عمر قدور: ليأكلِ السوري معهداً للسينما

0

وفي الحادي عشر من شهر شباط2021، أصدر بشار الأسد مرسوماً يقضي بإحداث المعهد العالي للفنون السينمائية، وذلك “حسب نص المرسوم” بهدف تخريج المتخصصين في الفنون السينمائية والتدريب والتأهيل في مختلف مجالات الفن السينمائي بما يحقق نهضة فنية في هذه المجالات. المرسوم كان قد أُقرّ في مجلس الشعب قبل ثلاثة أسابيع، والمدة الوجيزة الفاصلة بين التاريخين فيها دلالة على نشاط المستويات العليا في السلطة، وربما أيضاً على أهمية الإسراع في إصداره لما للسينما من أهمية استثنائية في الظروف الحالية التي يعيشها السوري.

نص المرسوم يشمل آلية عمل المعهد، وبنيته الإدارية، ليتضمن بالتفصيل أجور المدرسين فيه، وهذا ما يهمنا في السياق. يبلغ أجر تعيين من يحمل صفة “مدرس رئيس” 61700 ليرة سورية، وأجر المدرس 59125 ليرة سورية، وأجر المدرس المساعد 55560 ليرة سورية، مع منح كل منهم تعويض طبيعة عمل يعادل 100% من الأجر الشهري. بلغة الأرقام الواضحة، الأجر الأعلى للمدرس الرئيس يعادل 18 دولاراً وفق سعر الصرف الحالي، وبإضافة طبيعة العمل يصبح 36 دولاراً، أي أن عليه العيش بدولار وعشرين سنتيم يومياً، وعليه “بهذا الأجر” تحقيق نهضة فنية يُفترض أن ينتظرها جمهور عريض يحصل معظمه على أجر أقل من هذا.

بالتأكيد لسنا ضد إتاحة مختلف أنواع الدراسة للطلاب في سوريا، ومنها السينما ومختلف أنواع الفنون. إلا أن ما نؤكد عليه هو آخر ما تكترث به سلطة الأسد، فإصدار هذا المرسوم، في هذا التوقيت، هو من قبيل الإصرار على أن كل شيء بالنسبة لها بخير، وإلى درجة لا تهمل فيها ما يعتبره كثرٌ نوعاً من الكماليات. بل ها هي، في ظل “العقوبات والحصار”، تعمل على مستقبل للسينما السورية. وها هي، وفق الأجور المنصوص عليها، تتجاهل القيمة السوقية لليرة وتصرّ على كفاية بضع عشرات الألوف منها.

لدى السلطة مؤسسة عامة للسينما احتكرت إنتاج وتوزيع الأفلام لعقود، وبالكاد أنتجت فيلماً واحداً خلال بعض السنوات، أو لم تنتج أي فيلم في بعضها الآخر. وبحكم معرفتنا ما يحرّك السلطة فهي تريد مكافأة فنانين موالين لها، فتنشئ لهم معهداً ينالون فيه ألقاباً تبدأ من عميد المعهد وتنتهي بالمدرس المساعد، كلٌّ منهم حسب قربه من السلطة وتشبيحه لصالحها خلال السنوات الماضية. هؤلاء سيكونون أساتذة النهضة الفنية المزعومة، وهم الذين سيمتحنون المتقدمين للدراسة ويختارون أصحاب “المواهب” وفق المحسوبيات ذاتها التي وضعتهم في هذا الموقع. وبما أن أجورهم المنصوص عليها هزيلة جداً، فهذا يفتح باب التكهنات حول طريقة حصولهم على الأجور الفعلية، وهي ليست بالطريقة الغامضة لمن لديه أدنى معرفة بالسلطة وأزلامها.

إذا وضعنا هذا المرسوم ومظاهر المجاعة المتفاقمة، جنباً إلى جنب، سيبدو الأمر كأن السلطة تريد إطعام أولئك الجائعين معهداً للسينما. وكما نعلم هناك نسبة متزايدة من أنصار الأسد تهبط مع الوقت تحت خط الفقر، أو تكابد مستويات مختلفة من الجوع، ومن ضمنها أولئك الذين قاتلوا “بالمعنى الحرفي” من أجل بقاء الأسد، إلا أنهم لا يحظون بالأولوية التي لإنشاء معهد للسينما في بلد قُضيت على صناعة السينما فيه قبل تراجعها عالمياً. ثمة تجربة يمكن استرجاعها في هذا السياق، هي تجربة المعهد العالي للفنون المسرحية الذي أنشئ في منتصف السبعينات، وكان إنجازه الأهم تخريج ممثلات وممثلين للعمل في الدراما التلفزيونية.

العناية التي توليها السلطة لأهل “الفن” هي عناية حقيقية، لا تقل مثلاً عن عنايتها بوزارة الأوقاف ومشايخها، ومن نتائجها انقسام غالبية نجوم التمثيل والإخراج عندما انطلقت الثورة بين مؤيدٍ وصامت. من ذلك الكَمّ الضخم العامل في الدراما التلفزيونية، والمسرح والسينما “على ندرة الإنتاج فيهما”، خرجت أسماء قليلة لتعارض السلطة، منها الراحلتان مي سكاف وفدوى سليمان، ومنها فارس الحلو وجمال سليمان وعبدالحكيم قطيفان والمخرجان هيثم حقي وأسامة محمد، والفنان زكي كورديللو المعتقل الذي لا يُعرف مصيره.

عندما نشير إلى أسماء بالكاد تغطي أصابع اليدين أعلنت موقفاً معارضاً، لتنضم إلى ندرة من فنانين لهم أسبقية بالمعارضة والخروج من البلاد، بينما الكثرة بقيت على ولائها أو صمتها، فهذه أكثر من إشارة إلى طبيعة علاقة السلطة بأهل الفن. هي علاقة حتمية، تبدأ باحتكار سبل الإنتاج والعرض، لتنتهي بضباط مخابرات يستهويهم بين الحين والآخر دعوة أحد من نجوم التلفزيون لمسامرته أو لمسامرته هو وضيوف له من أمثاله، ولم يكن أسوأ ما يحدث استعداد بعض النجوم للعب دور مهرج السلطان.

لقد فُتحت، إلى حد ما، دفاتر أساليب المخابرات المصرية القذرة لتطويع الفنانين والفنانات، والتي كان رجل المخابرات ثم وزير الإعلام صفوت الشريف واحداً من “أبطالها”. كانت عناوين فظاعات صفوت الشريف قد ظهرت مبكراً إلى العلن من دون محاسبته، بينما في سوريا هناك غياب مطلق للشفافية التي تسمح بمعرفة خبايا العلاقة بين السلطة وأهل الفن. معرفتنا ببعض شبكات المصالح المالية محدودة ويعوزها التوثيق، ومعرفتنا بفنانين بدأوا أقرب إلى نقد السلطة ثم ارتموا في أحضان مخابراتها تؤكد ما نذهب إليه مع تعزيز الحيرة والاستفهام إزاء الخبايا التفصيلية، من دون أن نضعهم في موقع الضحايا القسريين.

مرسوم بشار القاضي بإحداث معهد عالٍ للسينما، فوق مكافأة نجومه الأوفياء، فيه افتتاح لمصنع جديد من النجوم الذين سيدخلون عبر الشاشة بيوت السوريين، ويقدّمون لهم الوجبة المطبوخة في أروقة الرقابة والمخابرات. ينبغي ألا ننسى كيف تحول المعهد المسرحي في العديد من الأوقات إلى ما يشبه فرعاً للمخابرات، وكيف حدث أن هدد عميده بعض الطلبة بالاتصال بالمخابرات لاعتقالهم، على خلفية استيائه الشخصي منهم ليس إلا. لقد بدأ المعهد المسرحي بمبادرة من أسماء لها رصيد من الاحترام، لينحدر على مقاس السلطة، أما المعهد الحالي فأغلب الظن أن لا يكون له نصيب من اسمه إلا بقدر ما يحمل فرع فلسطين من فلسطين.

*المدن