهمنا لعدم جدوى إسناد إحساس المرء بذاته إلى الإنجاز المهني الخارجي بمثابة دعوة للصحوة وخطوة أولى نحو حرية أوسع وإحساس أعمق بالمصير الأنثوي.

*نعومي ربيكا وولف كاتبة وصحفية نسوية أمريكية، بعد كتابها (خرافة الجمال) الذي نال شهرة واسعة أصبحت متحدثة باسم ما عرف فيما بعد (الموجة النسوية الثالثة). 

*شيري هايت: باحثة ونسوية أميركية/ ألمانية، تركز عملها على النشاط الجنسي الأنثوي، وقد أثارت الجدل في أبحاثها من حيث نوعية الموضوع والمنهجية. 

*ليفانت