لم تبدأ العملية العسكرية التركية المرتقبة في الأسبوع الماضي، إلا أن التأكيدات على حدوثها في الأسبوع الذي يليه لا تقل عما سبق. ساعة الصفر قد تُعلن في أية لحظة، والاستعدادات العسكرية مكتملة حسب ما تشير إليه كافة التقارير الواردة من أنقرة، أو من مصادر في “الجيش الوطني” المدعوم منها. الوجهة الأولى للهجوم هي تل رفعت، وكان الرئيس التركي قد أشار إليها تحديداً، هي ومنبج التي ربما لم تُبرم بعدُ مع واشنطن التفاهمات النهائية الخاصة بها.
يُفترض أن يكون تصريح أردوغان قد أتى بناء على معطيات تسمح به، بمعنى تلقيه موافقة غير معلنة من واشنطن وموسكو، إذ من المستبعد أن يورط نفسه في تعهد لا يستطيع الوفاء به، خاصة وهو في مستهل سنة انتخابية استهلها مبكراً بإعلان ترشحه. في هذه الأجواء، زار وزير الخارجية الروسي أنقرة، وأبدى في مؤتمر صحفي عقب المحادثات مع نظيره التركي تفهماً لمخاوف أنقرة الأمنية، مع أنه لم يعلن موافقة بلاده على عزم أنقرة التحرك عسكرياً، وبالطبع لم يكن ذلك منتظراً منه في مؤتمر صحافي. للمصادفة، قبل يومين أبدى الأمين العام لحلف الناتو تفهماً مماثلاً لمخاوف تركيا من “الإرهاب”.
تركزت محادثات لافروف على ملفين، أولهما محاولة إعادة تصدير الحبوب عبر ميناء أوديسا، بضمانة من أنقرة التي تلعب دور الوسيط بين موسكو وكييف. الملف الثاني غير المعلن هو نية تركيا التحرك عسكرياً للسيطرة على تل رفعت، ومن المرجح حسب التصريحات القادمة من أنقرة، ومن قادة “الجيش الوطني” التابع لها، أن النقاش في هذا الملف كان مصيره أفضل من ملف تصدير الحبوب عبر أوديسا.
كأن فتح ميناء أوديسا مطلب لموسكو أكثر مما هو لأصحابه، بموجب ما ينطوي عليه من نزع الألغام البحرية التي تساعد في حماية المدينة من الهجوم الروسي. لكن مفاوضات أنقرة لم تربط بين الملفين على قاعدة أوديسا مقابل تل رفعت، وإن كان ما يربط بينهما باقياً، فالخدمة التي لم يقدّمها أردوغان لبوتين في أوديسا لا تزال مطلوبة ومنتظرة منه.
بتصويبه على تل رفعت ومنبج، يريد أردوغان قبض ثمن من موسكو وواشنطن، وهذا للوهلة الأولى يبدو شبه مستحيل، لأن العداء بينهما في الأوج كما لم يحدث منذ انتهاء الحرب الباردة، ويصعب تصور مقايضة ممكنة مع كليهما. من المتوقع على نحو واضح جداً وحاسم أن تطالب واشنطن بتغيير موقف أنقرة الرافض لانضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، وأن تشترط موسكو بقاء أنقرة على موقفها هذا لقاء التنازل لها عن تل رفعت.
لكن الأقرب إلى الواقع أن الرابط بين تل رفعت وأوديسا هو خارج تلك المقايضة المتصلة بحلف الناتو، ورغم الأدلة التي قدّمتها موسكو على أن وعودها ليست محل ثقة فقد يكون سعيها إلى فتح موانئ أوديسا صادقاً، أقله لأنها تريد فتح حركة الملاحة في البحر الأسود، مع مكسب معنوي ثانوي متصل بإبداء حسن النية إزاء البلدان المستوردة للقمح. إن صفقة تتضمن تصدير الحبوب من أوكرانيا لا بد أن تمنح الميزات ذاتها لروسيا، ومع أن الثانية ليست محاصرة عسكرياً أو تحت القصف إلا أنها محاصرة مالياً بحيث يصعب عليها إيجاد مشترين للحبوب الروسية.
أثبت الأوروبيون استعدادهم للتخلي سريعاً عن إمدادات النفط والغاز الروسيين، وهذا ما لم يكن في حسبان بوتين، وهو ما سيقرّب أزمة الاقتصاد الروسي الذي امتص صدمة الرزمة الأولى للعقوبات بفضل ارتفاع أسعار النفط. بمعنى أن موسكو باتت بحاجة أكبر إلى تصدير منتجات غير النفط مطلوبة من زبائن خارج الدول التي فرضت عليها العقوبات، وما يجب أن يلفت الانتباه الصمت الغربي الذي تضمن الموافقة على الوساطة التركية التي لن تتوقف عند صادرات أوكرانيا من أوديسا، وأكثر منه إعلان باريس عن استعدادها لدعم الفكرة التي أعاقها حتى الآن الرفض الأوكراني.
جدير بالتذكير أن أنقرة، من بين حكومات الناتو، لم تشارك في العقوبات على موسكو. ويجدر الانتباه إلى أن العقوبات على موسكو بمثابة فرصة لأنقرة كي تستفيد منها على الصعيد الاقتصادي، لا فقط السياسي أو العسكري، وبقدر ما هي الآن وفي المدى المنظور حاجة لموسكو بقدر ما يبدو ذلك مقبولاً أيضاً من واشنطن وحكومات الناتو والاتحاد الأوروبي التي لم تنتقد تخلف أنقرة عن المشاركة في العقوبات! من الاحتمالات التي لا ينبغي إهمالها أن تكون تركيا واحدة من سبل التفاف موسكو على العقوبات الغربية، وهذا قد يطول ما دامت حرب الاستنزاف الأوكرانية مستمرة.
إن مجمل المصالح المتبادلة بين أنقرة وموسكو المعاقَبة غربياً أهم للكرملين من مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، لذا لن تعيق الموافقة التركية على انضمامهما “عندما تحدث” شبكةَ المصالح الواسعة والمعقدة تلك. ومن المرجح أن تكون موسكو مستسلمة لفكرة انضمام الجارتين إلى الناتو، على الأقل في الوقت الحالي الذي تتعثر فيه من أجل قضم أراض أوكرانية كافية للإعلان عن تحقيق نصر يبرر الخسائر الفادحة.
في الجهة المقابلة، من الملاحظ أن تعزيزات قوات الأسد أتت بالتنسيق مع طهران وميليشياتها، وذلك يتضمن الفرقة الرابعة المقرَّبة من طهران. هذه التعزيزات قد تصعّب من مهمة الجيش التركي وفصائل المعارضة التي تعمل تحت تغطيته، إلا أنها لن تمنع أنقرة من الوصول إلى هدفها الذي أخذت الموافقة عليه. الحشد العسكري المضاد للهجوم التركي هو واجهة لاعتراض إيراني على تمدد المنافس الإقليمي التركي، بينما تتوالى الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا بموافقة روسية. إن مقاومةً إيرانيةً تتخطى المناورة والمساومة لن تكون اختباراً لأردوغان، بل ستكون اختباراً لنفوذ بوتين في سوريا!
قد لا تضيف الممانعة الإيرانية جديداً نوعياً، فمن طبيعة كافة التفاهمات التي أُبرمت في سوريا أن تنفيذها أتى بعد جولات من العنف الشديد. أما تصريحات بشار الأسد عن مقاومة الاحتلال التركي فهي من ناحية الشكل مشابهة لتصريحات صادرة عن الإدارة الذاتية تنادي بالتصدي المشترك مع الأسد للقوات المهاجمة، ومن حيث المضمون فإن ترجمة تصريحات الأسد هي المطالبة بحصة من مواقع قسد مقابل ما ستأخذه أنقرة. مرة أخرى، ستحجب المعركة المقبلة واقع أن قسد تدفع الثمن مضاعفاً، للطرف المهاجم، وللطرف الذي استنجدت به وخذلها.
*المدن