ما ورد في التحقيق المشترك لدويتشه فيلهDW ومجلة ديرشبيغل الألمانيتين حول مجزرة الكيماوي في الغوطة “21 آب2013” ليس بالجديد علينا نحن السوريين، أهمية التحقيق الذي نُشر قبل خمسة أيام في صدوره عن جهتين إعلاميتين غربيتين، استناداً إلى تحقيق الادعاء الألماني بموجب الولاية القضائية الدولية، وكانت ثلاث منظمات حقوقية قد تقدمت بالشكوى أمام القضاء الألماني في السادس من شهر تشرين الأول. يُصادف أيضاً أن يُنشر التحقيق الصحفي بينما يتهيأ جو بايدن إلى دخول البيت الأبيض، وهو الذي كان في منصب نائب الرئيس عندما أبرم أوباما صفقة الكيماوي المشينة، مع خشية نسبة كبيرة من السوريين أن تكون سياسة بايدن تجاه سوريا ظلاً لسياسة أوباما.
باختصار، ذهب تحقيق دويتشه فيله وديرشبيغل إلى تحميل بشار وماهر الأسد، بشكل شخصي، مسؤولية تنفيذ الهجوم الكيماوي على الغوطة، مستنداً إلى القرائن التي تثبت تعذر حصول الهجوم إلا على هذا المستوى القيادي. هذا ما يعرفه ويتداوله معظم السوريين، حتى من مؤيدي الأسد، منذ شن الهجوم. في الغرب، سبق لخبراء أن أشاروا إلى توفر وثائق إدانة ضد سلطة الأسد لم تتوفر من قبل في أية قضية مشابهة، من حيث الحجم والتفاصيل الدالّة على عمل السلطة وآليات اتخاذ القرار، والشطر الأعظم منها ينتظر قراراً دولياً بمحاكمة الأسد ليُفرج عنه من مخابئ سرية أو من عهدة أجهزة المخابرات الدولية.
*المدن
لكن، من بين كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها ماهر وبشار تبقى لمجزرة الكيماوي مكانتها الخاصة والمحورية، ويمكن الجزم بأن ما قبلها لم يكن كما بعدها. أقل ما يُقال فيما قبلها أن أحداً لم يكن يتوقع من الأسد تحدي واشنطن التي أعلن رئيسها أوباما استخدام الكيماوي خطاً أحمر لن يتساهل معه إطلاقاً، ولن يبلغ الشطط بأحد ليتنبأ بأن تكون نتيجتها لصالح الأسد الذي حصل ضمناً على إقرار أمريكي ببقائه كمكافأة على اختراقه الخط الأحمر!
لم يكن بشار وماهر جالسين في حديقة القصر الرئاسي، بما أنه الصيف، وبسبب شعورهما بالضجر من استخدام البراميل وراجمات الصواريخ والصواريخ الثقيلة بادر ماهر إلى القول: ما رأيك بأن نلهو قليلاً بالسارين؟ فأجابه بشار: كنت للتو أفكر بجرعات عالية ومركزة من غاز الكلور، لكنك تقترح دائماً ما هو أشد وحشية. ثم يضحك الاثنان وتُسدل الستارة. ليس هذا ما يحدث في الواقع، لكننا على بعد سنوات مما حصل ربما نستطيع اقتراح مسار مختلف، يلتقي فيه بشار وماهر ليتفقا على تفاصيل ضربة الكيماوي، وهما مطمئنين إلى نجاتهما من العواقب، والنجاة لها معنى لن يخفى على أحد.
إننا نربط عادة بين مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني والموقف الأمريكي من الهجوم الكيماوي، ولعل هذا الربط العمومي يحتاج المزيد من القرائن كي لا يبقى مجرد تخمين، ولعل إعادة بناء المؤثرات التي سبقت الجريمة وتلتها أفضل ردّ على أوباما الذي يخوض هذه الأيام حملة علاقات عامة مع نشر مذكراته التي يظهر من جزئها الأول انعدام حساسيته كقائد أقوى دولة إزاء معاناة السوريين. تحديداً، ما الذي حدث بين خريف2012 وصيف2013؟
يصادف أن يذكّرني الفايسبوك بما كتبته على صفحتي في 29 تشرين الثاني2012 عن المعركة التي تدور أمام بيتي بين قوات الأسد والجيش الحر؛ كنت أقيم حينها في بناية تطل على طريق مطار دمشق الدولي، وفي حي صار كشبه جزيرة، خاضع للأسد ضمن محيط سيطرت عليه فصائل المعارضة، وقد رأيت بعيني طائرتين لقوات الأسد يتم إسقاطهما. كانت آنذاك السيطرة على مئات من الأمتار الإضافية فقط ستهدد سيطرة الأسد على دمشق بأكملها، لكن الوضع الميداني انقلب خلال أيام، لا بسبب دعم طهران وحزب الله الموجودين من قبل وإنما بسبب انقطاع الإمدادات عن الفصائل المهاجمة أو خضوعها لأوامر داعمين تطلب منها التوقف. بين خريف2012 وصيف2013، كانت قوات الأسد وحلفائها قد وضعت الغوطتين تحت الحصار، وزال الخطر العسكري عنها في دمشق، مع بروز التأكيدات وتكرارها عن عدم وجود حل عسكري لـ”الأزمة” السورية، اللازمة التي عنت منذ إطلاقها عدم إسقاط الأسد عسكرياً. بعبارة أخرى، لم يكن الأسد مضطراً لاستخدام السلاح الكيماوي على نحو يغامر فيه برد أمريكي صاعق.
أقيلت هيلاري كلينتون من منصبها كوزيرة للخارجية في بداية شهر شباط2013، وخروجها من الوزارة أتى تتويجاً لخلافات بينها وبين أوباما للسياسة في منطقتنا قسط وافر منها، ومن ذلك الخلاف حول التعاطي مع طهران وأثره على المسألة السورية. لم تكن هيلاري متحمسة للمفاوضات مع طهران، كانت خاصةً مترددة ومتشككة تجاه قناة التفاوض السرية في مسقط، بخلاف جون كيري الذي كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والذي سيخلفها في المنصب. أوباما كان مولعاً بفكرة الوساطة، بحسب ما كتبه في نيويورك تايمز مراسلها في البيت الأبيض مارك لاندر2016، وأرسلت هيلاري وفداً للتفاوض في مسقط لتقطع طريق التنازلات على جون كيري المسنود بولع ولهفة رئيسه.
إبعاد هيلاري والإتيان بكيري أذن بانطلاق قناة التفاوض السرية، من دون التحفظات السابقة لوزارة الخارجية، ومع رئيسٍ اختار أن يكون الملف النووي الإيراني إنجازه الفريد في السياسة الخارجية. فكرة الوساطة كانت قد انطلقت في كانون الأول2010، لكن كلينتون أعربت عن شكوكها وتحفظاتها خلال زيارة سرية لمسقط في الشهر التالي، بينما كان جون كيري يقوم بأكثر من زيارة ويلتقي لأكثر من مرة بمستشار السلطان، على الأرجح بتنسيق مع أوباما وتشجيع منه. كما هو متوقع وشبه مؤكد، لم تكن المفاوضات السرية تقتصر على الملف النووي وإنما تتناول ولو مواربةً التمدد الإيراني في المنطقة، وسوريا أهم نقاطه الساخنة حينئذ. كإعلان متأخر، سيصرح أوباما بأن الأمر يعود لقادة طهران، فإما أن يصرفوا الأموال التي كانت محتجزة بموجب العقوبات على شعبهم أو على مغامراتهم العسكرية الخارجية، ذلك التصريح يوضح موقف أوباما بل انعدام حساسيته إزاء ضحايا التدخل العسكري الإيراني.
في صيف2013 نفترض أن المفاوضات السرية قد بلغت مستوى ما مبشراً بالنجاح، ربما لم تكن طهران واثقة تماماً من النوايا الأمريكية الإيجابية، وربما اقتضى التأكد اختباراً ما. الافتراض الوحيد الذي له نصيب من المنطق أن تكون طهران عند عتبة من تلك المفاوضات قد أوعزت إلى الأسد باستخدام الكيماوي، وكان لديها ما يطمئنها بنسبة كبيرة إلى أن الأمر سيمر بلا عواقب، ولا يُستبعد بالطبع أن تكون موسكو على دراية بما سيحدث أو بجانب منه.
صحيح أننا لن نتمكن من التأكد من الفرضية السابقة ما لم يكشف لنا أحد من الأطراف الفاعلة بالتفصيل عما كان يحدث حينها، ومثل هذه الأسرار لا تُكشف إلا بعد عقود، إلا أن انتفاء الحاجة العسكرية إلى الكيماوي يضع استخدامه في مسار تفاوضي ما، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك سوى مسار مسقط. لقد كان مضموناً إلى حد كبير ألا تقدم إدارة أوباما على رد انتقامي، وكان مفهوماً أن تخوف الإدارة الأمريكية من السلاح الكيماوي متصل أساساً بالاعتراضات الإسرائيلية عليه.
من وجهة نظر مغايرة قليلاً للسائد، ها هو بشار الأسد يستخدم السلاح الكيماوي ضد السوريين، هو وأبوه من قبل صنّعا هذا السلاح ضد السوريين لا ضد تل أبيب. فهو كما نعلم لم يرد إطلاقاً على أي اعتداء إسرائيلي، ولو كان رداً رمزياً لحفظ ماء الوجه، بينما أفرط في استخدام الأسلحة ضد السوريين ومنها الكيماوي الذي لم يكن مضطراً لاستخدامه. هذه الرسالة ضرورية للتنصل لاحقاً من الالتزام بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة الكيماوية التي كان التوقيع عليها ثمناً رمزياً يدفعه، فالتحايل على المعاهدة وعدم تسليم المخزون كله أو تصنيع كميات جديدة كانت ترتكز جميعاً على إخلاص الأسد لاستخدامها داخلياً فقط، وتحظى بالصمت الدولي بناء عليه.
ثمة رسالة أخرى لم يتوقف الأسد وحلفاؤه عن التلويح بها، هي اتهام فصائل معارضة أو إسلامية باستخدام السلاح الكيماوي. هنا تلويح مزدوج، فإسقاط الأسد وسيطرة تلك الفصائل على مخزونه الكيماوي فيه مخاطرة قد تتعدى الحدود، لا لأن تلك الفصائل ستبادر إلى محاربة إسرائيل ولكن لأن سيطرتها قد لا تكون محكمة كسيطرة الأسد. المعنى الآخر أن تصنيع الكيماوي واللعب به لن يكون صعباً، وفي وسع الأسدية التصرف كتنظيم فالت عند الضرورة.
عندما أعلن أوباما خطه الأحمر الشهير كان الإعلان ذاته مستغرباً، إذ يضع سقفاً للأسد يبيح له استخدام ما دونه من أسلحة، وكان مستبعداً أيضاً إقدامه على استخدام الكيماوي إلا إذا وصل إلى حالة متقدمة جداً من اليأس. لم يكن في الحسبان أن يتحول الكيماوي من سلاح إبادة إلى سلاح يُستخدم لأغراض سياسية تكتيكية، رغم اتفاقنا على لاأخلاقية معظم السياسات الدولية. وتحوّلُ السلاح الكيماوي إلى أغراض سياسية تكتيكية يثير المخاوف، فقد رأينا اختباراً في عهد ترامب الذي كان همه إثبات حزمه واختلافه عن سلفه ترامب، وقد يتكرر الاختبار مع الرئيس الأمريكي المقبل، بتشجيع من ماضيه كنائب لأوباما، أو بتشجيع من اتصالات ومفاوضات سرية مع طهران لا نعلم ما إذا كانت قد بدأت أو في طور التحضير أو النوايا. الإشارة الإيجابية الوحيدة أن وزير الخارجية المقبل أنتوني بلينكن كان من أنصار معاقبة الأسد، لأن الدول العظمى تفي بوعودها. ربما علينا أن نرى ما إذا كان الوزير الجديد سيبقى وفياً لرأيه، وما إذا كان رئيسه سيبقى أو سيخرج من جلباب أوباما. في الانتظار، من المؤكد أن بشار الأسد وشقيقه ماهر جاهزان ومتلهفان لأية إشارة، من طهران أو موسكو، لممارسة هوايتهما في استخدام الكيماوي.