موفق نيربية، سياسي وكاتب سوري، رئيس المنتدى الأوروبي السوري الديمقراطي.
مجلة أوراق- العدد 15
أوراق الدراسات
تحرص البيانات والاتفاقات الخاصة بسوريا وعمليتها السياسية أو الدستورية على أن تذكّر دائماً وأولاً بوحدة الأرض والشعب والسيادة، إضافةً إلى اشتقاق الاستقلال والاستمرارية أيضاً من تلك الوحدة المثلثة. فيما يلي محاولة لتقليب الأمر في هذه المقالة، بالارتباط مع الشرعية أولاً، ومع مفهوم التجانس وتنويعاته ثانياً.
قبل هيمنة الحداثة، كانت الدولة في العصور الوسيطة تقوم على سلسلة الولاءات الشخصية، المتداخلة مع الدين والقَبَلية والسلالات والإقطاع وغيرها. كان احتكار السلطة متمركزاً وأقلّ تحديداً. في حين جاءت الدولة الحديثة بمؤسساتها بعد ذلك، منطلقة أيضاً من احتكار العنف الداخلي والخارجي، ولكن بشكل تزايدت حدوده ومحدّداته من خلال الدساتير والقوانين. ثم تبلورت وحدة الأرض والسيادة والسكان، مع هيمنة” عقيدة العناصر الثلاثة” هذه في علم الاجتماع السياسي في العصر الحديث.
لاحقاً، صار لتلك العناصر الثلاثة مركز أساسي في دراسات “الشرعية”، النظرية أو المتعينة أو فيما يخص دولة محددة ونظام حكم ما.
في حالتنا السورية، كان النظام السوري معتمداً على السلالة أولاً، ثمّ على العشائرية والطائفية في تأمين سيطرته واستقراره، مروراً بتأمين كتلة محدودة ولكن فاعلة من المعترفين بشرعيته وهيمنته. وحين انفجرت الأحوال مع ثورة 2011، لجأ على الفور وبشكل صريح إلى تدمير الوحدات الثلاث: الأرض والسيادة والسكان. ومع عملية التحطيم هذه، تراجع حجم تلك الكتلة البشرية- محلياً ودولياً- التي تقرّ بشرعيته إلى حدود أدنى، وعوّض عنها بأشكال تعود إلى العصور الوسطى في طريقة تحشيد المدافعين عن وجوده واستمراره أو مستقبله.
من الواضح أن نظام الأسد وسياساته المتوحشة، بالتداخل مع السياسات التطبيقية للدول الداعمة للتغيير بعد بداية الثورة، وخصوصاً من بين الدول الإقليمية، قد لعبت الدور الرئيس في تفتيت وحدة الأرض السورية، وتحويلها إلى موزاييك من مناطق ثلاث أساسية وأخرى فرعية لا تُحصى بسهولة أبداً.
أما فيما يخصّ مفهوم السيادة، وبغضّ النظر قليلاً عن الجانب الخارجي منها؛ الذي يمكن بناؤه ولو بشكل محدود من خلال دول داعمة كروسيا وإيران والصين، إضافة إلى تحفّظ الدول المعترضة على الأسد ونظامه أيضاً، ولكنها تحفظ للدولة السورية بعض مقوماتها دَرْءاً لانهيارها بضجيج كبير؛ فإنّ النظر إلى الوضع في المناطق التي تقع تحت سيطرته، ورؤية تعدّدية السلطات المحلية من ميليشيات وعائلات وعشائر وأمراء وتجّار حرب إضافة إلى بؤر مهمة للروس والإيرانيين وحزب الله، يصل بسلاسة إلى استنتاج تفسّخ تلك “السيادة”، إضافة إلى تراجع احتكار العنف بقوة… وبالطبع لا “يسود” النظام باعتباره سلطة الدولة المعنية في شمال- شرق وشمال- غرب البلاد. وإذا أضفنا السماء إلى الأرض لتحديث المفهوم، يظهر أيضاً أن النظام لا يسود سماء سوريا عي الإطلاق، بل هو الأضعف قياساً إلى الهيمنة الروسية والأمريكية والإسرائيلية والتركية.
كذلك لم يقصّر نظام الأسد في تمزيق السيادة الوطنية في الاتّجاهين الداخلي والخارجي، على الرغم من لجوئه إلى المفهوم دائماً ليطلب من الآخرين أن يُخلوا بينه وبين شعبه ومقدّراته ليفعل بهما ما يشاء، قتلاً وقمعاً وتدميراً. فهو قد أنهى ما يمثّله مبدأ احتكار الدولة للعنف الحيادي والقانوني، لحساب عنفٍ وحشي وشخصي وطائفي أو إثني، وعصبوي في كلّ الأحوال. كما أنه قام بتوكيل جماعات أهلية وميليشيات أجنبية بممارسة العنف الذي ضعفت قدرته على تنفيذه. أما السيادة الوطنية بالعلاقة مع الخارج، فقد أنهاها أيضاً لحساب الروس والإيرانيين وقوى أخرى هجينة كحزب الله، وكان له الدور الأول في إفساح المجال للوجود العسكري الأمريكي والتركي والإسرائيلي أيضاً، وفي واقع الحال، الأمر الذي لم ينه استقلال البلاد وحسب، بل جعل استعادته بشكلٍ كامل في منتهى الصعوبة والتعقيد.
إلّا أن الأنكى هو ما صدر عن النظام بشأن العنصر الثالث: السكان. هؤلاء تعرّضوا لتهجير سبعة ملايين تشرّدوا في الأرض خارج بلادهم، وربّما مثلهم تشرّدوا في الأرض خارج مواطنهم، داخل بلادهم. وأحكم تمزيق وحدتهم بكلّ وسائل الممارسة العنصرية دينياً وإثنياً، بالإرهاب والتهجير والهندسة الديموغرافية، حتى يزيد على الناس صعوبة ترميم الفتق ورتقه في المستقبل. وفعل ذلك بقتل وتعويق مئات الآلاف، علي الأقل، وتدمير جزء كبير من مساكنهم الأصلية. وهاهم الآن من بقوا في داخل الحدود موزّعون على مناطق ثلاث، يعمل كلّ الوسطاء والمتدخّلون حالياً على تثبيت الحدود والفصل بينها. ويفعل الاجتماع والاقتصاد السياسي وعلم النفس الاجتماعي جميعاً على تعميق الفروق في مواصفات العيش في تلك المناطق، إضافة إلى مفعول سلطات الأمر الواقع هنا وهناك، التي تؤسس وحدة جديدة لسكانها… على هواها.
بتدميره لعناصر الدولة الثلاثة، أنجز النظام بنفسه تعريض شرعيته؛ المتحققة بما بقي له من عضويته في الأمم المتحدة؛ للخلل، معتمداً على شرعية بديلة مستندة إلى الغلبة والعنف الفاجر ومعادلات الصراع الإقليمي والدولي على ما بقي من البلاد ومقوّمات وجودها. وقد اعترف الأسد بلسانه بمسؤوليته عن كلّ شيء عندما تكلّم عن “التجانس” الذي حققه بحربه على شعبه.
قال الأسد في آب 2017 مرتجلاً؛ بعدما اعتقد أنه انتصر بشكل نهائي وحسم الأمر: “… خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والكثير من العَرَق لأجيال… صحيح… لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحةً وأكثر تجانساً بالمعنى الحقيقي وليس بالمعنى الإنشائي أو بالمجاملات!”.
يقول كارل شميت، فيلسوف النازية، في الثلاثينات من القرن الماضي: “التجانس هو أكثر الافتراضات والأسس التي لا غنى عنها لمفهوم القيادة السياسية للشعب الألماني الموحد. إن فكرة العِرق … ليست افتراضاً خاملا من الناحية النظرية. بدون أساس من التجانس، لا يمكن للدولة القومية الاشتراكية أن توجد، وستكون حياتها الشرعية غير واردة … تتقاطع جميع الأسئلة والأجوبة مع مطلب التجانس، الذي لا يمكن من دونه أن تعيش (الدولة القائدة) ليوم واحد”.
لم تكن مجرّد زلّة لسان من بشار الأسد- أو حذلقة غبية- على الإطلاق، بل هي نوع من انكشاف المستور! والذي هو حقيقة أن السلطة الأسدية كانت دائماَ تعمل على تطبيق نظام معايير غير متجانسة على مجتمع متنوع بدوره غير متجانس، وحين أثبتت الثورة السورية فشل تلك السلطة وحتمية تفككها وتحلّلها، لجأت إلى الخيار الصفري، خيار تحويل المجتمع نفسه إلى حالة متجانسة بالقتل والتهجير. في حين أن الدول الحديثة كلّها تقوم على نظام معايير متجانسة (Homogeneous) لمجتمع متنوع وغير متجانس (Heterogenerous).
في 22 آب/أغسطس من عام 1933 الحاسم، قبل قليل من استفتاء أعطى سلطات استثنائية لهتلر، استشهد هايدغر في رسالته الحميمية إلى كارل شميت تعليقاً على كتابه “مفهوم السياسي”- وكانا كلاهما من كبار المفكرين في الحزب النازي- وقال: “إن الثورة القومية- الاشتراكية ليست مجرد استيلاء على السلطة الحالية في الدولة من قبل قوة أخرى نمت بما يكفي لتقوم بدورها. من أجلها، ولكن هذه الثورة أيضاً قد جلبت الانقلاب الكامل لتعيين الوجود الألماني”.
وبالمناسبة، وعلى الرغم من كون هايدغر أحد أهم فلاسفة القرن العشرين وخصوصاً في حقل الفلسفة الوجودية والظاهراتية والتأويل، إلّا أن رجوعنا إليه هنا هو على خلفية دعمه للانقلاب الهتلري، ولدعاوى التجانس الاجتماعي النازية أيضاً. وهو أشاد كثيراً وفرح باستشهاد شميت بهيراقليطس وقوله “إن الحرب هي أبو كلّ شيء، ومَلِك كل شيء. إنها تثبت أن البعض آلهة والبعض الآخر مجرّد بشر، وتجعل البعض عبيداً والبعض الآخر أحراراً …”.
افتراضات بشار الأسد نافلة وعنصرية محضة، وبالفعل، لا يستحق الأمر كلّ هذا العناء!