عمر قدور: محاولة في فهم لبنان

0

أقمتُ لأشهر في لبنان قبل نحو خمس سنوات، من الأشخاص الذين لا أنساهم “فضلاً عن أصدقاء كثر يحملون وجه لبنان الذي نحب” سائقٌ صادف أن أرسله لي مكتب تأجير السيارات عدة مرات. في كل مرة كان ذلك السائق يسرد ذكرياته عن الحرب الأهلية اللبنانية، ويشير هنا وهناك إلى أماكن تمركزت فيها الميليشيات المتحاربة سابقاً، يفعل ذلك بحماس وحنين إلى ذلك العهد. مرة سألته عن سبب حماسه وحنينه، مستغرباً تعلقه بزمن الحرب. أجابني بما معناه: في الحرب كان كل طرف يعرف حدوده، ولم يكن هناك طرف يتعدى على الجميع ويرهبهم، رغم القتال والموت كنا أحراراً أكثر من الآن.

في الإجابة السابقة للسائق ما يخالف منطوق العديد من القيادات اللبنانية التي دأبت على ترويع اللبنانيين بالحرب الأهلية، بوصفها البديل الوحيد عن هيمنتهم. ولا ننسى تلك المقولة الشائعة التي تنص على أن الحرب الأهلية اللبنانية قائمة طوال الوقت، إما بالسلاح أو في النفوس، ولا أمل بالانتهاء منها، أو أن ذلك يتطلب جهداً شاقاً وطويلاً بالانتقال إلى منطق الدولة، ومن ثم الحلم بدولة عابرة للطوائف. 

انتفاضة اللبنانيين الراهنة تنقض على الأقل جزءاً من الكلام السابق عن الحرب الأهلية القائمة أو الكامنة، فالذين انتفضوا للأسباب المشتركة ذاتها جعلوا من أسباب ثورتهم شأناً يعلو على انقساماتهم الطائفية، حتى إذا كان الإعلاء مؤقتاً. وهنا قد يعود التهديد بالحرب الأهلية وسيلة لإرهاب المنتفضين، ورهاناً على إرجاعهم إلى طوائفهم بقادتها المعروفين، وأيضاً بسلالاتهم التي ترث الطوائف وأساليب استنفارها أو أساليب تدجينها حسب ما تقتضيه مصالح القادة.

الحديث عن تقدّم الشارع على أمراء الطوائف، ونظام المحاصصة بينهم، يحتمل الصواب وإن كان لا يستغرقه كله. فلبنان لا يسوده نظام محاصصة طائفية بالمعنى الذي ساد قبل الحرب الأهلية. نعلم ما آل إليه الوضع من سيطرة الأسد على لبنان، حيث كان النظام يعمل بأوامر من دمشق أو عنجر، لا وفق آلياته الذاتية. ونعلم ما آل إليه النظام لاحقاً، بعد الانقضاض على انتفاضة الاستقلال، حيث بات ما يُسمى الحفاظ على الميثاقية نوعاً من الديكور الذي يخفي إخضاع النظام لسيطرة جهة واحدة، ولا أدل على النظام المتحقق بالفعل بقدر انتظار خطابات نصرالله من قبل أبناء الطوائف جميعاً لمعرفة الاتجاه الذي تسير فيه الواجهات الماثلة في السلطة.

الواقع أن سيطرة حزب الله، ومن قبله عهد الوصاية الأسدية، يعنيان امتناع الحرب الأهلية، مثلما يوجبان الإبقاء على الانقسام الأهلي. يصح اعتبار الانقسام الأهلي شرطاً للحرب الأهلية، من دون انتظار نشوبها وجوباً وبناء تلقائياً عليه. الحرب الأهلية، فوق الانقسام، لا تنشب إلا بوجود فرص “ولو ضئيلة” للكسب أمام الطرف الذي يبادر إلى إشعالها، ولا تندلع بوجود طرف مهيمن إلى حد يجعل نتيجة الحرب محسومة سلفاً، ويدخل في الميزان ذاته التحالفات الخارجية للأطراف المعنية ووزن تلك التحالفات إقليمياً ودولياً. إن نظرة سريعة إلى الواقع اللبناني في عهدي الوصاية المتتالين تجعلنا ننفي احتمال الحرب، حتى إذا كانت احتمالاتها المستقبلية تُصنع وتتفاقم كل يوم. 

انتفاضة اللبنانيين الراهنة، وهذا يُسجل لها، تستبطن الانتقال الذي حدث من نظام المحاصصة الطائفية إلى السلطة الأحادية على مثال المنطقة ككل. ليس مهماً على هذا الصعيد أن تكون السلطة في الواجهة مباشرة، فما يمكن تسميته بالدولة العميقة في لبنان واضح للعيان، وهذه الدولة العميقة تحكم تحت تهديد السلاح، ووجود عنوان طائفي لها لا يخرج عن مألوف العديد من سلطات المنطقة من حيث وجود عنوان طائفي أو عشائري. العبرة هي في احتكار القرارات الكبرى، لا في توزيع مكاسب الفساد الصغيرة، واحتكار القرارات الكبرى ينطوي أيضاً على احتكار حصة كبرى من الفساد مع الإشراف على توزيع الحصص الأخرى.

من دون إطلاق أحكام، التمرد على زعماء الطوائف، أو الانتفاضة بعيداً عن رغباتهم وإيحاءاتهم، يستبطن انتهاء عهدهم ولا يحتاج الشروع في التمرد انتشار وعي وطني عام كما يشتهي كثر. كي يمشي الناس وراء زعماء طوائفهم ينبغي لتلك الزعامات تلبية الوظيفة المناطة بهم، بينما في الحالة اللبنانية لم يعد هناك من زعامات طائفية حقيقية بحكم رضوخها جميعاً لزعامة وحيدة، وهذه الأخيرة تجاوزت مسألة زعامة الطائفة لتصبح هي الحاكمة، وهو موقع انتقل بها من ادعاء المظلومية إلى ممارسة مظالم السلطة. 

بعبارة أخرى، نحن أمام زعيم لم يعد يمثل طائفته حتى في عيون أبنائها، وهو نفسه لا يوفر فرصة كي يثبت أنه الحاكم الفعلي للبلد بل أكبر من لبنان بحكم كونه شريكاً في القرارات الإقليمية الكبرى، وفي المقابل منه ثمة زعماء طوائف تدّنت مرتبتهم إلى حد مريع عن نظام المحاصصة المعمول به شكلياً. وربما يجب ألا ننسى أن السلطة المتاحة لأي زعيم طائفي لم تعد تعبيراً عن شعبيته بين أبناء طائفته، لقد كان الممر الإلزامي لها في عنجر قبل انتقاله إلى الضاحية الجنوبية، وهذا أعفى العديد منهم من بذل جهد من أجل اكتساب شعبية، وعطفاً على ذلك قلل من اهتمامهم بصورتهم العامة وجعل فسادهم أكثر بروزاً أو وقاحة.

لقد استُهلت معركة الإجهاز على “الاستثناء اللبناني” ببدء وصاية الأسد، ولم تنقطع منذ ذلك الوقت. ما حدث في سنوات العهد الأخير من تضييق على الحريات، ومن تباهٍ بالسلطة المطلقة وبمظاهر الفساد وصولاً إلى “على الأقل” شبهة الشروع في توريث الرئاسة، كان تعبيراً عن انتهاء الاستثناء اللبناني. لذا، معركة استعادة لبنان دونها قوى ليس من عادتها تقديم التنازلات، وترى في الأخيرة مدخلاً لانهيار سلطتها، وهي نظرة لا تنم عن استعلاء واستكبار بل عن واقعية وبعد نظر. إذا نجح اللبنانيون في “قضم” دولتهم العميقة، ولو تدريجياً، ستكون بشرى تحتاجها المنطقة. من باب الأمل بمليونين ونصف المليون لبناني الذين تظاهروا يوم الأحد، يُستحسن بـ”إذا” الشرطية السابقة أن تتوقف هنا.

*المصدر: مدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here