عمر قدور: وداعاً أوكرانيا..وداعاً سوريا..وداعاً أيها الكوكب

0

منذ إعلان بوتين الحرب صار ممكناً القول: وداعاً أوكرانيا المستقلة الديموقراطية. الهدف الذي حدده سفاح غروزني وسوريا “…إلخ” هو تجريد أوكرانيا نهائياً من القدرات العسكرية، وإسقاط الحكم المنتخب فيها. ليس من التشاؤم القول أن السفاح سيحقق أهدافه المعلنة وغير المعلنة، فهو أصلاً لم يعلن عنها بطريقة رمي القفازات إلا وقد استعد جيداً. قد تتكبد قواته خسائر تبدو غير محسوبة؛ هذا على الأرجح محسوب أيضاً، وإذا بدأ بالظهور فستتكفل آلته العسكرية بإيقاع الدمار الشامل، ولا أحبّ على قلبه من سياسة الأرض المحروقة. 

في الخطوط العريضة العامة، كان كل شيء مكشوفاً في الأسابيع الماضية، فالحشود العسكرية الروسية واضحة كاستعداد لعملية كبرى، والتقارير الاستخباراتية الغربية أكدت حصول غزو وشيك، ومفاوضات اللحظة الأخيرة بين بوتين والغرب كانت معلنة أيضاً. لا مؤامرة سرية، وحتى قبل إطلاق نفير الحرب كان لسان حال التأكيدات الغربية على قرب الغزو هو: وداعاً أوكرانيا. التهديد بالعقوبات الاقتصادية، من دون تأويله مؤامراتياً، كان تلويحة وداع أخرى، إذ تتدنى المخاطرة كلما عُرفت عواقبها مهما كانت شديدة.

طريق سهل جداً عبَره بوتين إلى كييف، من اجتياح جورجيا عام2008 إلى الاستيلاء على القرم عام 2014، مروراً بالاستيلاء على سوريا، قبل العودة إلى غزو أوكرانيا، من دون احتساب الفظائع الأسبق التي ارتكبها في الشيشان وأفغانستان. فُرض بعض العقوبات الغربية عليه بسبب الاستيلاء على القرم، بينما حظي بتساهل قلّ نظيره على احتلاله سوريا، إن لم يكن بدعم ضمني واسع. إنه، في حربه الحالية، غير مسؤول عن دهشة العالم من عدوانه، إنْ كان هناك من دهشة.

بعد سنة من الاستيلاء على القرم، أرسل بوتين قواته إلى سوريا، متشجعاً بالحد الأدنى من العقوبات الذي فُرض عليه. ربما لا يبارح ذاكرة العديد من السوريين، على مختلف توجهاتهم، خروج الوزير لافروف ونظيره الأمريكي كيري من اجتماعات مطوّلة متعلقة بالشأن السوري وضحكاتهما ملء وجهيهما، أو تشابك يديهما في دلالة على الانسجام التام. ذلك “الغرام” كان يطوي فعلياً العقوبات الغربية المرتبطة بالقرم، كانت يداهما المتشابكتان تلوّحان بالوداع للتغيير في سوريا، وبقبول بقاء الاحتلال الروسي على ضفاف المتوسط لأول مرة منذ بدأت الطموحات الإمبراطورية الروسية.

الآن، الثمن المعلن لاحتلال أوكرانيا شبه واضح. المتفق عليه عقوبات اقتصادية فعّالة، لا تتضمن إبعاد روسيا من النظام المالي العالمي “سويفت”. برلين ليست متشجعة لعقوبات أقسى، وهي بالكاد قررت وقف العمل في أنبوب الغاز الروسي. ماكرون لم يشأ إغلاق باب الحوار مع بوتين، رغم تجريبه الحوار قبل أيام، حيث خدعه بوتين بالنقاش في تنفيذ اتفاقيات مينسك بينما كان يشرع في وضع اللمسات الأخيرة للحرب. 

نبرة واشنطن غير مرتفعة، إذا قارناها بلندن. تل أبيب، بعد إدانة غير قاسية، تراجعت لتوحي بأن إدانتها لا تتجاوز التعبير البروتوكولي. عندما كانت طلائع القوات الروسية تهاجم شرق أوكرانيا كانت الصواريخ الإسرائيلية تضرب أهدافاً إيرانية بالقرب من دمشق، وإسرائيل لا تريد التفريط بحرية حركتها في سوريا التي ستفقدها بفقدان التنسيق مع موسكو. 

الأخبار القادمة من فيينا، قبل طغيان الخبر الأوكراني، أفادت بأيام حاسمة لإنقاذ أو عدم إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران. هي لحظة بوتين أيضاً، ومن المعلوم أن مندوبه في المفاوضات يقوم بدور الوسيط بين إيران والأطراف الغربية، وربما لا غنى عنه لإنقاذ الاتفاق الذي تستميت إدارة بايدن لاستعادته. ثم لا يُستبعد أن تتصلب طهران في موقفها مع إدراك ذلك، ومع المثال الذي يقدّمه احتلال أوكرانيا التي سلّمت مخزونها من الأسلحة النووية بموجب اتفاق بودابست 1994مع تعهد روسيا وأمريكا وبريطانيا باحترام استقلال وسيادة أوكرانيا ضمن حدودها آنذاك “المتضمنة القرم ودونباس وكافة أراضيها”. 

حاجة الغرب إلى التعاون مع بوتين في العديد من القضايا تضع سقفاً للعقوبات على روسيا، بمعنى أن العقوبات الاقتصادية لن تصل إلى الحد الأقصى طالما لم يُتخذ قرار حاسم بالتصدي لمطامعه بكافة الوسائل، ومنها تقديم الدعم العسكري الفعّال للمتضررين منها. هذا لا يعني أن العقوبات لن تكون بلا أثر، بل من المتوقع أن تتسبب بالضرر الاقتصادي، من دون أن نكون على موعد قريب مع انهيار الاقتصاد الروسي، وبالطبع مع ملاحظة أن يكون الأذى أولاً من نصيب الشرائح الأضعف في روسيا. 

لكي يكون هناك من مضمون حقيقي للحديث الغربي عن عقوبات اقتصادية فتاكة ينبغي أن يكون المتضرر منها عقلانياً، وأن يكون تقييمه له متطابقاً مع التقييم الغربي. تجارب الغرب مع تطبيق العقوبات غير مبشّرة، على الأقل في المدى المتوسط، لأن ظهور الآثار العميقة المستدامة للعقوبات يأخذ وقتاً طويلاً، إذا تم التقيد بها ولم تتأثر بمتغيرات سياسية مقبلة تتعلق بملفات أخرى غير ذاك الذي وضعت بسببه. ومن المؤكد أن بوتين بعد وقت لن يطول سيلجأ إلى ابتزاز الغرب في مكان آخر أو قضية أخرى من أجل التخلص من العقوبات، أو من أجل ما سيسميه البعض “هروباً إلى الأمام”، الهروب الذي لا يُستبعد أن يسحق تطلعات شعب آخر. اليوم مثلاً تتجدد المخاوف من العودة إلى اجتياح جورجيا أو اجتياح مولدوفا، بل هناك خشية من توجه بوتين إلى دول البلطيق المحمية بمظلة الناتو، وحتى فنلندا بدأت التفكير في الخروج من وضعية الحياد والانضمام إلى الناتو لتحظى بحمايته. 

هناك متعطش ليكون قيصراً بإمبراطورية واسعة، لا يهم ما إذا كان أحمقاً أو داهية، فهو ينجح حتى الآن مستفيداً من الغرب الذي يتحاشى المواجهة العسكرية ما لم يتهدد أمنه المباشر. لا يهم ما إذا كانت روسيا ستدفع ثمناً باهظاً، وما إذا سيكتب التاريخ بعد عقود سقوطاً جديداً للحلم الإمبراطوري الذي تكرر. المهم أن كوكبَ ما بعد انهيار جدار برلين قد انتهى، وهو الآن على مشارف حقبة شديدة السوء. التلويح للطغاة بعبَر التاريخ لا يعدو كونه حكمة جوفاء، لأن العبَر الأخيرة كتبت بدماء أفغان وشيشان وجورجيين وسوريين وأوكرانيين لتحبط شعوباً أخرى ستخشى المصير نفسه.  

  *المدن