نطق بشار الأسد قبل يومين بما قاله كثر من قبل عن تأثير أزمة المصارف اللبنانية سورياً، ما أضافه بشار قوله أن تلك الأزمة هي جوهر المشكلة الاقتصادية التي تكابدها سلطته. لا فساد السلطة “أو ما يدعوه أخطاء حكومية”، ولا الحصار المستمر منذ سنوات بحسب زعمه، ولا قانون قيصر الذي سبقته الأزمة؛ كلمة السر في ما يعانيه السوري هي المصارف اللبنانية.
بتصريحه، خالف بشار إعلامه الذي واظب منذ شهور على تحميل العقوبات الأمريكية مسؤولية الأزمات المعيشية، خالف أيضاً ما دأب عليه خطاب الممانعة من التغني بالحصار ومقاومته التي تتشبه أو تقتدي بالاستشهاد، وخالف أخيراً الخطاب الرسمي الروسي الذي راح مؤخراً يزيد من التصويب على العقوبات لتحميلها مسؤولية الفشل الاقتصادي. لا ندري ما إذا كانت مقصودةً مخالفةُ خطاب المنظومة التي ينتمي إليها، إلا أن التصريح يقول شيئاً ما لا يُقال عادة، وما ينطوي عليه لا يقل أهمية عن الذي قيل. إن تحميل المصارف اللبنانية المسؤولية هو الرأس الذي دونه الكثير من التفاصيل، وبشار يخاطب جمهوراً يفترض أنه عارف بها.
من المحتمل جداً أن يكون بشار قد بالغ في حجم الودائع السورية المحتجزة في المصارف اللبنانية أسوة بغيرها من الودائع، للمبالغة هنا وظيفةُ التأكيد على حجم الكارثة، هو نفسه يستطرد بالقول أن ذلك الرقم مخيف بالنسبة لاقتصاد مثل الاقتصاد السوري. ما ينبغي فهمه من دون تصريح أن تلك الودائع “صديقة”، بمعنى أنها لرجالات السلطة وشركائها، وهنا تأكيد على تكهنات طُرحت سابقاً في إطار التحليلات الصحافية، ومَن يعلم طبيعة شراكات السلطة لا يستبعد أن يكون جزء من الأموال المحتجزة لعائلة الأسد نفسها التي تستخدم العديد من الواجهات المعروفة، والتي يتوالى الكشف عن المستور منها بعد افتضاح سابقاتها ووضعها على قوائم العقوبات الغربية. من هذه الجهة، ربما تكون أزمة المصارف قد أوجعته شخصياً، مع عدم إيلاء هذا السبب الموقع الأول من الاهتمام رغم كل ما هو متداول عن جشع العائلة الحاكمة إلى الأموال.
عندما يتحدث بشار عن أرصدة يُفهم أنها “صديقة” فهو لا يتحدث عن أرصدة سوريين هربوا بها طلباً للأمان، إنه يتحدث عن أموال غادرت البلاد بإشراف من سلطته لتؤدي مهمة عبر البوابة اللبنانية. لا نحتاج نباهة خاصة لنحظى بهذا التفسير، وبشار بدوره لا يراهن على نباهة خاصة بجمهوره كي يفهم الأمر على هذا النحو، وإذا كان من تفصيل أُهمل في السياق فهو الأثر المحتمل للشقاق بينه وبين ابن خاله رامي مخلوف، حيث تزامن بدء التدهور الاقتصادي مع ظهور ذلك الشقاق إلى العلن، ومع ما أشيع عن ضغوط روسية لمكافحة الفساد.
ما يريد بشار قوله لجمهوره أنه كان قد تحسب جيداً للحصار وللعقوبات الدولية، وأعدّ عبر البوابة اللبنانية كل ما يلزم للاحتيال على العقوبات والحصار. لم يكن قانون قيصر ليعني له شيئاً، ولا العقوبات الأوروبية قبله، ما دام الاحتيال عليها ممكناً، الكارثة هي في إغلاق بوابة الالتفاف على العقوبات. نحن، بحسب التصريح وما ينطوي عليه، إزاء رئيس لا تنقصه الحنكة أو الدهاء. ليس مهماً ما إذا كانت أساليب الالتفاف على العقوبات تُسوّق كنوع من الشطارة والفهلوة، وليس مهماً أيضاً أن الاعتراف بها يؤكد على اتهامات دولية بالالتفاف على العقوبات من أجل الحصول على مكوّنات أسلحة كيماوية.
هو الحظ العاثر ليس إلا، هذا ما يقودنا إليه المنطق السابق، فلولا أزمة المصارف اللبنانية لما كانت هناك أزمة خانقة في سوريا. علينا الاقتناع تالياً بأن حل موضوع العقوبات لم يكن ولن يكون في السياسة، بل في البحث عن سبل التفاف جديدة أو استعادة القديمة، الحل في الشطارة لا في السياسة. بل لعل الحل لن يكون إلا بعودة المصارف اللبنانية إلى تعاملها السابق على الازمة، وبعودة مرفأ بيروت إلى طاقته الاستيعابية ونشاطه السابقَين على الانفجار، مع استعداد الشركاء اللبنانيين لتسهيل عمل العصابات السورية الناشطة في التهريب والتهرب من العقوبات.
الحل الأخير، على استحالته في المدى المنظور، يجب النظر إليه بواقعية أكبر من انتظار تغيير في “سياسات” الأسد يؤدي إلى تخفيف العقوبات الغربية. أن يعتبر بشار العقوبات الأمريكية شأناً ثانوياً، بالقياس إلى ما يعتبره جوهر المشكلة وهي أزمة المصارف، فهذا يجب أن يؤدي تلقائياً إلى انتظار حل جوهر المشكلة وعدم التركيز على ما هو ثانوي. هذا القياس المنطقي ينبغي أن يدحض قياساً منطقياً آخر، فلو كانت العقوبات الأمريكية جوهر المشكلة لتوجب إما الصمود أمامها، وهذا ضمن الواقع الحالي يعني المجاعة والانتحار “الاستشهاد الجماعي واقعياً لا مجازياً وفق التغني الممانع بالصمود”، وإما تقديم “تنازلات” مطلوبة بموجب قانون قيصر. العبرة هي في أن رواية أزمة المصارف تخدم الأسد أكثر مما يخدمه إلقاء اللوم على العقوبات بشكل رئيسي، أزمة المصارف هي أشبه بالقدر الذي لا حيلة أمامه سوى أن يصحح هو مساره.
تصريح بشار لم يكن زلة لسان، إلا من حيث الكشف عن المخرَج الذي يراه لتفادي بعض آثار العقوبات الأمريكية. حلفاؤه في لبنان يريدون أيضاً الوصول إلى تسوية حكومية تعود بهم إلى الوضع السابق على الانهيار، وحتى في جهة الخصوم اللبنانيين المعلنين لا يُستبعد وجود من يريد سراً حصته من عمليات تهرب واسعة من العقوبات. ما يراه الأسد وشركاؤه اللبنانيون شطارةً في الالتفاف على العقوبات لم يكن ولن يكون بعيداً عن مرأى الإدارة الأمريكية الحالية أو المقبلة، وخارج ما هو رسمي ومعلن تستطيع الإدارة ضبط حدود تطبيق عقوباتها، وأيضاً ضبط سبل التهرب منها، ولا يندر في مثل هذه الحالات أن تتشدد في إعلان العقوبات وأن ينوس التطبيق العملي بين التشدد والتراخي وفقاً للظروف.
أهم ما ينطوي عليه تصريح بشار أن العقوبات الأمريكية باقية إلى أجل طويل، ولهذا السبب هي ليست جوهر المشكلة ولا جوهر الحل! الحل المنتظر سيأتي من لبنان الخاضع بدوره لمراقبة دولية شديدة، وإما أن تسمح الأخيرة بعودته بوابةً للأسد، أو أن تضيّق المسموح به ليقتصر على نافذة صغيرة لا بد منها كي لا تكون العقوبات قاتلة.
*المدن