في تلك المحطة التي توقفت فيها قطارات آتية من الشرق والغرب، نزلنا، وشربنا الشاي، ومشينا، وتعرفنا إلى الكهل على كرسيّه المتحرك، وابنته التي تدفع الكرسي، والعسكريّ العائد من الحرب، والعسكريّ الغرّ، والرجل الوسيم بنظارته السوداء. كان مساء مكحّلا بغيوم خفيفة، يدفعها هواء بارد، خفّفت من برودته وشدّته، محلات المحطّة في تلك الواحة. وبدا مشهدا ساحرا لا يتكرّر، وتمنّى الجميع أن تتعطّل القطارات إلى الأبد. وتوهّمت أن الشاب – الذي قرأ لي مقطعا من قصيدة قديمة – كان معي في الرحلة ذاتها، وأنّ باعة الـ»تسالي» من أبناء الواحة. قبل أن تصفّر القطارات، جمع الراوي الغيوم والمساء في جرابه، وذهب مع العساكر والرجل المريض في قطار الشرق نحو المدن القديمة، وركب الرجل الوسيم والشاب غاوي الشعر والفتاة وباعة الـ»تسالي» في القطار الذاهب في الجهة الأخرى.
لم تكن ثمة خيانات، هكذا كنت أفكّر، ففي الجهة التي أيمّم ثمة فرصة للعيش، هناك من يشتري الحكايات، ويدفع جيّدا، وثمة وجع صغير في كلّ شارع يحتاج إلى «بيدرو بارامو» جديد، يعيد للعجائز متعة الحكي، لكنّي كنت ألمس خيبة أمل صغيرة، تكبر وتصغر، وتكبر وتصغر، حين أفكّر في الشاي الذي شربته في المحطّة، ولماذا لم أسرق عدّة الشاي مثلا، أو أشتريها – حتى – فلا رواية دون شاي (هكذا قلت وهززت رأسي). فيما العسكر والمريض يشتمون الغائبين، وأحيانا يتبادلون الشتائم، كنت أقول لنفسي، سأفتش البيوت المهجورة حتى أجد إبريقا وكؤوسا وسكّرا، ولو كلّفني ذلك أن أبحث عنه جميع البيوت.
٭ ٭ ٭
«قال لي ونحنُ نقطع الليل البهيم: «مصيبة بالمال ولا مصيبة بالعيال» ثمّ أكمل: «مصيبة بالعيال ولا مصيبة بالعرض» فتطايرت أمامي مشاهد لا يصمد فيها إنسانٌ سويّ، لم تكن تلك الأخبار كاذبة، مشاهد الاغتصاب وأخبار الذبح على الهويّة، أإلى هذه الدرجة مسّتنا اللعنة؟ كنت أعددت قراءة عن فيلم تسجيلي عن الاغتصاب في بوروندو، لقناة معروفة، وأعرف أو أزعم أني أعرف ما يعنيه الاغتصاب للشرق، عندما «تبرد السالفة» وأحسست فجأة ببرد، ثم أكمل الرجل جملته الأخيرة: «مصيبة بالعرض ولا مصيبة بالدين».
كانت أسماؤنا تنتظرنا كلّما مررنا بحاجز، حواجز كثيرة على الطريق الممتدّ في وجع الليل، حواجز مهجورة، وحواجز مليئة بالمتسولين، وحواجز يملؤها عسكر مشوهون، لكنّ القطار كعادته يتهادى أمام متاريس الحرس بصفير مكتوم بارد، حواجز برايات ملوّنة حمراء وصفراء وخضراء، رجال ونساء وأطفال أحيانا، يتفقدون قطار الشرق ببواريد محشوّة بالموت.
كان الرجل المريض يقترح عليّ أن نلعب لعبة الانتظار، فيسمّي ثلاثة أشياء، ويسألني ماذا ينتظرون؟ أو ما النتيجة؟ «رجال – ليل- رصاص؟ «معركة» نساء – ليل- رصاص «أرامل» شدّتني اللعبة أوّل الأمر، ثم أصابني ملل مفاجئ في تكرار شيء يشبه الوعظ، ونحن في الليل الطويل، ذلك الليل جنّة المطاريد والقتلة وأمراء «الهجمات المرتدّة» فقلت له بخبث، حدثني عن شبابك، تلك الأيّام «الحلوة» والشبابيك المثبتة في الجدار الغربي من البيت. ولم يكن الشيخ بهذه السذاجة التي تمنحني وتمنح القارئ استراحة قصيرة، نلوذ فيها بفيلم قصير، لكنه كان طيّبا أيضا، طيبا بما فيه الكفاية ليساعدني على تجاوز هذا الليل اللعين.
قال لي هل تدخّن؟
«أذكر أنني دخنت مرة أو مرّتين فترة طويلة في حياتي»
قلت له: لا بأس
لكنه دخانٌ ثقيل «قال متحدّيا» لم أرَ عينيه تلمعان في وجهي، لكنّي سمعت نبرة التحدّي في صوته المتهدّج.
بالضوء الشحيح في المكان، شاهدت الرجل المريض يخرج صرّة من «عبّه» ويلفّ سيجارتين، لم تكونا سيجارتين مثاليّتين، لكنّ رائحة التبغ ملأت أنفي، فمدّ لي يده بإحداهما، وقال لي انتظر ريثما يشتعل رأسها جيّدا. ولم أكد أخطف نفسا حتى قال لي: «اطفئها، عند الفجر، ستشرب بقيتها مع الشاي». اعتذرت للشيخ وقال لي آمراً هيا نكمل اللعبة: «سكّر- شاي- سجائر» ماذا ننتظر؟
وضحكنا معا، ونسينا للحظات طويلة – خيّل لي أنها لا تنتهي – الحرب والخرائب والقطارات.
٭ ٭ ٭
حين تمدّد لينام، كان عفيّا، ولم تبدُ آثار الإعاقة عليه، وقلت لنفسي: «كيف يمكن له أن يتمدّد هكذا ويحرك قدميه وهو معاق؟ في المحطة الكبرى كانت ابنته تدفع العربة، دفعا، وكان يمكن له الذهاب في قطار الغرب، أوراقه ومرضه وسنّه.. كلّ هذه تجعل هجرته ممكنة. كيف لم أفطن إلى ذلك.
كانت نجوم تشرين وحدها على خدّ الليل في الصحراء، كان الثريّا والميزان ساهرين، ونجم القطب ثابتا على حاله، أراها أحيانا في انعطافات الطريق المديد، ومن بعيد تبدو أضواء باهتة تودّعنا وتسلّمنا لأضواء جديدة.
قبل ثلاثين سنة، كنت أقضي الصيف مع أهلي في مزرعة، دون كهرباء، كنّا نستريح من ضجيج الأضواء والتلفزيون، واستعرت كتابا يتحدث عن النجوم، عرفت بعضها.. مجموعة العقرب مثلا، تلك التي في الجنوب، تظهر قليلا بعد غروب الشمس، ومجموعتي الثريا والميزان ونجم القطب، والدب الأكبر والدب الأصغر.تململ الرجل المريض، كان الليل يودّع الصحراء، فيما القطار القديم يعبر مدينة أخرى قديمة، تمنيت لو أنّ صديقيالشاعر معي الآن في الرحلة، ليحكي لي قليلا عن جامع بنقوسة، وجب القبّة، وباب النصر. كان العجوز قد استيقظ تماما وقال لي مبتسما: إنّه الفجر.
أخرج من «عبّه» كيسا صغيرا، فيه صُرَر أصغر، ففتحها بهدوء، وأشار إلى حقيبته، فأتيته بها، ففتحها وأخرج منها، إبريقا، وقارورة ماء، وسخّانا صغيرا. شعرت بأننا «بدو رحّل» فعلا، وتراجع شعور العجز الذي ظلّ يراودني زمانا، سكب لي في علبة معدنية نظيفة، وقال لي: «أين سيجارتك؟»بعد أن رشف الرشفة الأولى، نظر إليّ، كان بياض الفجر قد فسّر بعض الغموض في أحاديث الليل، وكنت مستعدا لاقتراحٍ جديد.
قال لي: « كأنك تستغرب من صحّتي وعافيتي».
حاولت طرد الارتباك، وسألته؟
– لماذا تركت ابنتك وحيدة؟
لم أكن أنتظر جوابه، بقدر ما كنت أبعد نفسي عن دور من يتلقى الأسئلة، هذا شقاء ما بعده شقاء، أعرفه منذ كنت أقف أمام أبي، حين يؤنبني لخطأ ما. ومنذ انتظمت في الدراسة سنين طويلة، لكنه أعفاني عن الجواب، ولم يجب أيضا على سؤالي، فقد فتح الحقيبة مرة أخرى، واستلّ منها رغيفا، قسمه بيننا، ومدّ إليّ نصيبي.
– بعد أن تنتهي من سيجارتك، املأ معدتك بشيء مع الشاي.. في المدن القديمة لا تسأل هذا السؤال، أو لا تسأل الذاهبين إلى المدن القديمة هذا السؤال. تعال نلعب لعبة جديدة؛ لا بدّ من أنك قطعت شوطا في التعليم، وتجيد أكثر من لغة.
– كنت أتقن الفرنسية قليلا، ثم نسيتها، لكنّي أعرف بعض الكلمات.
– هذا لا يهمّ.
– أشعر بأنني خسرت، ولم يعد أمامي عمر لتعلم لغة جديدة.
– ولهذا لا تريد الهجرة؟
– لم أفكر بالأمر هكذا، لكن ربما كان هذا سببا، البدايات الجديدة مقلقة.
– الشباب لا يفكّرون هكذا.
«لم تشرق الشمس، لكنّ المشاهد الجانبية واضحة للناظر من القطار، فضح الصباح ما ستره الليل من البلاد التي أصيبت بلعنة الحرب، وبدا حديثي مع الشيخ أكثر متعة، فيما قرص الشمس يولد بنزق في ذاك الشفق بين الغبار والدم والخرائب.
٭ ٭ ٭
القطار يسير على مهل في صحراء، غير أن بقايا القرى تبدو كثآليل تتنفّس ببطء، ثمة قرويات في البعيد رفقة دوابّ وطيور داجنة بين الحين والآخر، وثمة أعشاب تائهة في كلّ مكان، فقد كانت أيّام المظّلة (أواخر أيلول/سبتمبر وأوائل تشرين الأوّل/أكتوبر) مطيرة، ومستنقعات مائية هنا وهناك. وأمام الحواجز المتعبة لا تخطئ العين صبية أمام أكياس المعونة يبيعون ويشترون؛ فقد كانت هذه هي التجارة رائجة مع بيع النفط المكرّر محليّا. كان الشيخ ينظر إلى البعيد ويترنّم بأغنية غامضة المعنى، ثم ارتفع صوته بأغنية كردية لم أفهمها جيّدا، رغم أني اصطدت بعض الكلمات، لكنّ اللحن وصوت الرجل منحاني سلاما داخليّا، وأدرك الشيخ ذلك فزاد. ومرّت في البال صورة البيت، وأصدقائي الكرد الذين علّموني بعض كلماتها.
قلت له وكأني اكتشفت شيئا:
– كردي؟
ولم يجب كعادته، وظلّ يغنّي
– الأكراد والعرب مساكين يا صديقي الشابّ.
ولم ألحّ عليه في السؤال، وتركت للأغاني والظهيرة المتدثرة بالغيم أن تعبثا قليلا في تقليب ذكرياتي. مدرستي الإعدادية وطلاب القرى العرب والكرد، مدرّسونا الكرد، الحارة التي يتقاسمها الكرد والمردليّة، السوق، والنهر، والانقسامات الأخيرة.
ـ بعد قليل سنصل الدير، سأتركك وأنزل.
تملكني شعور بالقلق والإحباط والخوف، ونبتت محبة طارئة في قلبي لهذا الكائن الغريب
– بيتك في دير الزور؟
– ليس تماما، ربّما وجدتني أمامك في الحسكة، خذ هذه عدّة الشاي، وهذه بضع سجائر، أعرف أنّك لا تدخن، عرفت ذلك من «مسكتك» للسيجارة، لكنك مشروع مدخن.. وقبل أن يتوقف القطار تماما، مازحني:
– عجوز – خرابة – قطار.. ماذا ينتظرون؟
ولم أضحك هذه المرّة، ولم يقل العجوز النشيط شيئا.. ونزل.
٭ ٭ ٭
«حين نزل، كانت ثمة دراجات نارية تقترب من النازلين تساومهم، ذكرتني بأيّام كان القطار يتوقف هنا، وكنت أتابع أصحاب السيارات الخاصة يصرخون: «ساحة ساحة غسان عبود غسان عبود» وباعة بذور دوّار الشمس يبيعون بضاعتهم الملفوفة بمخاريط ورقية، وباعة سندويش البيض المسلوق أو المقالي، كنا نصل الدير قبيل العاشرة صباحا، متجهين إلى الرقة وحلب، في رحلات رخيصة الكلفة، قبل أن تزدهر رحلات باصات البولمان و»الفوكسات البيضاء» التي اختصرت الوقت، وبات اختلاطنا بأهل الدير قليلا.
– قلت لنفسيمن يصنع للرجل بامية في هذا الوقت، وابتسمت، وربّما خفّف عليّ هذا من فقدي له.
ثمة من يصعد كذلك، رجال بأذرع مشوّهة، موظفو منظمات دولية، صبية حسناء، عرفت أنها لبنانية من لهجتها، مع مجموعة صغيرة، يحملون حقائب مميزة، يرتدون لباسا عليه شارة الأمم المتحدة، يتكلمون الإنكليزية بلكنات مختلفة، تشي ملامحهم بأنهم جاؤوا من أكثر من بلد، شابّ أعمى تقوده أمّه، أطفال بأسمال واضحة يسعلون من البرد، رجل عفيّ يلفّ كوفية «سمنيّة» ويحمل كيس إعانة، من الواضح أنه كيس فاصولياء.
يُحدِث جماعة الأمم المتحدة جلبة واضحة في العربة، يضحكون ويتبادلون الأماكن. اعترتني غيرة على البنت اللبنانية التي كانت تفلت منها كلمات عربية، قلت لنفسي ربّما كانت مترجمة، وربما طبيبة في «أطباء بلا حدود» وربما.. فتشت الصرّة الصغيرة التي أعطاني إياها الرجل الكهل، وفوجئت بجواز سوري أسود ومعه أوراق أخرى، وقرأت في الصفحة الأولى جانب صورة رجل بعينين حادّتين، وابتسامة مقتضبة، تُظهر أنّ الصورة التُقِطت على عجل، وربّما التقطها مصوّر شاب «يترزّق» جانب دائرة الهجرة والجوازات في محافظاتنا «النامية.
– جورج حنا بهنان، 1953، اسم الأم: نجيبة
قلت لنفسي، ربّما يتعرّض لمشكلة بسبب الجواز، ولا بدّ أن أعيده إليه.
شيء أشبه باللغز، لا أعرف عن دير الزور إلاّ مروري العابر بها، وفريق الفتوة المشاكس، وكراجاتها، كنا نمرّ بها وجه الفجر فنرى الناس يتمشون عند النهر الذي ينقسم إلى شطرين، تحت الطريق. لا أعرف إلا لهجة أبنائها الطريفة، التي تعرفتها على مراحل أيّام الدراسة والجيش والغربة، وعن حاراتها القديمة: «الحميدية، والحويقة، والعمال». زرتها مع صديقين من التبني ومعدان، تجمعنا لزيارة صديق آخر في «خشام». كان ذلك من زمن بعيد، بعيد جدّا، كان يوم جمعة، وبحثنا عن مطعم لنأكل، ولم نجد غير مطعم وحيد فتح عصر ذلك اليوم. نزلت، والتمّ حولي أصحاب الدراجات النارية، ولم أشمّ فيها رائحة الدير، اييييييييه يا الدير: «لا شكون، ولا أخوييييي» وتركني سائقو المحطة، وأخذني الطريق إلى المدينة الغريبة، طرقات ترابية، وسيارات شحيحة يقودها ملثمون، ومرافقون يحملون رشاشات، ومن بعيد ثمة سوق، سوق صغيرة اجتمعت فيها أسواق الماشية، ودكاكين البقالة، ومطاعم فقيرة ترتفع منها رائحة الشواء والطبخ، ورجال ملتفّون بمعاطف الفرو البدوية، وآخرون يستندون إلى الجدران، وسيّدات يخبزن على صيجان في مكان قصيّ عن ساحة السوق. كانت الظهيرة تودّع الساحة حين كنت أبحث عن العمّ جورج، في الدكاكين والمطاعم، وكدت أفقدت الأمل، لولا أن لمحته ساهما في مطعمٍ في الزاوية البعيدة، وقد أدار ظهرة للباب، ينتظر شيئا ما، وتمالكت نفسي من الفرح، وغافلته وقد وضعت في وجهه جوازه القديم:
– جواز، محطة، دير الزور.
– شكوووووووووووووووون، وقام شبه مجنون
وعانقته، وكأنّ شيئا ما كان يغسل القلق، في مواجهة مصائر مجنونة لا تروّضها الحكايات.
*القدس العربي