قبل أعوام صدر كتاب في باريس نال اهتماماً كبيراً من الصحافة الثقافية الفرنسية، وفيه يُدوّن سائق تاكسي فرنسي قصص الذين يستقلون سيارته، وكيف يروون له أحياناً حكايات حياتهم.. ويتسولون حواراً، وخص بالذكر السيدات الوحيدات اللواتي يبحثن عمن يتحدثن معه. أي أن في كتابه صورة لعزلة الإنسان في المدن الغربية الكبيرة العصرية، حيث لا يعرف المرء حتى عن جاره شيئاً، وحين يلتقيه في المصعد يكتفيان بتبادل التحية وربما الحديث عن الطقس!
هموم السائقين لا همومي!
حينما لا تتحدث إلى السائق عن حياتك ولا تُبدي شهية لذلك سيدهشك أنه هو الذي سيحدثك عن حياته وعن نفسه. تكون أحياناً حكايته حزينة، وبالذات إذا كان من أصل عربي اضطر إلى مغادرة الوطن طلباً للرزق، وحين كبر الأولاد في مجتمع فرنسي تطبعوا بعاداته طبعاً. والشكوى الأولى من البنات اللواتي حين يكبرن يرغبن في الحياة كالفرنسيات ومصادقة شاب، والسائق ما زال ابن تقاليده في الوطن العربي، ولا يريد أن تسهر ابنته أو تنام خارج البيت، ويحاول أن يملي عليها قيماً عربية لم تكبر في ظلها. وقلت له إنه حين هاجر، كان عليه أن يتذكر أن ابنته ستنتمي إلى المجتمع الذي كبرت فيه محاطة بقيمه المختلفة. قال لي أحد السائقين من أصل عربي إنه يفكر بقتل ابنته، وقلت له إن (جرائم الشرف)، كما تسمى عربياً، غير موجودة في قيم البلد الذي هاجر إليه وناضل حتى حصل على جنسيته!
ذلك السائق الذي بهرتني حكايته!
قصص كثيرة سمعتها من سائقي التاكسي عن حياتهم على طول ثلاثة عقود ونصف عشتها في باريس.. بعضها مضحك كذلك السائق المسن العاشق لفريد الأطرش ويغني أغانيه متوهماً أن صوته كصوت فريد الأطرش، وأن روحه حلت فيه. وقضيت الطريق يومها وهو يغني لي «بساط الريح» لفريد، وحمدت الله على أعصابي الباردة الآتية من القطب الشمالي، وإلا لقلت له ببساطة: اصمت! ولم أحاول أيضاً إدهاشه بالقول من دون أن أكذب إنني أعرف معشوقه الفني فريد والتقيته للمرة الأخيرة في فيلا الأديبة السعودية سميرة خاشقجي في ضاحية بيروتية في سهرة اجتماعية ضمت الكثير من نجوم بيروت يومئذ.
صمتُ الراكب مفتاح لثرثرة السائق. ثمة سائق واحد روى لي قصة حياته وهو يوصلني من ضاحــــية نويي إلى بيتي، وتأثرت حقاً بها وبصدق نبرة صوته، وصدقته، وهـــو سائق وســـيم جداً من أصل جزائري اسمـــه محـــمد، عَبّر بسلوكه مع والدة زوجته ووالدها (وكلاهما تجاوز الثمانين من العمر) عن الأخلاق العربية الأصيلة.
حكايات أم منجم للروائيات والروائيين الشبان؟
أظن أن الكاتب الحقيقي هو الذي ينصت إلى معاناة الآخر، لأنه منجم مواد أولية روائية. وأخص بالذكر مثلاً ذلك السائق محمد. في بداية الطريق إلى بيتي حاول استدراجي للكلام عن نفسي ولم ينجح، وصار يكلمني عن نفسه بصدق. قال إن شابة فرنسية طالبة في المعهد الباريسي الشهير لإدارة الأعمال (H.E.C.) أحبته وأحبها وتزوجا، وكان ذلك ضد إرادة والديها، وأقاما معهما، فهي وحيدتهما، والبيت واسع من طابقين (فيلا) في أحد أفخم الأحياء الباريسية، وتابع عمله كسائق، ووجدت زوجته فلورانس بعد تخرجها عملاً في شركة كبيرة. صارت تعود ليلاً متأخرة بسبب العمل دون أن تكذب، ورفضت إنجاب طفل للتفرغ لعملها، وصارت تنال الترقيات وتغرق في النجاح وتزداد استغراقاً في عملها حتى إنه لم يعد لديها الوقت لاصطحاب والديها المسنين إلى الأطباء.. وصار محمد يقوم بذلك عنها، ويحضر لهما حاجاتهما اليومية، بل ويطبخ لهما.
وأضاف السائق: لقد استأجرت فلورانس شقة صغيرة في ضاحية (الديفانس) الباريسية قرب عملها كي لا تهدر الوقت في زحام السير جيئة وذهاباً، وكلــما ازدادت نجاحا ازدادت ابتعاداً عني وعن والديها… وتابع: وكانت صلتي الروحية مع والديها تزداد عمقاً وتمد جذورها في حياتي وحياتهما، وحين أقعدتهما الشيخوخة حتى عن المشي صرت أعاملهما كوالدي، وتعلقا بي، وحين حاولت فلورانس طردي من البيت بعدما طلبتْ الطلاق رفضا أن أغادر الفيلا، لأبقى معهما.
الأخلاق العربية التراثية الجميلة
قال لي محمد إنه كبر في الجزائر على احترام المسن، وأحب والديها وتعاطف معهما وأشفق عليهما من الابنة العاقة زوجته! وحين توفي والدها حضرت فقط جنازته ومضت بسرعة، وعلم بعلاقتها (الشخصية) بالمدير. توسلت إليه الوالدة أن يصمت عن ضعفها ومرضها لأن ابنتها تنوي إيداعها أحد بيوت المسنين الكثيرة في فرنسا، وتعتبرها قد صارت «نفاية بشرية»، لتبيع (الفيلا) الباريسية.
مخدر النجاح والعقوق!
وأضاف السائق محمد: من المدهش ما يفعله «مخدر النجاح» ببعض الناس، كما حدث لزوجتي، صرت لا مرئياً في نظرها.. مجرد مهاجر آخر في مهنة لا تُقارن بمهنة حبيبها الجديد مدير الشركة، الذي يتقاضى راتباً يزيد عما قد أحصل عليه طوال سنوات من الكدح..
أرى حكايته أقرب إلى الرواية الجاهزة للكتابة التي تجسد الأخلاق العربية، حيث لا يقول الشاب لوالديها أفّ ولا ينهرهما، كما تفعل ابنتهما فلورانس، بل يقول لهما قولاً كريماً، وهو ما فعله مع والدة فلورانس التي عاملته كابن لها.
أوصيا بالبيت له: أي بثلاثة ملايين دولار!
حين احتضرت الأم في المستشفى كانت فلورانس تزورها لدقائق، أما هو فظل إلى جانبها حتى رحلت.. وجاءت فلورانس تريد طرده من البيت، ولكن حين قرأ المحامي وصية الأم والأب تبين أنهما أوصيا بالبيت لمحمد، وحرماها من الميراث كما سبق وحرمتهما من البر بهما.
قلت للسائق: صرتَ ثرياً. فلماذا تعمل سائق تاكسي؟
أجاب: لأنني اعتدت هذا العمل وأحبه.
غادرت التاكسي وأنا ثملة برواية كتبها القدر وتُجسد الأخلاق العربية كما نتمنى لها أن تبقى..
*جريدة القدس العربي