غادة السمان: في اليوم العالمي للتسامح هل تسامح؟

0

ثمة برنامج تلفزيوني فرنسي أسبوعي باسم «مبعوث خاص» يتحدث عن أوطان غير فرنسا. وكرس مؤخراً البرنامج للحديث عن بيروت وحالها قبل وبعد الانفجار المروع في المرفأ. وكم أحزنني الواقع الحالي حتى استحالت سطوري نزفاً على الورق. الكاميرا تلاحق ما يدور، هذا طفل صغير مريض لبناني تريد أمه إدخاله إلى مستشفى لم يهدمه الانفجار، وكان المطلوب منها دفع نفقات العلاج مقدماً، وإلا فلن يحظى طفلها شبه المحتضر بسرير في المستشفى. وتضيف مقدمة البرنامج في وصف حال بيروت: لا كهرباء، لا بنوك تسدد المال، فتسديد نفقات العلاج مطلوبة مقدماً قبل إدخال الطفل إلى المستشفى. باختصار، كان البرنامج مصوراً واقعياً حتى لينزف قلب العربي كما اللبناني المغترب الذي يراه.. ينزف على الورق إذا كان كاتباً.. كيف حدث ما حدث لمدينة كانت عاصمة تلقب بسويسرا الشرق؟ التفاصيل تطول، وتحقيقات متلفزة واقعية تثير من جديد نزف القلب وحزنه على وطن كان درة الشرق اسمه لبنان، وأضحى يتسول المعونة من البلدان الأخرى.. ويستدر الشفقة من شعوب أخرى.

تغليف «قوس النصر» في باريس

أعترف ببساطة أن العمل الفني الأخير للفنان البلغاري الشهير كريستو (الراحل منذ عام ونيف) لم يعجبني. منذ أعوام طويلة، حين وصلت إلى باريس للإقامة فيها، لفتني أحد جسورها على نهر السين (البون نوف) وقد تم تغليفه بالقماش بأكمله ولفتني؛ لغرابته، دون إعجاب فني!
أما اليوم، بعد إقامة عشرات الأعوام في باريس التي تحتضن كل فن جديد، فقد وجدتُ تغليف قوس النصر الذي شيده نابليون بونابرت كشاهد على انتصاراته، وجدت تغليف الفنان «كريستو» له بالقماش الفضي المائل إلى الزرقة هدراً مالياً لا يحسن منظره ولم يوح إليّ بأي إبداع فني.
وصحيح أن تغليف قوس النصر تم على حسابه (على الأقل) وكلف ذلك 14 مليون يورو ثمناً للقماش وأجرة العمال الذين نفذوا ذلك، وسددتها زوجته، الفنانة أرملته جان كلود، لكن هذا المال المهدور كان يمكن إنفاقه على مطاعم كولوش مثلاً، حيث يستطيع أي جائع الذهاب إلى المطعم والأكل مجاناً (واسمها مطاعم القلب). لعلي -رغم حبي للفن- مخلوقة واقعية، وأجد أن الجائع يستحق صحناً مجانياً من الطعام، وأنه لن يتذوق فن كريستو وسواه إذا لم يشبع! أجل، لم يعجبني تغليف قوس النصر على طريقة كريستو. ولأنني امرأة عربية أعرف أن بعضنا كعرب يقلد الفنون الغربية، لذا أحببت أن أنزف على الورق محذرة من نقل أي (فن) غربي! فما كلها أفضل من إبداعات الفنانين العرب.

مكتبات «الورّاقين» الباريسيين

بالمقابل، أحب كثيراً صناديق المكتبات المفتوحة على ضفاف نهر السين التي تمتد على رصيف النهر لحوالي 3 كم، وهي صناديق خشبية يمكن تغطيتها حين تمطر السماء، وتضم كتباً بعضها نادر، وحتى بعض الرسوم النادرة (اشتريت من واحدة منها رسوماً للبوم وعلقتها في إطارات في مدخل بيتي!). بائعو الكتب في تلك الصناديق، المختلفة عن أي شاطئ نهر آخر، يمنحون باريس بعضاً من سحرها الأدبي الفني، وأنا شخصياً اشتريت منها كتباً نادرة يبيعها أصحابها لمجانين عشق الكتب من أمثالي.. ولم أجد ما يشبهها في عاصمة أدبية أخرى. ففي لندن مثلاً، نجد ما يشبه المعرض الفني (في الطقس الجيد) على جدار حديقة «الهايد بارك» وتلة «هامستيد» لكن لصناديق الورّاقين الفرنسيين سحرها الآخر.

بيروت على الرغم من مآسيها

وأظن أن بيروت مؤهلة للعب دور مشابه، حيث يبيع الناس في عربات خاصة بالكتب مكتباتهم، وبينها كتب مهداة لهم من المؤلفين وتحمل الإهداء والتوقيع من مؤلفيها.. وقد أهدتني إحدى القارئات كتاباً كنت قد أهديته إلى أحد الأصدقاء الأدباء، وكتبت الإهداء بخط يدي مع توقيعي، وحين رحل أحبت زوجته التخلص من تلك الرفوف المزعجة المزدحمة بالكتب في البيت، فباعتها (بالجملة!).. ولم يضايقني ذلك. فالكتب وجدت كي تتم قراءتها إذا انتقلت من يد إلى أخرى.

ضد العنف الزوجي!

حكاية أخرى..
حدث ذلك في دمشق منذ عشرات الأعوام، حين طلبت صديقة عزيزة من صديقاتي الطلاق فجأة من عريسها رغم اعتراض الأهل، وسألتها سراً: ما الذي جعلك تقررين ذلك؟ قالت: وحدك ستفهمين، ولن يدهشك الأمر. خادمتنا الصغيرة (14 سنة) خالفت بعض أوامره فضربها بعنف. وأضافت: قلت لنفسي، اليوم دورها، وغداً دوري!
فالعنف طبع في النفس.. ولا أريد أن أنجب أولاداً ذات يوم من رجل قادر على العنف.. وضربي وربما ضربهم!
صديقتي التي قررت طلب الطلاق من زوجها لأنه ضرب الخادمة الصغيرة، أحسنت صنعاً في نظري؛ فقد قام بضرب الخادمة البارحة، ودورها في الضرب آت بعد انقضاء الشهور الأولى بعد شهر العسل!.. نحن بحاجة إلى نبذ العنف الزوجي أياً كان السبب وأياً كان الفاعل.. فالحوار الهادئ هو الحل للخلافات، لا الصفع أو الطعن بالسكاكين أو إطلاق النار.

لا للتسامح معهم!

يصادف يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) اليوم العالمي للتسامح. ذلك اليوم قد تسامح الكثير، والتسامح أمر جميل لكن.. هل تستطيع التسامح مع سرقة وطن اسمه فلسطين من قبل الإسرائيليين دون أن نرفض الاحتفال بيوم التسامح؟ وكيف نتسامح مع سرقة وطن وتشريد شعب دون أن ننزف على الورق حين نكتب عن ذلك ونرى معاناة أبناء فلسطين بسبب سارقي وطنهم واعتدائهم على المسجد الأقصى والزج بهم في السجون لمجرد أنهم يطالبون بحقهم في وطنهم. يوم التسامح ربما يصلح لكوكب آخر لا لكوكب الأرض، حيث سرقة الأوطان لها ذرائع كثيرة، لكنها تحدث. واسألوا فلسطينياً عن ذلك في الأرض المحتلة!

*القدس العربي