هذه ليست مزحة؛ فالعديد من النساء السوريات نشرن على صفحاتهن “بما يشبه الاتفاق” ما معناه أن الرجال جميعاً مغتصبو نساء، أو متحرشون على الأقل. أحكامهن المبرمة أتت تتويجاً لفضيحة تداول صور لنساء، أُخذت من صفحاتهن لتُعرض في مجموعة مغلقة يبدو أنها مخصصة لتعليقات جنسية ذكورية مشينة.
الحسابات التي أعلنت تجريم الرجال بلا استثناء هي لنساء معروفات، لا لأسماء وهمية لا يجوز أخذها بجدية. والتجريم استند إلى ركيزتين، الأولى ظهرت من خلال الرد على تعليقات الرجال الذين رفضوا التعميم بأنهم يرفضونه من موقعهم كرجال، أو بتعبير صريح: من موقعهم كمغتصبين أو متحرشين لا بد لهم أن ينكروا جرائمهم. الركيزة الأخرى هي حق المرأة الحصري بتحديد مساحتها الشخصية الآمنة، أي حقها الحصري بتحديد ما هو تحرش بها، وحرمان المتهم من الدفاع عن نفسه لأنه ليس صاحب حق في أن يحدد لـ”الضحية” ما تراه تحرشاً؛ هو بالأحرى في موقع المذنب لا المتهم، وهي في موقع الخصم والقاضي معاً.
كان جدل مشابه قد ثار منذ مدة على خلفية استخدام رسام الكاريكاتير علي فرزات تعليقات ذكورية جنسية، وحينئذ بادرت نساء إلى اعتبار الرجال الذين لم يدينوا فعلة فرزات بأنهم ذكوريون ومتحرشون…إلخ. استجاب البعض “تحت الضغط” وندد بفرزات، وتعبير “تحت الضغط” غير متصل بموضوع النقاش؛ هو متصل أولاً بأن نسبة كبيرة من مستخدمي وسائل التواصل ينظرون إلى أنفسهم كأفراد غير معنيين طوال الوقت بإصدار مواقف من كل ما يحدث، وصفحاتهم ليست مكاتب إعلامية لهيئات اعتبارية أو دول مطلوب منها إصدار البيانات. هم مثلاً مع الثورة وضد الأسد، ولا يرون أنفسهم بحاجة إلى التنديد بالأخير مع كل مجزرة جديدة تُرتكب أو تُكتشف، وهم مناصرون للمرأة ولا يرون حاجة لإعلان ذلك مع كل سلوك ذكوري يظهر من سواهم. هناك في المقابل شريحة من الذين يروق لهم التعليق على صفحاتهم بشكل متواصل، فلا يفوتون مناسبة عالمية أو محلية أو تهنئة بأي عيد، وهذا حقّ لهم لا يُلزم غيرهم.
السلاح الذي يُضاف إلى الركيزتين المذكورتين سابقاً هو التلويح بـ”الإنبوكس”، حيث يجب أن نتوقع أن هذا الصندوق السحري الخاص بالنساء مليء بمحاولات التحرش من كافة الرجال. وهنا فرضية تطغى لتغطي تماماً على شقها الآخر، أي الرسائل التي تصل إلى إنبوكس الرجال وفي البعض منها تودد أو مغازلة، وفي البعض الآخر شتائم ذكورية أيضاً لا يندر أن تكون مرسلة من نساء، أو على الأقل من حسابات بأسماء نساء.
لنقل أنها واحدة من سمات وسائل التواصل، ومن المؤكد أن النساء أكثر تلقياً للرسائل، لكن ما يصعب هضمه تلك الكثافة بنشر رسائل على أنها تحرش، رغم أن النص المنشور لا يتعدى التحية والرغبة في التعارف، ويمكن تجاهله بلا ضجيج. المحتجات بغالبيتهن مقيمات في البلدان الأوروبية، حيث يمكن أن يتقدم رجل من امرأة في الشارع بكل تهذيب طالباً التعارف، وأن تعتذر منه مع ابتسامة لطيفة “أو ربما تقبل”، والعبرة في عدم استخدام أي عنف جسدي أو لفظي، أو أية محاولة لإرغام الآخر على قبول ما لا يريد.
لقد شهدنا في الغرب نفسه اعتراضات على مبالغات حملة me too، وأتت الاعتراضات من نساء شهيرات مثل كاترين دونوف وغيرها، لأن المبالغة في ردّ المبادرة إلى التحرش تقضي في المحصلة على الفرص العفوية للمغازلة بين الجنسين، ولأن تجريم الذكور سلفاً يلجم تلقائياً غير المتحرشين خشية اتهامهم بالتحرش. بالطبع ليست الفكرة في خطر انعدام التواصل الجسدي بين الجنسين، فهي أيضاً في تمييع الحدود المتعارف عليها بين التودد والتحرش، وهي حدود اجتماعية لا شخصية أو مزاجية وانتقائية.
من الشائع مثلاً في العديد من المجتمعات أن الدعوة إلى العشاء قد تنطوي على التودد والمغازلة بخلاف الدعوة إلى الغداء، وانتهاؤها إلى الفراش رهن بقبول واستعداد الطرفين لحظتها، إلا أن الدعوة إلى العشاء يمكن تأويلها على محمل التحرش عندما يكون الداعي صاحب سلطة على المدعو/ة، ويستغل سلطته على الطرف الثاني. يمكن انطلاقاً من أمثلة مشابهة، بدل استسهال توجيه الاتهامات بالجملة، العمل على تبادل خبرات حقيقية للتمييز بين التحرش والمبادرات “من الجنسين” الهادفة إلى علاقة تعاقدية تبدأ برضا الطرفين، وتنتهي برفض أحدهما على الأقل. يمكن أيضاً لنقاش حقيقي البحث في الحدود بين المجالين الشخصي والعام، خاصة بسبب ما يبدو انكشافاً للجميع على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد صار ضرورياً التمييز ما هو عام في حساب أي شخص، وما لا يجوز استباحته لأنه خاص حتى إذا كانت رؤيته مباحة للعموم.
ويُستحسن بالنقاش أن يكون بلا ادعاءات ثقافية فائضة وجوفاء، ومنها التشدق بالنسوية في حين لا يتعدى الأمر أحياناً مطالبات بالمساواة قائمة منذ حقبة قاسم أمين، أو فهماً لمفاهيم الأنوثة والذكورة لا يتعدى كتابات نوال السعداوي مع جمل مجتزأة لعلماء نفس شهيرين، إن كانت الأخيرة صحيحة أو دقيقة. لدينا مثقفات يصمتن وهن أولى بالحديث عن موجات النسوية واقتراحاتها، ولدينا فنانات أولى بالحديث عن جرأة نسويات غربيات قدّمن منذ نصف قرن اقتراحات تنقلب على النموذج الجمالي للمرأة لتتعمد من خلال اللوحات تقديم أجساد أنثوية تثير الاشمئزاز بدل الرغبة، نشير هنا إلى أعمال إليانور أنتين وجودي شيكاغو مثلاً. أعمال كهذه “رافقت تنظيرات الموجة الثالثة” ستمهد للموجة التالية، لنشهد رؤى أقل صدامية وأعمق نقدياً في أعمال سيندي شيرمان وجيني سافيل.
مؤسف أن نضطر إلى القول أن معركة النسوية ليست ضد الذكور، هي بالضبط ضد الثقافة الذكورية، وهذه الأخيرة موزعة على الجنسين بنسب متفاوتة، أما معركة الضحية “الفرد” فهي ضد شخص بعينه متحرشاً كان أو مغتصباً. من دون التمييز بين هذين المستويين وأبعادهما، ستظهر مقولات شديدة السطحية من قبيل اتهام جميع الرجال، ولا بأس في أن نتغاضى مؤقتاً عن سكوت النساء على جميع الرجال، وتحديداً اللواتي يطلقن الاتهامات ولا يفتحن “الإنبوكس” السحري المليء بفضائح الآخرين، والذي يبقى قيد التهديد! سوْقُ هذا المنطق الاتهامي إلى مداه يذكّر بتنميطات الفلكيين، من قبيل “النساء من الزهرة والرجال من المريخ”، في انتظار الظروف المواتية لمغادرة كل منهما الأرض والعودة إلى كوكبه الأم!
باتهام الرجال جميعاً، تخسر قضية النساء سنداً لها في معركة طويلة جداً لن تُكتسب إلا على مراحل، فالمنطق يقول باستحالة الشراكة بين جنسٍ هو ضحية بالمطلق وجنس آخر هو مغتصب ومتحرش بالمطلق. ذلك لا يتعلق فحسب بقضية المرأة، إذ يصعب تخيل الشراكة بين المجرم والضحية في قضايا الحريات عموماً. نحن، من دون أن يكون كلامنا هذا على سبيل السخرية، لا نعلم كيف ستفهم أية امرأة من صاحبات الاتهام ما تلقاه من تفاعل على وسائل التواصل، فربما يُفهم اللايك تحرشاً، وربما يُفهم التفاعل بالقلب شروعاً في الاغتصاب. ما نعنيه أن هذا الاتهام يدمّر حتى التفاعل الافتراضي، لأنه يضع لغماً في كافة مستويات العلاقة بين الجنسين.
صادف قبل يومين أن كنت مسرعاً للّحاق بالمترو الذي راحت أبوابه تنغلق قبل وصولي، امرأة شابة من داخله رأتني فأمسكت بدرفتي الباب وفتحتهما بقوة لأجلي. في المحطة التالية أفسحت لها لتنزل قبلي، لا رداً لجميلها وإنما بحكم العرف السائد. عطفاً على الجدال المشار إليه، تلك الحادثة جعلتني أسأل نفسي: متى سيكون لدينا نساء يفعلن ما فعلته تلك المرأة؟
*المدن