قد اقتضى ذلك مرور ستّ سنوات على استخدام الأسد كافة أسلحته بما فيها الكيماوي، ووجود رئيس أمريكي بشعبوية ترامب، كي يحظى بشار الأسد منه بالقول: إنه حيوان. بوتين قطع المسافة بسرعة مذهلة حقاً، فبعد ثلاثة أسابيع ونصف من حربه على أوكرانيا نال من الرئيس الأمريكي بايدن وصف “مجرم حرب”. في الميزان؛ يتعدى ما قاله بايدن ذلك الوصف الشهير الذي أطلقه سلفه، فالمعني هنا وريث قطب دولي سابق وطامح إلى استعادة ذلك المجد، واختزاله إلى مجرم حرب فيه تحقير وشتيمة بالغة بصرف عن مصداقيته. ثم أتى تصريح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أول أمس ليؤكد على الشتيمة، بمعنى أنها لم تكن زلة من زلات لسان رئيسه. إنها إهانة، وبتعبير الكرملين: لا تغتفر.
مَن القائل: كل شعب… سيكون قادراً دائماً على التعرف على الحثالة والخونة ولفظهم تماماً كما تُلفظ ذبابة دخلت إلى الفم؟ ينبغي ألا يذهب تفكيرنا إلى الماضي البعيد فنظن أنه القذافي الذي وصف الثائرين عليه بالجرذان. حسناً، إنه أيضاً ليس بشار الأسد الذي كبح توقه إلى استخدام الشتائم ضد المتظاهرين، إلى أن جادت قريحته بعد ثلاثة شهور ليصف الثائرين عليه بالجراثيم. الأصل في القول أعلاه هو “كل شعب، وخاصة الشعب الروسي…”، والقائل هو بوتين الذي تفوق مرة أخرى على بشار بسرعته، فوصفَ الروس من معارضي حربه على أوكرانيا بالذباب بعد أقل من شهر على بدئها.
لا تصلح تسلية “من القائل؟” لمرتين على التوالي، لذا لا يصلح استخدامها مع قول بوتين: أنا متأكد من أن مثل هذا التطهير الذاتي الحقيقي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى جعل بلادنا أقوى. في قوله هذا يشير إلى استقالات بعض الموظفين الروس “خاصة من موظفي الإعلام”، وإلى سفر الألوف منهم خارج البلاد. في هذه قد يظن السوري أنها من أقوال بشار، وقد يرد إلى ذهنه حديثه الشهير صيف 2017، وملخصه “من الصحيح أن سوريا خسرت خيرة شبابها إلا أننا كسبنا مجتمعاً متجانساً”. لكننا، إذا عدنا أبعد إلى الوراء، سنعثر على التوأم الحقيقي لعبارة بوتين، ففي أواخر شهر آب2012 وصف بشار الانشقاقات عن سلطته بالقول: “عملياً، هذه العملية هي عملية إيجابية، وهي عملية تنظيف ذاتية للدولة أولاً وللوطن بشكل عام”. ربما الفارق بين العبارتين هو فقط الاختلاف البسيط في الترجمة بين العربية والروسية، يُضاف إليه مرة أخرى تفوق بوتين الذي لم ينتظر مثل بشار لأشهر حتى يبقّ الحكمة ذاتها.
هي ليست بالحرب على أوكرانيا فحسب، بل هي بالتوازي حرب على المعارضين الروس، والناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف عاد إلى تأكيد كلام رئيسه بالقول: “في مثل هذه الأوضاع تظهر حقيقة الكثير من الأشخاص على أنهم خونة ويخرجون من حياتنا بمفردهم. يستقيل البعض والبعض الآخر يغادر البلاد. إنها عملية تطهير. ويخالف آخرون القانون ويعاقبون وفقاً للقانون”. التهديد بـ”القانون” واضح لكل معترض على الحرب، أو على حكم بوتين عموماً، أما ما لا يقل عنه استهتاراً بالمواطنين الروس فهي الإشارة إلى أولئك المجبرين على مغادرة البلاد بوصفهم خونة، وأيضاً بوصف مغادرتهم عملية تطهير. لا داعي للقول أن هذه هي عقلية المزرعة لا الدولة، أو لتكرار الإشارة إلى وجه الشبه والتدليل بأطنان الشتائم التي تم توجيهها من الأسد وإعلامه ومواليه للاجئين السوريين.
تشير تقديرات استخباراتية غربية إلى أن الجيش الروسي في أوكرانيا فقد ما لا يقلّ عن 20% من قدراته القتالية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى، جراء الخسائر البشرية بين قتيل وجريح، وجراء الدمار الذي أنزله الأوكرانيون بمعداته. الحديث عن جيش جرار يُقدّر عدده بمائة وخمسين ألفاً، ويُفترض أنه جيش دولة لا على شاكلة قوات الأسد المعروفة شعبياً منذ عقود باسم “جيش أبو شحاطة”. مُني الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا بانتكاسة تذكّر بركاكة “جيش أبو شحاطة” أمام فصائل متواضعة تسليحاً، وعُزي السبب إلى سوء تقدير مستشاري بوتين الذين قدّموا له ما يحب سماعه عن إمكانية حسم المعركة في يومين. غير جديد عموماً، لمن يعرف طبع المستبدين الصغار، أن يتواجد إلى جانب بوتين فقط أولئك المتملقين الذين يقولون له ما يهواه، إلا أن ذلك ليس من طبع المستبدين الكبار الذين صنعوا إمبراطوريات عظمى في التاريخ.
بسبب تلك النكسات، وبسرعة مذهلة حقاً، تفوّق بوتين مجدداً إذ “وافق” على مشاركة المرتزقة في حربه بعد أسبوعين من بدئها. لقد استغرق ذلك من بشار شهوراً كي تنخرط الميليشيات الموالية لإيران بكثافة في حربه على السوريين، وشهوراً إضافية كي يعترف إعلامه “ثم يعترف هو شخصياً” بمشاركة ما يُسمى “قوات حليفة”. المعجبون بالقيصر الجديد قد يرون في سلوكه غيرة على أرواح جنوده، وهو افتراض يحتاج تدقيقاً شديداً بعد كلامه عن الخونة والحثالة والعملاء.. إلخ.
في الأسابيع التي سبقت إعلان الحرب وتلته، غابت تقريباً الصورة الشائعة عمّن كان يُلقّب بثعلب السياسة الخارجية، توارى وزير الخارجية سيرغي لافروف عن الصدارة، وفي إطلالاته القليلة بدا كأن مهاراته تبخرت فجأة، حتى تصريحاته أتت باهتة ركيكة تذكّر بأداء وزراء خارجية مستبدين صغار. المفاوضات التي سعى إليها الغرب، تفادياً للحرب أو من أجل وقفها، كانت مع بوتين شخصياً، في دلالة على عدم الثقة بأي وعد يقطعه مسؤول روسي أدنى منه. رداً على العقوبات الغربية، تعددت التصريحات الروسية التي تظهر عدم الاكتراث، بل راح بعضها يعدد فضائل العزلة الروسية عن الغرب، بينما أعلن بعضها الآخر انتهاء زمن السياسة. لقد استغرق وزير خارجية بشار وقتاً أطول ليقول: لقد محونا أوروبا من الخارطة. أما في مضمار عدم ثقة العالم بالوعود فما يزال بوتين متأخراً قليلاً في السباق.
كنا قد تابعنا فرضيات غربية حول صحة بوتين العقلية، وحول تأثير الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا عليه! في جزء منها، ربما تحاول هذه الفرضيات تفسير الانحدار الذي ظهر به، وكأن هذا غير بوتين المعروف، وبسببه ذلك ليس هو النظام الروسي على علاته، بل أكثر رداءة وانحطاطاً مما هو متوقع. لكن، بتفسير متواضع، يجوز لنا ردّ الأمر إلى حالة الطغاة عندما يوضعون على محك حقيقي، ويظهرون مجردين من هيبة “أمجادهم”. إنهم، في لحظة الاختبار هذه، يُظهرون تشابهاً مدهشاً حقاً، تشابهاً كان ليدفعنا إلى القول “بموجب المجاز الدارج” أن بوتين هو مجرد بشار الأسد إنما بعينين زرقاوين، لو لم يكن لهما لون العيون ذاته.
*المدن