غطفان غنوم: ثورة ضد اللقاح الطائفي

0

انقضى على زمن الوباء ثلاثة عقود ونيف. كانت أعداد الضحايا تُقدر بملايين البشر من كل أصقاع العالم، وبطبيعة الحال، كما يحدث عادة بعد انقضاء الكوارث كالزلازل أو البراكين أو الحروب الكبرى، سرعان ما يبدأ الناس بلملمة أنفسهم وترميم بنيانهم النفسي والجسدي بشتى الوسائل، ومن وسائل الترميم بل أهمها برأيي الشخصي هو تفعيل فلاتر الذاكرة، لتبستر كل الأوجاع والآلام وتترك مكانها قصصًا تروى وذكريات تحكى كما لو أنها لم تكن ولم تحدث في الواقع. ألم يقل ستانسلافسكي ذات يوم بأن الزمن هو مصفاة الشعور؟!

تفنن الناس في نقل ذكرياتهم للأبناء، وأضافوا عليها انطباعات لم تحدث أصلًا، وبالغوا جدًا في الحنين لأيام كانت في حينها أيام نكد وشقاء، كتلك التي فرض فيها حظر التجوال في شوارع مدن العالم كلها تقريبًا، بعد أن استفحل الوباء ويأس العلماء من إيجاد اللقاح المرتجى. أنا أصدق فعلًا بأن الإنسان قد يحن لأيام عانى فيها، وانتابه الهلع، فقد عايشت حربا طاحنة واختبرت بنفسي الخوف الشديد من القتل، ثم إنني وجدت روحي تتوق لقضاء يوم ما مع أصدقاء المحنة وشركاء التجربة. كان لا بد من تلك النبذة القصيرة كبداية سريعة للدخول في صلب المقال! فنحن نعيش الآن في خمسينيات القرن الحادي والعشرين، وأطفالنا صاروا رجالًا، ولا بد لهم من معرفة جذور هذه العادات الجديدة التي رفدت على بلادنا.

اقرأ/ي أيضًا: الأزعر والبردان والساهي وأنت وأنا

ولكن قبل أن أضرب الأمثلة، سأذكر قصة قصيرة عن وباء الطاعون الذي اجتاح بغداد منذ قرن كما علمت. فقد أودى الطاعون بحياة الكثيرين، وكان الهلع سيد الموقف. خسر الناس أصدقاء وأهلًا وأقرباء، وكان الواحد منهم إذا سمع بإصابة أحد ما يسأل عن لونه! فلو كان لونه أسودَ فسيترحم عليه لأن يعلم علم اليقين بأن الداء قد تمكن منه، ولو كان لونه أحمرَ فسيدعو له بالشفاء والتعافي، ونتيجة ذلك درج القول العامي “شلونك” كتعبير عن كيف الحال؟ لكن وباء الكورونا كان مختلفًا بكل ما ترتب عليه من نتائج، اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فقد سقطت الكثير من الحكومات في زمنه، وانحلت الكثير من الأحزاب، وأفلست الشركات وأغلقت البنوك، وهاجرت أسر من بلدان لبلدان وكان الخطب كبيرًا وهائلًا لدرجة يصعب معها التصديق بأننا سننعم كبشر بالحياة الطبيعية مرة ثانية. بل إننا كنا نمازح بعضنا بعضًا بأن نفكر أن قانون التطور الطبيعي ربما يجعل من الكمامة عضوًا جديدًا مضافًا لتركيبة الوجه البشري. وهذا ما سيغني قاموس الغزل بتعابير جديدة، وسيجعل من القبلة الكلاسيكية مجرد ذكرى لا يفهمها الجيل المتطور الجديد. لكن الحمد لله كل ذلك كان مجرد ترهات انتهت بعد أن وجد اللقاح وحصلت المناعة من هذا الوباء.

الشيء الوحيد الذي كان منغصًا هو تنوع اللقاحات التي أنتجت واختلاف جودتها، وهذا ما ترك نتائج مستقبلية لم يكن قد توقعها أو تهيأ لها أحد. فقد صارت نوعية اللقاح مقياسًا يعتد به في نظر الآخرين، محظوظ مثلًا من غرست في يده إبرة فايزر، وتعيس من جرى مع دمه اللقاح الصيني، وقس على ذلك بحسب سعر اللقاح وأقدمية التلقح. بل إن عائلات كثيرة كان لأفرادها الأسبقية في الحصول على اللقاح السوبر كنيت وفقًا لاشتقاقات من اسم ذلك العقار، كآل الأسترانكي وآل الفايدروني وغيرهم.

هنالك من علق في بيته صورة والده ممهورة بتاريخ تلقي اللقاح ورقم الجرعة، وهذه اللوحات أصبحت ذات قيمة مادية وتاريخية حين تحولت لرسوم زيتية على أيدي رسامين مهرة لم يجدوا وسيلة للترزق سوى تطويع ريشهم وألوانهم في خدمة الزبائن الأغنياء في زمن الوباء المتردي.

أذكر مرة أنني دخلت منزلًا فخمًا برفقة صديق مهندس لمعاينة المسالك المائية للمطبخ، ففوجئنا بلوحة معلقة على جدار أبيض، رسم فيها خلفية بشرية كبيرة ينمو فوقها العديد من الأشجار القاتمة ذات الأوراق الإبرية، وفي مركز المسافة الفاصلة بين تلك الأشجار تسامقت إبرة حادة معدنية لامعة حتى بزت الشجر علوًا. بينما تناثرت على الفلقة اليمنى من الخلفية زهور صفراء جميلة المنظر توزعت بحيث تبدو على شكل عين أغمضت قليلًا، كل ذلك أوحى للناظر بأن الإست كانت تغمز بخبث. لقد كانت اللوحة موقعة بريشة الفنان العظيم “أمين الفيروزي” الذي مات قبل سنوات طويلة إثر عضة كلب مشرد بعد أن عاش حياة مأساوية، فقد توفيت زوجته الأولى بعد إصابتها بالمرض، فعاش محطمًا لأعوام كثيرة، ثم وجد الحب مجددًا، غير أن عائلة حبيبته التي حظي بها بعد سنوات من وفاة الزوجة رفضوا تزويجه منها لاعتبارات طبقية تتعلق بنوعية اللقاح الذي استطاع الحصول عليه.

يذكر الكاتب الشهير صاحب “دور الفيروس في سبر أغوار النفوس” بأن ذلك الرسام كان صاحب حظ متعثر، وأن سوء الطالع رافقه طيلة عمره، حتى أنه يزعم بحصوله على مصادر تفيد بروايات تؤكد موت الزوجة إثر حقنها بإبرة مستعملة، ولكن هذا لم يرد ذكره في كتب ثانية. لكن المؤكد حتمًا أن السيد أمين سافر نحو منطقة “الربع الكورني” الموبوءة، متخطيًا نصيحة زملائه ومغامرًا بروحه، لكي يقدم للعالم لوحته الخالدة “الكورنيكا تعانق الجورنيكا”، لكن تلك المغامرة أرغمته على إجراء الاختبار الكوروني العالي السوية، عند وصوله للحدود الدولية المشتركة التي تناوبت الدول على تأمينها منذ ذلك الزمن. ومن المعلوم بأن الاختبار عالي المستوى كان في بداية التجربة حينها، وعمل به لأننا كنا في سباق مع الوباء. يقتضي الاختبار أن يقيد البشري من أطرافه الأربعة ثم يعلق كأرجوحة في الهواء لمدة يوم كامل، فيفقد كل قدرة على التحرك وهذا ضروري جدًا، كي يتم لاحقًا إدخال خيط حريري من أنفه نحو فمه، يلي ذلك إدخال خيط صوفي عبر شرجه، يتبع ذلك إدخال خيط كتاني في أذنيه، وتنتهي العملية كلها بإدخال خيط بلاستيكي من حلقه نحو معدته، يسجل عليه كل بيانات الجسم تلقائيًا.

لم يتحمل جسد الرسام كل تلك الخيوط فأصابه الصمم والبكم والشلل النصفي لاحقًا، لكنه عاش وكان يفضل الجلوس في الشمس في آخر أيامه. ذات ظهيرة كان نائمًا تحت ظل شجرة، لكن منظره أوحى لكلب جائع بأنه ميت، فعضه من قدمه المشلولة، مما أدى لوفاته بفيروس لم تعرف هويته حتى الآن! وتم حرق الجثة ثم دفنها في مكان مجهول. لكنه سجل اسمه في التاريخ رغم الصعوبات ورغم قلة رسوماته التي جسدت مأساة البشر بعمق وصدق، ويعزى الفضل له بتخطي المرحلة التصويرية نحو عالم التجريد.

قلت لصديقي موضحًا: الحقيقة أن عائلة أمين كانت عائلة تقليدية جدًا وأنه لقب بأمين الفيروسي لأمانته الفنية، لكن العوام حرفوا الاسم لدى شيوع صيته. لم ترضِ ملاحظتي صاحب اللوحة والمنزل لكنه غض الطرف متجاهلًا الأمر فأسرعنا معا للخروج من المكان… سألني صاحبي: كيف تعرف كل تلك المعلومات؟ قلت: لأنني تعرضت للرفض عدة مرات قبل أن أجد عائلة تقبل بي كزوج، فأنا استرازينكي ولا يخجلني قول ذلك. تعرفت لزوجتي الفايزرية قبل سنوات، وكان لقاؤنا في بداية الصيف الرابع بعد اندحار الوباء وتسجيل آخر اختبار عال السوية في الكوكب. كانت الاحتفالات صاخبة، وكان البشر قد نزعوا كماماتهم وتركوها كجبال متناثرة في الحارات والميادين، وكان الأطفال يرمون بأنفسهم من الأسطح على تلك الأكداس. كثير من المضطربين المتحمسين كانوا يشمون الكمامات كما لو أنهم يتحدون الفيروس والبعض منهم بدأ بمضغها بلؤم رغم تحذيرات الشرطة، لكن الابتهاج العام والحماس المفرط حال دون السيطرة على الوضع.

سيتساءل سامع الآن: ولماذا لا يوجد أي توثيق بصري لما جرى! أذكر بأن الحكومات منعت لاحقًا أي تداول للصور أو التسجيلات، وتم التحفظ عليها كأرشيف خاص سري، ربما قدر بعض الفلاسفة والمستشارين بأن الأمر يجب أن ينسف نسفًا من ذاكرة الشعوب، وأن وجود تلك الذكرى ستؤثر سلبًا على مسيرة الجنس البشري ومستقبله. حتى أن حكمًا بالإعدام نخزا بالأبر صدر بحق عالم فلكي لم ينشر اسمه، بسبب إرساله لكمامة مشفرة مع مركبة فضاء كانت متوجهة نحو كوكب “فيرونوس” الذي اكتشف في تلك الحقبة. شاهدت زوجتي برفقة عائلتها في المقبرة الكبرى، كانوا يضعون عجلة دراجة قرب قبر، ثم رقصوا رقصة “الحجر المنزلي” بأن خبطوا على صدورهم السليمة بالعصي بشكل إيقاعي متقن، وسعلوا سعلات متناغمة متناوبة بينما بدؤوا بالنط في المكان، حتى خمدت همتهم كما تقتضي الرقصة، وغادروا، فتبعتهم. اقتضت العادات الحديثة استبدال الزهور عند القبور بأشياء أكثر تعبيرية تتناسب مع المرحلة، وسادت لاحقًا فكرة عجلة الدراجة أو عجلة السيارة إن كانت حالتك المادية تسمح، ولن يغفل القارئ عن الفكرة من وراء ذلك، فأية قيمة تفوق قيمة الحرية في زمن الحجر المنزلي، وهكذا تحول مفهوم الحرية المعنوي لأمر مادي مختزل بدولاب، ما أجمل ركوب الدراجة في الهواء الطلق. حين أذكر زوجتي بتلك الأيام، ينتابها الخجل الشديد، وتطلب مني خفض صوتي، فهي لا تريد لابنتنا أن تعرف شيئًا عن تلك العادات الغريبة التي انقرضت لاحقًا. كنت من المحظوظين القلائل الذين تزوجوا من شريكة تختلف عنهم طبقيًا، في ذلك الزمن لم يعد الدين مقياسًا ولا الطائفة الإثنية أو الوضع المادي، بل كانت شهادة التلقيح التي تلقيتها يا سيدي في حياتك هي الأهم. ولذلك فأنا حاليًا اتجرأ على الاعتراف علنا بأنني زورت شهادة تلقيحي، وكان هذا هو الحل الوحيد كي تقبل بي عائلة زوجتي كعريس. في تلك الفترة سمعنا عن جريمة قتل شنيعة حدثت في حارة مجاورة، بعد أن أغرمت متلقحة بلقاح روسية بمتلقح بلقاح صيني، واضطر لخطفها كيي يتزوجها رغما عن أهلها، لكن أحد أولاد عمها واسمه “نور الدين الاسترازنكي” شاهدهما صدفة في أحد الكراجات، فاستدل على بيتهما بعد أن تبعهما، وكان البيت بجوار الساحة العتيقة للمشفى المسماة “مشفى الألف جثة يوميًا” التي تحولت لمتحف لاحقًا.

ليلًا تمت الجريمة بغرز ألف إبرة في أنحاء جسد العاشق، ووضعت ورقة قرب الجثة كتب عليها: اعرف لقاحك، واحترم نفسك”.

كان لا بد إذا من التفكير جيدًا قبل أن أتقدم لزوجتي طالبا يدها، ولذلك فقد لجأت لمزور ماهر. كانت تجارة الشهادات المزورة قد بدأت حينها قبل أن تضبط لاحقًا بالانتشار. طلب المزور مني مبلغًا ماليًا كبيرًا، بالإضافة لمخزوني الاحتياطي الكامل من المعقمات، وتمت الصفقة، فحصلت على شهادة أصلية موقع عليها اسمي: فايزري التلقيح. لم يتردد أبدًا أهل زوجتي بالموافقة، فقد كنت زوجًا مثاليًا من وجهة نظر الجميع. لا يمكن لشخص تخيل مدى صعوبة أن تخفي سرًا عن ابنتك أو أقربائك، وأن تعيش مرهق الضمير متصالحًا مع كذبة اختلقتها بدافع نبيل. كنت مرارًا قد نويت على الاعتراف لكن زوجتي كانت تثنيني عن ذلك، مرددة جملتها المفضلة: غدا ربما نبتلي بوباء أقذر، وتنال لقاحًا أكثر حداثة ومن يعلم كيف ستنقلب الأدوار يا زوجي! وكنت أهز رأسي موافقًا لكن مغتمًا. وحدها الثورة التي حدثت هي من غيرت الوضع وانهت عذابي وعذاب الكثيرين، وكان لا بد من ذلك الانفجار حتى تنتهي منظومة العادات والتخلف الناتجة عن الوباء. طبعًا لم نستطع حتى الآن استئصال كل السلبيات والأفكار المتطرفة، لكنها خطوة كبيرة نحو المستقبل الجيد. أنظر الآن لابنتي بفخر، وقد جمعت في دمها، دم أب استرازينكي ودم والدة فايزرية.. وأحمد الله بأنها لن تعاني في حياتها كما عانى غيرها.

أكتب هذا السطر الأخير، وأترككم لتتذكروا كل تلك السنوات بتفاصيلها التي لا يمكن لخيال حصرها في مقال واحد. تصبحون على خير.

*الترا صوت