قد يصحّ على كثير من الآباء القول أن فجيعتهم بموت أبنائهم مساوية لمكنوناتهم إزاء موتهم الذي يتحاشونه، أو تزيد عن ذلك لأن صدمة موت الأبناء تخالف المألوف المنتظَر في تراتبية الموت. بهذا المعنى الإنساني، قد يتجاوز عنواننا لحظة الانفعال الأولى للأب المكلوم، ليكون جورج وسوف “أبو وديع بالتعبير المحبَّب لعشاقه” كمَنْ شهد حقاً موتَه وجنازته.
نتوقف هنا على نحو خاص عند طبيعة الأضواء التي عادت بهذه المناسبة المؤلمة لتتسلط على وسّوف، هو الذي اعتاد الأضواء منذ صغره. ونتوقف عند الجدل السياسي الذي أثاره الحدث بين السوريين، على خلفية موقف وسّوف “السوري الأصل” من اندلاع الثورة ضد الأسد، مع التنويه بأنه تجاوز لجهة اتساعه واستمراره جدالات سابقة أثيرت حول راحلين بسبب مواقفهم السياسية، والتنويه بأن موضوع الجدل هذه المرة ليس الراحل وديع جورج وسوف وإنما هو الأب الحي.
جملة بسيطة من قبيل “راح وديع يا أم وديع” انتشرت ونال تسجيلها عدداً ضخماً من المشاهدين، وكان وسّوف وجهها إلى طليقته أم ابنه بالحسرة وعدم التصديق اللذين قد يصدرا عن أي أب في هذا المقام. هذا مثال من بين الكثير من الأمثلة عمّا يكتسبه العادي إذ يصدر عن ظاهرة استثنائية، ومثال أيضاً على الأضواء الإعلامية التي لاحقت حدث الوفاة المؤسف بأصغر تفاصيله بما يبدو تلبيةً لفضول عشاق أبي وديع، لكنه من جانب آخر يكرّس ويزيد في استثنائيته التي صارت كأنها من البديهيات.
هكذا، يقدّم لنا عشاق وسّوف درساً معهوداً، يُنسى غالباً، هو جعل الحب مبرِّراً للإعلاء من شأن ما قد يكون عادياً، مع ميل لاعتبار الحب بديهية لا تحتاج إلى تبريرات مقنعة تمرّ عبر العقل. خلاصةُ أن “الحب يبرِّر ولا يُبرَّر” تُسحب من الحيز الإنساني الشخصي إلى الحيز العام، لتصبح مانعاً لنقد المحبوب، وصانعة لاستبداده على المشاعر التي بدورها “في هذه الحالة” تستبد بالعقل. أليس هذا هو الدرس النموذجي للاستبداد؟ ألم يُروَّج للطغاة كظواهر استثنائية، رغم انكشاف تهافتهم هنا أو هناك؟ هي أسئلة لا تذهب إلى الحب والإعجاب المتحصِّلين بالقوة المباشرة لجلّادي المخابرات، بل إلى الإعجاب الحقيقي الذي يحظى به قادة في سدة الحكم، أو البعض منهم ممن بقي حاضراً كظاهرة رغم رحيله.
ربما يُقال أن صناعة النجوم وعبادتهم لا صلة لها بالاستبداد، بدليل وفرتها في دول الغرب الديموقراطية. هو كلام يصحّ من حيث الشكل فقط، حتى إذا نحّينا مؤقتاً الاعتراضات على الاستثمار التجاري في صناعة أولئك مع صرف النظر كلياً عن كافة الاعتبارات باستثناء جني الأرباح. ما يميز صناعة الظاهرة في الغرب أنها في إطار تنافسي، لا في إطار احتكاري أو شبه احتكاري كما هو الحال لدينا على مثال الحال السياسي.
في مثال معروف يجدر التفكير به، نال مايكل جاكسون من الشهرة ما لم ينله مغني بوب على الإطلاق، إلى أن صار ظاهرة ونجماً بمعنى أن يكون له مقلِّدون يتشبّهون بطريقة لبسه أو حركاته، وصولاً إلى إجرائهم عمليات “تجميل” لاكتساب الشبه بـ”ملك البوب”. هذا كلّه لم يصنع ديكتاتورية عصيّة على النقد الفني، أو حياةً شخصية منزَّهة عن كشف ما فيها من انتهاكات؛ أقلّه الانتهاكات التي ارتكبها جاكسون نفسه.
قد تصدمنا، في أفلام وبرامج عن جاكسون، رؤية ضحايا اعتداءاته الجنسية وهم يتحدثون عنه بمزيج من الألم والحب، إلا أن المزيج على قدر ما يحتمل من علل نفسية فإنه يكشف عن عقلية لا تربط الحب بالتقديس أو التنزيه. لنتخيَّل الآن سلوك عشّاق الظواهر الفنية أو السياسية لدينا، ولنتذكّرْ دفاعهم عن معشوقهم بمنطق “وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ”، والأسوأ مما يرمي إليه هذا الشطر الشعري الشهير للإمام الشافعي استعداد أولئك العشاق لمحاربة مَن ينتقدون معشوقهم، المحاربة التي تبقى في إطار العنف الرمزي عندما لا تمتلك أنياباً ومخالب واقعيين.
في جدال السوريين حول جورج وسوف، لمناسبة وفاة ابنه، رأينا تلك العين الكليلة لدى معجبيه، بينما حضرت عين السخط “باستعارة الشطر الشعري الثاني” لتظهِر مساوئ وسّوف لجهة موقفه السياسي، وغالباً مع التوقف هنا. وكتعبير عاطفي انتقامي، لم نعدم ردود أفعال من عشاق قدامى له، خُذلوا بموقفه السياسي الموالي للأسد فراحوا يختزلونه إلى مجرد “شبّيح صغير تافه”، في مقلوبٍ تام عن عشقهم القديم له بوصفه “سلطاناً” للطرب.
على سبيل المثال، تجاهل العشاق “من غير موالي الأسد” صورة متداولة يظهر فيه وسوف وهو يأكل بمفرده من إناء ضخم جداً جداً مليء بالسوشي، بينما ركّز عليها مهاجموه بالقول أنه التقطها خصيصاً للنكاية بأهالي مضايا والزبداني اللتين كانتا محاصرتين بقوات الأسد. في هذا المثال، حيث يطغى النقاش المسيَّس، ثمة فرصة مضيَّعة للقول أن ذلك الإناء الضخم الطافح بالسوشي أمام شخص واحد هو منظر بشع مؤلم إنسانياً، حتى إذا لم تكن الصورة على سبيل النكاية السياسية أو الشخصية، وحتى إذا استبعدنا مشاعر ملايين الفقراء والجوعى عبر العالم إزاء صورة من هذا النوع.
في مستهل صيف 2011 راج التسجيل الذي يغني فيه وسوف لبشار الأسد، وفي آب من العام نفسه تداول مؤيدون للثورة تسجيلاً قديماً يغني فيه علي الديك بحضور رامي مخلوف وجورج وسوف الذي يركع أمام مخلوف، وكأنه على وشك تقبيل قدميه أو تقبيل الأرض أمامه. بما لا يقل إسفافاً في العلاقة مع السلطة، قبل ست سنوات تماماً نعتَ وسوف في لقاء تلفزيوني على قناة “التاسعة” التونسية المغنية أصالة بـ”الفاجرة”، لأنها بتعبيره “خانت بلدها سوريا”.
لا نريد رصد المواقف السياسية لوسوف، والتي تصب جميعاً في المنحى ذاته. ما نراه أكثر أهمية هي الطريقة المسفّة التي يعبّر بها عن ذاته؛ سواء بالتقاط صورة مع كمية ضخمة من الطعام أو الانحناء أمام مخلوف، بعد تهليل منه وتشجيع لعلي الديك. ولعلنا بهذين المشهدين أمام حدّين متعلقين بالسلطة؛ امتلاكها عبر فائض من الطعام، والرضوخ للأقوى بركوعه أمام رامي مخلوف.
من دون أن يكون هذا تبريراً لمواقفه السياسية، يمكن بقليل من الانتباه رؤية وسّوف بوصفه ضحية للسلطة ذاتها منذ برز وهو في بداية مراهقته. نذكر هنا أن نقابة الفنانين لم تصرّح له بالعمل بسبب عدم بلوغه السنّ القانوني، إلا أن تدخّل المحسوبيات ألغى القرار بذريعة غريبة هي امتلاكه صوتاً أكبر من عمره!
الذين عاصروا تلك المرحلة يتذكرون الإعلانات التلفزيونية لحفلات يحييها “الطفل المعجرة جورج وسوف” رفقة راقصة بعينها، وإشارتنا إلى الراقصة لا تهدف للتقليل من القيمة الفنية للرقص؛ هي إشارة إلى الجو المسفّ المعروف عن الكباريهات السورية “ثم اللبنانية” التي راح الطفل المعجزة يحيي حفلاتها الممتدة حتى الفجر. إذا كان والدا جورج لم يفكّرا في حمايته من أجواء غير مناسبة لسنّه فقد كانت حماية طفولته ومراهقته واجباً من واجبات السلطة التي شارك إعلامها بانتهاكهما، فكان المجد المبكر الذي ذاقه مسموماً بتحالف السلطة مع أسوأ ما ترمز إليه كباريهات تلك الفترة، وأغلب الظن أنه بقي مسموماً مع إسباغ لقب “سلطان الطرب” عليه من ذلك التحالف نفسه، التحالف الذي لاستثماراته الخاصة رأيناه مع رحيل وديع كأنه يستعجل المشي في جنازة أبيه.
*المدن