ما أن تأكد خير اغتيال الباحث والكاتب والناشط السياسي لقمان سليم حتى برز القول أن القاتل معروف، ولأنه معروف للجميع لن يكون ضرورياً التصريح باسمه. والتصريح، كما نعلم، له عواقب قانونية إذ يُرمى جزافاً بلا أدلة. الاتهام السياسي أيضاً له قواعده وأصوله، وهو يراعي العواقب القانونية، ويحرص أن يكون اتهامه الخصوم ضمن الاتكيت أولاً، مع ملاحظة دقيقة للتوازنات القائمة داخلياً وخارجياً.
يسهل في اغتيال لقمان سليم، كما في عمليات سابقة أو لاحقة مشابهة، استحضار ذلك السؤال الاستنكاري عن عدم معقولية اتهام جهة هي في الأصل المشتبه به الرئيسي قبل وقوع الجريمة. إذا لا يُعقل، لكل من يفكر قليلاً، إقدام المشتبه به على عملية القتل وهو مدرك تماماً أنه سيوضع في موقع الاتهام تلقائياً. حسناً، بقليل من العقل أيضاً، لا بد من وجود جهة ما خبيثة تستغل أصابع الاتهام التي ستتوجه إلى المشتبه به الأول لترتكب الجريمة وتلتصق به. من وجهة النظر هذه، إنها جريمة تستهدف المشتبه به أكثر مما تستهدف القتيل نفسه. بل إن القتيل مجرد أداة لاستهدافٍ أبعد وأعمق، ونحن مثله أدوات إذ تنطلي علينا الجريمة الأكبر ونساعد مرتكبيها بالإشارة إلى متهم بريء.
لماذا لا نتهم إسرائيل باغتيال لقمان سليم، من أجل أن تضع حزب الله في دائرة الاتهام؟ أليس للموساد الإسرائيلي تاريخ حافل من الاغتيالات الخارجية؟ ألم ينكشف لها عملاء وشبكات تجسس في لبنان نفسه؟ أما وأن المغدور متهم من قبل بيئة الحزب بالعمالة لإسرائيل فاغتياله لا يبرئه من التهمة، ولا يبرئ إسرائيل من قتله، إذ لطالما تخلصت تل أبيب، ومثلها واشنطن، من عملاء انتهت مهمتهم، أو بات قتلهم مجزياً أكثر من وجودهم على قيد الحياة.
ثم، في الرد على سؤال “لماذا الآن؟”، يجدر بنا رؤية المصلحة الإسرائيلية في تفجير الوضع، بينما مصلحة الحزب على النقيض. تريد تل أبيب تفجير عهد بايدن، بعدما رأت تعيينات الأخير الإيجابية تجاه طهران، وهي تسعى إلى عرقلة الانفتاح بين الطرفين من الساحة اللبنانية لأنها قد تكون فاتحة إبداء حسن النوايا بينهما، أو من إدارة بايدن تحديداً. صحيح أن مقربين للحزب اتهموا الفقيد بأنه من شيعة السفارة “الأمريكية”، وهذا أدعى لتستهدف إسرائيل واحداً من رجالات واشنطن، في هذا التوقيت، إذا لم يكن من عملائها أيضاً.
ينبغي ألا ننسى أننا نتحدث عن جهة لا تهاب أية قوة أخرى، ولا تتنصل أو تتهرب مما تفعل. لقد قالها لنا مراراً وتكراراً الأمين العام للحزب شخصياً، قالها رافعاً سبابته وقالها من دون رفع سبابته، وينبغي لنا تذكر أن الحزب لا يخشى تبني الأفعال التي يقوم بها، وعندما ينكر مسؤوليته عن عمل ما فعلينا تصديقه. لننظر كيف لا ينكر الحزب تدخلاته وحروبه، من سوريا وصولاً إلى اليمن مروراً بأمريكا اللاتينية، وهذه التدخلات الاستراتيجية يجب أن ترينا حجم حسابات الحزب التي لا تتدنى إلى استهداف شخص في لبنان، إذ مهما بلغ وزنه لن يُقارن بوزن الحزب أو يشكل خطراً عليه. فلماذا يسيء الحزب إلى سمعته بعملية لا جدوى منها في ميزانه الاستراتيجي؟ ولماذا يُسرع من يزعمون أنهم أنصار الكشف عن الحقيقة إلى اتهامه؟
اتهام إسرائيل باغتيال لقمان سليم، حتى إذا لم يتهمها به بيان الحزب الذي دعا فقط إلى كشف المرتكبين ومعاقبتهم، فيه فرصة لنتحرر من الاتهامات المتكررة الجاهزة، ومما يبنى عليها. هو فرصتنا كي نعتق الحزب من الظنون، وكي نعتق أنفسنا من رهاب الحزب الذي ندعوه إرهاباً.
حسناً، ما الذي يعنيه اتهام الحزب وهو المشتبه الأول بالاغتيال؟ هو يعني قدرة الحزب على الدوس على المنطق الجنائي المعتاد، وقدرته على استرخاص القتل. هذا يعني أن لدينا الألوف على الأقل من خصومه الذين قد يلاقون مصير لقمان سليم، فمن يملك ترسانة الحزب من السلاح والمقاتلين يستطيع قتل هؤلاء الألوف في ليلة واحدة لو شاء. بهذا المعنى، تبرئة الحزب، تبرئته عن قناعة وتصديق، هي مكسب للسياسة في لبنان، مكسب لحريات خصومه.
اتهام الحزب بالاغتيال “تلميحاً أو تصريحاً”، إذا لم يكن مبنياً على أساس أو إرث، يجب النظر إليه كنوع من الرُهاب الجماعي، أصحابه مرضى ينبغي معالجتهم، وينبغي على الحزب بحكم موقعه في السلطة والمجتمع المشاركة في علاجهم، وطمأنتهم بجد ورفق تستدعيهما حالتهم. المنطق الذي يغذّي هذا “الرهاب” هو توجيه الاتهام إلى المشتبه به المكشوف تماماً، لأن غاية ترهيب المجموع لا تتحقق ما لم يكن القاتل معروفاً من قبل خصومه، مع عجزهم على مواجهته بهذا الاتهام أو مواجهته في عموم الميادين.
من أجل أولئك الخائفين، أو الشجعان الذين من حقهم أن يساورهم الخوف، ينبغي عدم إضاعة الوقت والجهد في أسئلة من قبيل: لماذا لقمان سليم؟ ولماذا الآن في هذا التوقيت؟ ومن الجهة المستفيدة؟ وهل من المعقول أن يُقدِم المشتبه به الأول على ارتكاب الجريمة ولماذا؟! علينا عدم الخلط بين ما قرأناه أو رأيناه من روايات وأفلام بوليسية والواقع الفظ لـ”جرائمنا”، من أجلهم يجدر بنا طرح السؤال البسيط المباشر؛ تبرئة أية جهة تضمر عدم وضعها في موقع مَنْ يرهب الآخرين، تضمر عدم الخوف منها، فهل يسمح الحزب لخصومه بهذا الترف؟ هل يسمح الحزب حقاً بتصديق إنكاره؟ هل يسمح بجدية تامة بأن يقتنع خصومه بأن إسرائيل مثلاً هي مَن قتل لقمان سليم؟
*المدن