نجم الدين سمّان: عَينـَا نِفِرتِيتِي

0

قال لي صاحبي:

– انظر.. هذه ألطفُ بنتٍ مصريةٍ رأيناها حتى الآن.

التفتُ إلى حيثُ أشار؛ قلتُ لصاحبي:

– هذه.. أجملُ عينين رأيناها حتى الآن.

صارت تدورُ بين الطاولات؛ تُسلِّم على مَعَارِفِهَا، تُرفرِفُ ضحكتُها فجأةً؛ حين يُباغتها أحدٌ بِنُكتَةٍ مصريّة طازجة، أو.. بتعليقٍ ظريفٍ يخصُّها.

عَبَرَتْ من طرف المقهى إلى الطرف الآخر، جَلَسَت على بُعْدِ طاولتين.. قِبَالتي تماماً، قال صاحبي: – هات… أَتحِفنَا؛ بماذا تُشبِّهُ عينيها؟!.

– عَينَا.. نِفِرتيتي.

لَوَى شفتيه، قلتُ.. وأنا أرمِقُهَا:

ـ عيناها.. تُعَانِيَان من فَرْطِ الأنوثة.

وحينَ قُلتُ جُملتي، وهي على بُعْدِ طاولتينِ منّي… التفتت نحوي، وكأنّها ضبطتني بالجُرم المَشهود.

العينان.. مِرآةُ صاحِبَتِهَا.

 رَنَّت ضِحكتُهَا، رَفَّتْ كنورسٍ بَحرِيٍّ في فضاء الخَيمةِ / المقهى الذي نرتادُهُ بعدَ كُلِّ جولةٍ في معرض الكِتَاب، قلتُ لصاحبي:

– وراءَ رَنَّةِ ضَحِكاتِهَا… حُزنٌ ثقيلٌ؛ كهذا الشاي.

نهضَ صاحبي فجأةً:

– أنا ذاهبٌ إلى سور الأزبكيّة، في رأسي عناوينُ كُتُبٍ قديمةٍ سأنبِشُهَا.

سألتهُ:

– حياتُكَ كُتُبٌ كُلُّها؛ هل تَجِدُ وقتاً.. لِتَقرأَ امرأةً من عَينيها؟.

   غادرَنِي وهو يضحكُ مثلَ طفل، تركني قِبَالةَ عينيها، أحسستُ أنها قد تنبَّهَت لِنَظَراتِيَ المُتوالِيَة، أمسكتُ بدليلِ نشاطاتِ المعرض، وكأنّي أتخفَّى وراءَه، قَلَّبتُ الدليل.. ثَمَّةَ أُمسيةٌ شعريةٌ بعدَ دقائِقَ في “خيمة عكاظ”.. لن أذهب؛ ما تزالُ عيناها قِبَالَتِي، عيناها.. شِعْرٌ؛ بماذا تُفِيدُني أُمسيةٌ يَحضَرُها الشعراءُ ولا تَحضَرُها عيناها؟!.

* – القاهرة… مُجدَّداً:

قالَ لِي صاحبي وقد نفذَ صبرُه:

– أين خِطَطُك، ماذا سنفعلُ خلالَ واحدٍ وعشرينَ يوماً هنا؟!.

قلتُ: – سَنَتُوهُ في شوارعِ الناس.

– لكنكَ مُرَابطٌ في المقهى منذُ يومين؟!.

– ليسَ ذنبي يا صاحبي.. إنها عيناها!.

رَبَّتَ على كتفي:

– لن تَجِيءَ هذا المساء، دَعنا ندخلُ ليلَ القاهرة من أوَّلِه.

– لكَ أصدقاءُ هنا؛ اذهب معهُم.. سأبقى.

بعدَ دقائقَ من مُغادَرَتِه؛ اقتحمَت عيناها فضاءَ المقهى.. هل لَمَحَتنِي؟!.

لكنّها جلسَت في أبعَدِ طاولةٍ عنّي؛ أعطتني ظهرَها وهي تَرشِفُ قهوتها وتشفطُ أنفاساً مُتتالية من لُفافةِ تَبغِهَا، غارقةً في صفحاتِ أحدِ الكُتُب.

شيءٌ ما.. جعلني أقِفُ، أذهبُ نَحوَها، أسحبُ كُرسِياً بهدوءٍ شديد، أجلسُ بِجَانِبِهَا تماماً.

لم يَرمِش لها جَفنٌ، تابعتْ قراءتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، مدَدتُ إصبعينِ لِأُمسِكَ الغِلافَ مِثلَهَا من زاويتِه الثانية..

يتجمَّدُ الكِتَابُ بيننا، لا هِيَ.. تُفْلِتُه، ولا أنا.. أُفْلِتُه، كأنَّهُ حَبلٌ.. ونحنُ في لُعبةٍ لا نبذؤها ولا تبذؤنا، لا أحدَ مِنَّا.. يَشُدُّ الحَبلَ باتجاهِه، يرتفعُ رأسانا، تلتقي عيوننا.. يقفُ المساءُ عند أطرافِ القاهرة، قَلبُهُ.. يُتكتِكُ، نَسمَعُهُ، وهو يُوْغِلُ في لَيلِهِ، فيتريَّثُ عندَ أواخِر النهار.

   أخيراً.. نَطقَتْ، سألتني: – إنت… عاوز إيه؟!.

بماذا يُجِيبُ رَجُلٌ دَاهَمَتهُ.. تلكَ العُذُوبَة؟!.

لم يَكَن بِمَقدوري.. حين أطفأوا قِسماً من إضاءة المقهى تنبيهاً على إغلاقهِ الوَشِيك، سِوَى أن أستسلِمَ وأتركَ لها الكِتَاب، تأخذهُ بين ذراعيها.. لِصْقَ نهديها تماماً؛ وكأنَّها تحتمي بهِ، أقِفُ.. أَحمِلُ كِيسَيِّ كُتِبِهَا، أنتظرُها وهي تُلَملِمُ أشياءَها من فوقِ الطاولة:

– اسمحِي لي، أَحمِل كُتبِكِ لِغايةِ أوتوستراد صلاح سالم.

تبتسم، تسألني بِمِزاجٍ مِصرِيٍّ رائِقٍ وسَاخِر:

– حَمَّال… حَضرِتَك؟!.

نضحكُ حتى بابِ المعرض، أفتحُ لها بابَ التكسي، تَجلِسُ في المقعد الخَلفِيِّ، أُناوِلُهَا الكُتب.

– شكراً.

تمضي بها التكسي وبعينيها.. في زَحمة القاهرة.

* – رسالة SMSمن القاهرة الى الشام:

   أيّها الطَيرُ المُسَافِر.. متى تُعلِنُ الهِجرَةَ إلى سَمَاءِ قاهِرةِ المُعِزّ؛ وَحَشتِنِي

مُشتاقة للتَوَهَان مَعَاك في وِسطِ البلد.                           

تاريخ الرسالة: ما قبل ثورة 25 يناير 2011.

* التَوَهَان:

قال صاحبي: – تعالَ نتناوبُ على بَيعِ الكُتُب في جناحنا السوري.

أجبتُهُ لِتَوِّي: – أُداوِمُ صباحاً في الجناح، لأُجَالِسَ عينَيهَا طوالَ المساء.

ذَكَّرني بِوَعدِي: ـ متى سَنَتُوهُ في شوارع الناس؟.

– بَدَأتُ التَوَهَان يا صاحبي، لكِن للأسف.. ليسَ معك.

 تأتيني كلَّ يومٍ بعدَ انتهاءِ عملِهَا بسندويتشاتٍ مَضمُونَة – كما تقول، نأكُلُهَا على عَجَلٍ في المقهى؛ إذا كان ثمَّةَ نشاطٌ مُهِمٌّ نحضرُه، نَتُوهُ بين أكداسِ الكُتُب في أجنحة دور النشر، نَنفَلِتُ فجأةً من مدينة المعارض كلَّها، لِنأخُذَ سَيَّارةَ أُجرةٍ نحو وسط البلد.

 ننزل في ميدان طلعت حرب… ونبدأ التَوَهَان، لكنّ الميدانَ يحتَشِدُ بأفرادِ الأمنِ المركزيّ من ثلاثِ زوايا؛ في الزاوية الرابعة يتجمَّع حوالي مئتي شابةٍ وشاب من حركة 6 إبريل يرفعونَ لافتاتِ ضدَّ التوريث وتفضح تزوير الانتخابات.. أسألُ نفرتيتي: – كل هدول الأمن؛ قُدَّام شوية صبايا و شباب؟!.

– خايفين.. يبقوا بالملايين!.

   نضحكُ.. نمشي بِدونِ هَدفٍ سِوَى أننا نتسكّعُ، نجلِسُ في أوَّلِ مقهى نُصَادِفُه.. كأنّما لنرتاحَ بين جولتين، تُرافقني عيناها في زَحمة القاهرة، نضحكُ، أقرأُ لها جِزءاً من سَيرُورَتِي، تحكي لي صَيرورَتَهَا، تُدَارِي حُزنَهَا الراسخَ فيها بحكايةٍ طريفةٍ تِلوَ حكاية؛ كأنّها تَهرُبُ من شيءٍ أو شخصٍ لا تريدُ أن تهرُبَ منه.. أَهمِسُ لها:

– عيناكَ مَخلُوقتانِ للفرح.. يا أميرتي.

   تبتسمُ، تتأبَّطُ ذراعي بينما يُوغِلُ الليلُ في جسدِ القاهرة، تتذكَّر أنها بدأت تجوع، فأتذكَّر أَنِّي مِثلُهَا، ثُمَّ نَرشفُ على مَهلٍ… بيرةً مصريةً باردة، تضعُ كأسها؛ وفجأةً.. تسألني: – إنتَ عَاوِز مِنِّي… إيه؟!.

يُفَاجِئُنِي سُؤالُهَا بينما أنا غَارِقٌ في ليلِ عينيها الفرعونيتَين؛ تخونني الكلمات.

أحياناً.. نعرِفُ من الكلماتِ أكثرَ ممَّا ينبغي؛ وحينَ نحتاجُهَا.. تَفِرُّ من حَناجِرِنا كَسِربِ طُيورٍ مذعورة؛ ثمَّ قال أحدٌ في داخلي.. بالنيابةِ عنِّي: – لا أعرف!.

– لماذا أتيتَ إذاً.. إلى القاهرة؟.

أجبتُها أنا.. هذه المَرَّة: – لأُوقِّعَ بروتوكولَ صداقةٍ مع عينيكِ.

تضحكُ: – نروح بَقَى.. نحضر الملك لير؟!.

 بعد العرض… أُوصِلُهَا بالتكسي إلى بيتها، تعودُ بِيَ السيارةُ إلى شقّتي قِبَالةَ مدينةِ المعارض.

* القاهرة… بعد عينيها:

  مع كلِّ مساءٍ.. ينحسِرُ عن رموشِ القاهرة زحَامُها، ترتفعُ عن رئتيها.. سحابةٌ سوداءَ من التلوُّث، يبدأ هواءٌ طريٌّ باردٌ.. بِمُغازلتِهَا بعد مُنتصفِ ليلِهَا؛ ثمَّةَ.. بقايا عُشّاقٍ من زمنِ “الوسادة الخالية” يتخاصرونَ على كورنيش النيل، عيناها.. بجانبي على الدوام، التقطُ أصابِعَهَا مِنَ التَوَهان الذي في داخلها؛ وربّما.. مِنَ الذي في داخلي.

  في الهواءِ.. نَكهَةُ رطوبةٍ طارئِة؛ نركضُ وراءَ عربةِ “حنتور” يَجُرُّهَا شِبهُ حِصانٍ مُتعبٍ… وهزيل، نتعلّقُ بأطراف العَرَبَة.. كما لو أننا عِيَال صُيَّع، يُحِسُّ بنا الحُوذِيُّ أو حِصانُهُ.. فيتمهّلان، نجلِسُ، نستقِرُّ، يُبادِرُنا الحوذيُّ بأغنيةٍ ترحيبيةٍ من مُسَجِّلةٍ مُثبتةٍ على قَفَا حِصانِه:

حَ اركَب الحَنْتور… واتْحَنْتِر“.

كأنَّ الأغنيةَ صارت نشيدَهُ الوطنيّ.

   ما أن يَعبُرَ بنا الحنتورُ نِصفَ كوبري عبَّاس حتى يختلطَ إيقاعُ حَوَافِرِ الحِصان على الإسفَلت؛ بإيقاعٍ آخرَ يتسارعُ وكأنَّهُ نقراتُ عُصفورٍ جائع.. يغسِلُنَا مطرُ “فبراير” شُبَاط؛ يغسِلُ الحصانَ من أُذُنَيهِ وعُنقَهِ حتى أقدامِه؛ قال الحوذيُّ وهو يتَّقِي المطرَ بكيسِ نايلون.. دَسَّهُ في رأسِهِ؛ أو دَسَّ رأسَهُ فيه:

– بَرَكَة.. يا سيدنا الحسين.

صار الحصانُ.. يَخبِطُ في بُرَكِ مِيَاهٍ تجمَّعت على الفَور؛ التفت الحوذِيّ نحونا: – ما شفتش مطر قَدِّ كِدَه.. مِن ثلاثين سنة.

همسَت عيناها: – لا تستطيعُ القاهرةُ احتمالَ مطرٍ.. كهذا.

همستُ لها: – وأنا لا أستطيعُ احتمالَ عَينيكِ.

– اختِشِي يا وَاد.

سألنا الحوذيُّ: – رايحين.. فِين؟!.

   بدا لنا سؤالُهُ تراجيدياً جداً.. وَسَطَ هذا الطَقسِ العاصِف، بَدَلَ أن نضحكَ، أخذنا.. نَخترِعُ لهُ عناوينَ وَهمِيّةً لِيذهبَ إليها، ثمَّ نبتكِرُ لهُ أسفاً بعد أسَفٍ.. لأننا تَوَّهنَا في العنوان.

نطقت عيناها بآخرِ عنوانٍ لم يسمعه: – إحنا رايحين في.. التَوَهَان.

توقَّف بنا في منتصف شارع 23 يوليو، التفتَ نحونا:

– يا باشا، يا هانِم.. الحِصَان تِعِب، والحِمَار اللي سَايقُه.. تِعِب، إنتو مُش رايحين لأيِّ مكان.

ثم هَمَزَ حِصانَهُ ومضى دونَ أن يسألنا.

أخذَ المطرُ يهدأٌ.. ونفُوسُنُا، أخذتني مِن أصابعي.. بينَ أصابِعِهَا:

– هو المكان.. إيه؟.

– المرأةُ.. مَكَانُ الرَجل.

– والزمان؟.

– الرَجلُ.. زَمَانُ المرأة.

   اخترقَ الحِصَانُ بِنَا الشوارع َالناعِسَة… تثاءبَت عيناها، رُبَما مِن إيقاعِ حَوَافِرهِ المُتعَبة، اتكأتا على كتفي، غرقنا في نومٍ هانئٍ… هادئٍ… عميق.

غداً… سوف يَرِنُّ جِهَازُ الكَشفِ بالأشعّةِ، ويَستَنفِرُ مطارُ القاهرة..

حتى.. لَو فتَّشونِي ألفَ مرَّةٍ، لَو.. جَرَّدُونِي من ثيابي؛ فلن يكتشفوا بأنِّي خَطَفتُ عَينيَّ نِفِرتيتي؛

مُّذ اتكأت على كتفي.. بعينيها الناعستين.

لوَّحَت عيناها لي في صالةِ المطار؛ صَعدتُ إلى الطائرة..

 أهلاً.. دمشق، إلى اللقاء أيتها.. القاهرة!!.

*- دمشق: آذار \ مارس 2007.

* نهاية.. لا بُدَّ منها:

لا أُؤمِنُ بأيَّةِ نهايةٍ سِوَى.. الموت.

   ولهذا.. فما أن مضَت خَمسُ سنواتٍ على زيارتي لِمَعرضِ القاهرة الدوليّ للكِتَاب 2007؛ حتى اندلعت ثورة 25 يناير 2011 في مصر؛ كُنتُ مُتَسَمِّراً أمامَ شاشةِ التِلفَاز ليلةَ 28 يناير – كانون ثاني؛ فرأيتُ البلطجيّة يُهاجِمُونَ شبابَ ميدانِ التحرير..

   مِن حيثُ لا أدري تناولتُ هاتِفِي النقَّال واتصلتُ بنِفِرتيتي.. لم يأتنِي جوابٌ؛ أرسلتُ إيميلاً.. عاودتُ الاتصالَ يومياً ولا.. جواب؛ ما كدتُ أيأسُ حتى أتاني صوتُها.. قلتُ لها: – نفرتيتي.. إزيِّك؛ انشغل بَالِي عليكِ؟!.

– كُنت في التحرير.. أنا لِسَّه في التحرير.

ثمَّ صمتَت.. قلتُ بِلَهفةٍ: – نفرتيتي.. شو القصّة؟!.

– ضربني بَلطَجِي على عِيني؛ رُحتِ المَشفى.. يِمكِن مُش حَشُوف مَرَّه تانيه.

–  هادا البَلطجِي حُمَار.. عِينيكِ عَندي في الشام.

سمعتُ شيئاً مِن ضِحكَتِها وَسطَ الهتافاتِ التي مِن حَولِهَا في الميدان؛ ثمِّ انقطعَ الاتصال..

*- أضفتُ هذا المقطعَ لِقِصَّتِي.. في دِمَشقَ 2011 خلال مَخاضِ الثورةِ السورية.