عمر قدور: في رثاء “قتيل النظام”

0

انتشرت بين السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي آخر كلمات كتبها مقاتل في صفوف قوات الأسد، الكلمات التي يتضح منها معرفته بأنه أصبح في عداد القتلى، وبسبب اضطرابها “واضطراب حالة كاتبها” صارت عرضة لتأويلات مختلفة، بما فيها ما هو خارج عن المنطق الإنساني. مثلاً يخاطب الشاب أمه وزوجته طالباً منهما الفرح لأن دمه هُدر رخيصاً، فيجد البعض في هذه العبارة لوماً أو عتباً لأم وزوجة أرادتا له الذهاب إلى القتال والتضحية برخص. ما يسهّل مثل هذا التأويل، وفق تصنيف دارج، أن القتيل علَويّ ولا بد أن يكون هو وعائلته من عتاة المؤيدين.

يصادف أن يرثي الشابَ بعض من معارضي الأسد، ومنهم من اختبر معتقلاته قبل الثورة وبعدها، بينما يصادف أن يوجد بين المعارضين من يستخدم رسالة الشاب من أجل الشماتة بموالي الأسد وقتلى قواته. بين الجانبين، تبدو القضية محيّرة لكثيرين، فالشاب قُتل وهو يحارب ضمن قوات الأسد على جبهة إدلب، ومعركة الإبادة التي تخوضها تلك القوات تجعل من الاصطفاف محتماً، فإما أن ينصرف التعاطف إلى الضحايا الذين يسقطون يومياً تحت نيران قوات الأسد والحليف الروسي أو إلى القاتل وقواته.

من المفارقات المرّة في الحالة السورية أن والد القتيل معارض للأسد، واعتُقل أكثر من مرة، آخرها بسبب وقوفه مع الثورة. قبل أيام قليلة دخل هذا الأب في نقاش، على صفحته في فايسبوك، مع شخص يردد رواية الأسد ومواليه، فطلب من ذلك الشخص مغادرة صفحته مصراً على كونها ثورة لا مؤامرة. اليوم يصعب علينا تخمين حالة الأب، فهو فقد ابنه دفاعاً عن قضية لا يؤمن بها، بل هو تماماً في الخندق المضاد. 

منشور الشاب الأخير الذي تم تناقله وأثار ضجة يقول فيه وبلغته: أحقر شي بالدنيا أنو اللي متدافع عنن بيتخلو عنك. باعونا الضباط الكبار للأسف وتركونا نوقع بين أنياب الإرهاب. هايا آخر منشور إلي وبدي وصيكن وصية: لا تبيعو حالكن برخيص، خلو الضباط الكبار هي توقف عالجبهات. أنا هلق ناطر الموت. انبسطي يا أمي وانبسطي يا مرتي. (…) راح برخيص. وداعاً. ما يُلاحظ في المنشور غياب الشعارات الوطنية التي يستخدمها عادة الموالون، فهناك وضوح شديد ووعي لكون هذا القتال دفاع عن زمرة تضحّي بالصغار، مع وصية شديدة الوضوح لأمثاله بألا يهدروا دماءهم رخيصة. ومن يعرف الاستخدام المزدوج الدارج للغة يفهم بلا صعوبة أن مخاطبته أمه وزوجته طالباً منهما الفرح هي تعبير مقلوب عن قهره وإحساسه بفاجعتهما بموته.

الشاب المهندس قُتل وهو يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية ضمن قوات الأسد، وخلال سنوات لاقى الآلاف من أمثاله هذا المصير. كان بشار الأسد قد اعترف مؤخراً بمقتل 100 ألف مقاتل، ومع هول الرقم قد يبقى مخففاً جداً بالمقارنة مع تقديرات أعلى وغياب إحصائيات من جهة موثوقة. أي أن الشاب “موضوع الحديث” ومصيره تفصيل ضئيل جداً ضمن المقتلة السورية المستمرة عموماً، وضمن قوات الأسد أيضاً، وحتى كلماته الأخيرة كان يمكن أخذها بشكل عابر كدلالة على صحوة أخيرة لذلك الموالي المخدوع لولا الإرث العائلي الذي قد يشير إلى احتمال آخر.

قسم معتبر من النمط الشعبوي السائد في التعاطي مع قتلى قوات الأسد يقيم تمييزاً شبه معلن، تحديداً بين أولئك القتلى الذين كانوا يؤدون خدمتهم الإجبارية، فهُم موالون حكماً ومتحمسون للقتل إذا كانوا علويين، وينطبق هذا بدرجة أخف فيما إذا كانوا من منبت أقلوي آخر. لدى أصحاب هذا التفكير يُستذكر الإلزام والإجبار غالباً عندما يكون القتلى من خارج الأقليات، وقد لا يسلم بعضهم من الازدراء، هذه المرة مع الاتهام بالخيانة الذي يحمل المدلول الطائفي. التشفي بقتلى الطرف الآخر حاضر على جميع الأطراف، فقتيلـ”نا” شهيد وقتيلـ”هم” “فاطس”، قتيلـ”نا” بطل وقتيلـ”هم” مجرم. 

الأمر بالطبع لا يتعلق بابتعاد بعض النعوت السابقة عن الإنسانية، ولا بالابتعاد عن الأخلاق الفروسية للحرب، إذ من المعهود في الصراعات الداخلية أو الحروب الأهلية أن تكون الأشد وحشية وابتعاداً عن أخلاقيات الحروب وقوانينها. المسألة هي في القفز فوق اعتبارات واقعية معقدة حكمت وتحكم الكثير من السوريين، وبما لا يتفق مع رغباتهم أو آرائهم في الكثير من الأحيان، أو حتى أجبرتهم على ليّ قناعاتهم في أحيان أخرى. في واقع الاستقطاب الذي أحدثته الثورة، ومن ثم الصراع العسكري الذي تغيرت معطياته وتحول فيه السوريون إلى أدوات لقوى الخارج، هناك كتلة ضخمة من السوريين الذين فقدوا ترف المضي وفق قناعاتهم، وغالبيتهم لم يُتح لهم في أي وقت سوى المفاضلة بين ما يرونه الأسوأ والأقل سوءاً على صعيد أمنهم الشخصي المباشر.

في ما يتصل بموضوع الخدمة الإجبارية، لم يُتح لكافة الشبان المطلوبين للخدمة التهرب منها ضمن مناطق سيطرة الأسد، أو الهرب منها إلى خارج مناطق سيطرته أو إلى خارج البلد، وهناك ضمن العائلة الواحدة من أتيحت له فرصة الهرب بينما لم تتح لأخيه. موضوع التهرب من الخدمة لا يدخل كله في باب الموقف السياسي فحسب، إذ هناك شريحة واسعة “بصرف النظر عن ميولها السياسية” لا تريد القتال، ولا يريد أصحابها لا أن يكونوا مقتولين ولا قتلة. 

بعيداً عن مزاد الشعارات والشعارات المضادة، نحن لا نملك معطيات دقيقة وموثوقة عن حوافز القتال لدى المساقين قسراً إليه ضمن خدمتهم الإلزامية، ولا نملك أيضاً معطيات عن حوافز القتال لدى مقاتلي العديد من الفصائل بعدما توقف عملياً القتال من أجل إسقاط الأسد. في أوسع دراسة أُجريت على الجنود إثر الحرب العالمية الثانية تبين أن أهم محرك لهم ضمن المعارك هو الخوف من الموت، وحيث يختلط في لحظة المواجهة الخوفُ من قتل الخصم والخوفُ من أن يبادر هو إلى القتل. أيضاً في فيلم سوفيتي عن الحرب ذاتها، يسأل الضابط جندياً عن مأثرته في تفجير ثلاث دبابات ألمانية مهاجمة فيجيب الجندي ببساطة: كنت خائفاً يا سيدي. الإجابة التي لم تعجب الضابط الكبير فردّ مستدركاً ارتباكه منها: هذه طريقة جيدة للخوف.

واحد من المفاهيم التي يجدر بنا إعادة الاعتبار إليها هو مفهوم الضحية، ومن المستغرب ألا يأخذ حيزه المستحق رغم أنه الأكثر شمولاً ودقة. هذا المفهوم لا يجرّد أصحاب إنجازات من مآثرهم، لكنه يعيدنا إلى الأصل حيث لم تنطلق الثورة من أجل تسجيل بطولات، وكانت أمنية المشاركين فيها ألا تُهدر نقطة دم سورية. باستثناء الأسد وبنيته العسكرية والمخابراتية الأساسية، وأولئك الذين تطوعوا كشبيحة للدفاع عنه، كل الذين قُتلوا من دون أن يكون لهم خيار آخر هم ضحايا، وكل الذين اضطروا إلى اللجوء أو إلى أي خيار لا ينبع من قناعاتهم هم ضحايا. المجرم الذي تسبب بالمقتلة على كافة جوانبها هو واحد، وتجريم صغار لم يكن لهم أي خيار لا يفيد بشيء سوى تبرئة ذلك المجرم من دمهم، فوق أنه يجرّد السوريين من القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع غالبيتهم الآن وفي الأمد المنظور، أي كونهم ضحايا. 

المصدر: المدن

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here