وحده المنتخب الألماني، من بين ثمانية منتخبات معترضة على قرار الفيفا، لجأ لاعبوه إلى إعلان احتجاجه في أرضية الملعب بوضع أكفّهم على أفواههم دلالةً على ما يرونه تكميماً لأفواه المنادين بحقوق الإنسان. كما بات معلوماً، منع قرار الفيفا ارتداء شارة تدعم المثليين أثناء المونديال، ووحده الفريق الألماني حتى كتابة هذه السطور قرر التفرد بإبداء التضامن مع المثليين، وما فعله الفريق في أرض الملعب استكملته وزيرة الداخلية الألمانية التي ارتدت شارة التضامن وهي تتابع المباراة في المدرجات، وهكذا نقلت المسألة إلى بعدٍ سياسي-حكومي يتعدى تعبير اللاعبين عن موقفهم.
لم يخلُ الجدل المثار حول قرار الفيفا من الدمج بين الفيفا وقطر المضيفة للكأس، ليُضاف تسييس آخر إليه، يقوده المتربصون بالدولة المضيفة لأسباب سياسية غالباً. كذلك لم تغِبْ عن الجدل الحالي تلك المآخذ السابقة عليه، والتي يرفض أصحابها أصلاً منح قطر حق استضافة المونديال، مثلما لم تغب النظرة الاستشراقية التي ترى في الخليج خلطة من البداوة ومجتمع ألف ليلة وليلة معاً، من دون التوقف عند أسبقية “ألف ليلة وليلة” والثراء الاجتماعي الذي تمثّله، بما في ذلك ما يتصل بالحريات الجسدية.
في المقابل، تتنوع قائمة منتقدي سلوك الفريق الألماني، فلا يغيب عنه منتقدوه الألمان الذين تمنوا لو ركّز الفريق على أدائه في تلك المباراة ليتجنب الخسارة أمام اليابان، بدل الانشغال بسجال سياسي-حقوقي. لكن انتقاد هذه الفئة الأقل عدداً، وقد يكون من بينها مناهضون للمثلية، ينبغي ألا يحجب توجه الأكثرية الممثَّلة بسلوك الفريق وسلوك وزيرة الداخلية. حتى تراجع منتخبات أوروبية أخرى، هي منتخبات إنكلترا وويلز وبلجيكا والدنمارك وهولندا وسويسرا، عن ارتداء شارة التضامن من دون احتجاج لا يعكس تقدم المناصرين لحرية المثليين في مجتمعات هذه الدول.
فهْم محرِّك الاحتجاجات الغربية على قرار الفيفا سيكون ضرورياً لمنتقدين عرب يكررون، بلا طائل، انتقادات قديمة من نوع انتقاد الغرب الذي قد يستنفر من أجل حماية حيوانات تُصطاد من أجل جلودها أو أنيابها، بينما يصمت الغرب نفسه عن قضايا أكثر إلحاحاً في البلدان ذاتها، منظوراً إليها أيضاً بمنظار حقوق الإنسان وفي مقدمها حقه في الحياة.
من المفهوم لدينا ذلك الانتقاد الموجَّه إلى الفريق الألماني لأنه لم يعبّر في مشاركته السابقة عن أدنى احتجاج تجاه روسيا، الدولة المضيفة للمونديال آنذاك، في حين كان طيرانها يقصف المدنيين والمستشفيات والأفران ومدارس الأطفال في سوريا. ولا ندري ما الذي سيكون عليه حال المنتخب نفسه لو كانت البطولة الحالية مقامة في روسيا، بينما يقصف طيران بوتين كافة منشآت الطاقة الأوكرانية، فالحكومة الألمانية اتخذت مرغمة وعلى مضض موقفاً داعماً للأوكران، وقد لا يدنو التضامن الغربي مع الأوكران من التضامن الذي أشرنا إليه في ما يخص المثليين بوصف الأخير قضية داخلية.
في مثال آخر، وفي بلدان تخيّم عليه الهواجس المتعلقة بالبيئة، لا يُستبعد إطلاقاً أن يُنظر إلى بولسونارو، الرئيس البرازيلي المنتهية ولايته، كمصدر للخطر يفوق الخطر الذي يمثّله بشار الأسد. بالنسبة لهؤلاء تسببت سياسات بولسونارو بتدمير أجزاء ضخمة من غابات الأمازون الموصوفة ب”رئة الأرض”، ما يجعل منه خطراً على البشرية. أما الأسد، وهو لن يحضر للمقارنة في أذهانهم، فهو مجرد مشكلة محلية من حيث ضحاياه، ومن حيث التأثير البيئي المخرِّب لأسلحته.
علينا ألا نستغرب فيما لو استنكر مناصرو البيئة أثر تلك الأسلحة عليها، مع تجاهل الضحايا أو تبخيس قيمتهم، وفيما لو استنكر مناصرو المثلية اضطهاداً يعاني منه مثليون تحت حكم الأسد، مع الصمت على المجازر التي يرتكبها. لقد أدرك ذلك المذكورُ، أو أحد ما من ناصحيه، فرأينا استعراضات إعلامية تُظهر تسامحاً مع المثليين، رغم أن القوانين المعمول بها تحت حكم الأسد تجرّمهم، وتنزل بهم عقوبات قاسية. رأينا أيضاً استعراضات تتعلق بحرية المرأة، بما لا يعكس واقعها تحت حكم الأسد، إلا أن تلك الاستعراضات تلاقي الاهتمام الغربي بقضايا النسوية.
نستطيع القول أن قضايا من نوع المثلية، ومجتمع ميم عموماً، وقضايا البيئة، وقضايا النسوية، باتت تتصدر اهتمام شرائح واسعة في الغرب منذ مطلع القرن الحالي. في المقابل، تراجع اهتمام شرائح واسعة بقضايا مثل نشر الديموقراطية ومعاداة الديكتاتوريات عموماً، ومعها تراجع الاهتمام والنقاش في قضايا العولمة والعالمية.
كان النقاش في العولمة والعالمية قد انتعش في العقد الأخير من القرن الماضي، على خلفية انهيار جدار برلين، إلا أن هذا الحدث برمزيته دشن تحولاً صار اليوم معلناً أكثر من قبل، هو النكوص عن نشر الديموقراطية خارج الغرب. لقد أُنجزت المهمة؛ هذا لسان حال الغرب بعد سقوط المنظومة السوفيتية، لأن مشروع نشر الديموقراطية كان يستهدف أولاً الدول الأوربية الدائرة ضمن الفلك السوفيتي، وهو ما تحقق واكتفى به الغرب الأوروبي وغرب “حلف الناتو”.
بلدان كبلداننا غير موجودة في السجالات السياسية الغربية إلا من حيث لا يمكن تجاهلها، كمصدر للاجئين ومصدر للإرهاب، حتى من دون تعمق في الأسباب. اليمين، الذي يتاجر بهاتين الظاهرتين أكثر من أحزاب الوسط واليسار، يجد له جمهوراً لدى شرائح كانت تقليدياً تنبذه، خاصة لدى الشباب الجامعي الذي كانت أوساطه تشهد تضامناً مع قضايا الشعوب الأخرى، واليوم يفكر ثلثه في كيفية إقامة سدود لمنع تدفق اللاجئين الذين “يسرقون” من فرصه للعمل بعد التخرج، ولو تضمنت السدود دعم أنظمة وحشية، في حين ترى البقية منه “تقدميتها” في قضايا مثل البيئة والمثليين والنسوية.
بعبارة أخرى، يفقد المنطق الذي يقرّع الألمان على تضامنهم مع المثليين وعدم تضامنهم مع شعوب بأكملها وجاهته ما أن نصبح في الغرب؛ هو بالأحرى منطقنا الخاص، وهو ما نراه صواباً بقدر ما يرى الغربي في انحيازاته صواباً من نوع آخر. الأمر لا يتعلق بالمكان، ويمكن مقاربته زمنياً بشرط عدم النظر إلى هذه المقاربة من منظور الصواب السياسي أيضاً. زمنياً، نحن إزاء غرب غادر القرن العشرين وقضاياه، أما بلداننا فتكابد مع تعثر شديد لتضع قَدَماً فيه. من موقعنا ثمة الكثير من نقد الغرب المحق، والغرب من موقعه لا يرى أحقية لها، إذا تواضع وأنصت إليها، والأخلاق على الجانبين ليست هي الحكَم.
*المدن